«لوفر» أبوظبي آيةٌ معماريةٌ ومتَّصلٌ إنساني

«لوفر» أبوظبي آيةٌ معماريةٌ ومتَّصلٌ إنساني

متحف اللوفر في أبوظبي كتاب بديع تحكي فصوله تاريخ العالم، لكن بعيون الفن. فمن يزُر «لوفر الصحراء» إنما يدخل في رحلة عبر  الزمن ليلج فيها عوالم وآفاقاً حضارية متباينة، وقد تكون متباعدة أفقياً في الجغرافيا وعمودياً في التاريخ، بيد أنه سيكتشف بعد تجواله في أروقة المتحف أصالة الجوهر  الإنساني المشترك الذي وجد تعبيرات مختلفة وأخذ صيغاً متنوعة.
إن الإنسان هو الإنسان في كل زمـــان ومكان. وتلك هي رسالــــة المتحف؛ رســـالة تــــشكّل قيمتا التسامح والانفتاح أساساً لها ومنطلقاً. 

في طريقنا إلى جــــزيرة السعديات في العاصمة الإماراتيــــة أبوظــــبي تلــــوح لــــنا من أعلى جسر «الشيخ خليفة» الواصل إلى الجزيرة قــبة شاسعة تبدو كما لو أنها تطفو على الماء، قبة مرصعة بنجوم ضوء الشمس تضيء ممرات وأروقة وقاعات منفصلة ومتصلة في الوقت ذاته، قبة ذات لون فضي داكن يتماهى انعكاس ضوء الشمس عليها مع انعكاس أشعتها على صفحة البحر الساكن والهادئ.
قبة ضخمة تتراءى للناظر إليها على أهداب الشاطئ الرملي وكأنها جزيرة تسكن أطراف جزيرة، هي قبة بلا عُمد تراها العين، إنها قبة متحف «لوفر أبوظبي» موطن الفن والجمال وحيث الفخامة الباريسية والبساطة الصحراوية.

افتتاح طال انتظاره 
افتتح «لوفر أبوظبي» في نوفمبر 2017، بعد تحضير وبناء دام نحو عشر سنوات. افتتاح ضخم يتناسب وحجم المتحف وقيمته من بين المتاحف في العالم، فهو أول متحف عالمي في العالم العربي، وحضر الافتتاح لفيف من رؤساء الدول وكبار الشخصيات من مختلف أنحاء العالم، ومنهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والعاهل المغربي محمد السادس، والرئيس الأفغاني أشرف غني، وغيرهم، وكان في استقبالهم ولي عهد أبوظبي، رئيس المجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وحاكم إمارة دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم. 
وفي حفل الافتتاح ألقيت كلمات تمحورت حول ما يمثله المتحف من قيمة إنسانية، وقد عبّر الشيخ محمد بن زايد عن سعادته لكون المتحف يعتبر علامة فارقة في مسار العلاقات المتميزة بين الإمارات وفرنسا، بل وعلى دوره في تحقيق التقارب والتفاهم بين الشعوب، وقال: «إن المتحف لا يكتسب أهميته في إطار العلاقات الإماراتية الفرنسية فحسب، وإنما تمتد دلالته ومعانيه باعتباره جسراً ثقافياً بين الحضارات والشعوب، ورسالتنا هي أن الثقافة كانت ومازالت جسراً للتواصل والتعارف والحوار بين الشعوب والحضارات، وليست مصدراً للصدام والصراع».
بينما أكد الرئيس الفرنسي أهمية المتحف، واصفاً إياه بملتقى العالَمين الغربي والشرقي، وبأنه يعني الكثير لفرنسا، مشدداً على أن «أولئك الذين يدّعون أن الإسلام يسعى إلى تدمير الديانات الأخرى كاذبون».

شراكة تمتد لـ 30 عاماً
المتحف عبارة عن شراكة فريدة من نوعها بين فرنسا ودولة الإمارات، حيث وقّع الطرفان في مارس 2007 على اتفاقية تقضي بالسماح لدولة الإمارات باستخدام اسم «اللوفر» مدة ثلاثين عاماً، وتنص على التزام 16 متحفاً فرنسياً بالمشاركة والتعاون مع «لوفر أبوظبي»، عبر إعارة بعض التحف والمقتنيات الفنية فترة قد تصل إلى عشر سنوات، فضلاً عن تقديم المشورة والتدريب ونقل الخبرات في مجالات الهندسة المعمارية والمعاونة في إدارة المتحف وتنسيق مقتنياته، بل والمساهمة في تنظيم المعارض المؤقتة؛ غير أن المهمة الكبرى تتمثل في إعداد وتكوين المجموعة الخاصة والدائمة بالمتحف.
ومن المتاحف المتضمنة في الاتفاق، بالطبع إلى جانب «لوفر باريس»، متحف أورسيه، ومتحف برانلي، والمكتبة الوطنية الفرنسية، ومتحف رودين، وقصر فرساي، واتحاد المتاحف الوطنية وغيرها.
وقد تمخّض عن الاتفاقية إنشاء وكالة متاحف فرنسا لمتابعة تنفيذ بنود الاتفاقية والإشراف على تأسيس «لوفر أبوظبي». بدأ العمل إذن؛ وبدأ التفكير في التصميم المعماري للمتحف؛ هل يكون نسخة من «لوفر باريس»، أم أن صحراء الجزيرة سيكون لها نصيب في تشكيله وأسلوب بنائه؟ 
وهل يستقيم أن يبــــنى متحـــــف فـــــي فضاء جغرافي له خصوصيــــته وإطــــاره الحضاري من دون أن يُطبَع بطابـــــعه ويكـــــون بذلك مقطوع الصلة بالمكان، بالحاضن الجغـــرافي؟ تلك أسئلة وتحديات ستواجه المصمـــم المعماري جان نوفــــــيل، الذي عُهدت إليه مهمـــــة تصمــــيم مبنى المتحف.

نوفيل والإبداع المعماري
يعتبر جان نوفيل اسماً كبيراً في عالم المعمار المعاصر، إذ قدّم عدداً كبيراً من الإبداعات المعمارية في أنحاء مختلفة من العالم؛ منها متحف غوثري في مينيابوليس، وبرج الدوحة، ومتحف قطر الوطني، ومتحف برانلي، ومعهد العالم العربي في فرنسا.
وقد حاز نوفيل عدداً من الجوائز العالمية، على رأسها جائزة الأغا خان عن تصميمه معهد العالم العربي سنة 1978، ووسام الاستحقاق الوطني سنة 2006، إضافة إلى جائزة بريتزكر سنة 2008.
المصمم نوفيل، المولود في إحدى قرى الريف الفرنسي عام 1945، ليس من المعماريين الذين يصممون مشاريعهم استناداً إلى خيال منقطع الصلة عن الواقع والسياق الجغرافي والمناخي والتاريخي والثقافي، وإنما تقوم مشاريعه على الدمج بين الخيال الإبداعي المنطلق، 
لكنه - مع ذلك - شديد الاتصال بالفضاء المحلي. وهكذا جاء تصميم «لوفر أبوظبي» خليطاً من البناء الحداثي الجامع بين المدينة العربية القديمة في أزقتها وطرقاتها وأبنيتها، واللمسة المعمارية المعاصرة.
يستند نوفيل إلى رؤية تنطلق من السياق، إن صح التعبير، وتروم ربط البناء بمحيطه العربي، وتتجه إلى غايات عميقة أبرزها محاربة التعصب وتعزيز الشعور بالانتماء إلى الإنسان. إنها رؤية ذات أبعاد متعددة؛ بُعد روحي وأممي وإنساني وحضاري.
ومما أعان نوفيل على تحقيق رؤيته، الطبيعة المناخية والجغرافية البكر لجزيرة السعديات، إذ يقول: «حين وصلت إلى موقع اللوفر كان هناك فقط البحر والسماء ورمال الصحراء، أعتقد أن الالتقاء بهذه العناصر ينتج عنه شيء كوني».
ويرى نوفيل أهمية المتحف في لحظتنا التاريخية الراهنة، إذ «من المهم النظر إلى ما يحدث في الثقافات الأخرى، أظن أن من المهم أن نتأمل الآخر بإعجاب، وأن نتأمله عبر التاريخ لنصل إلى نتيجة مفادها أن الحقيقة إنما هي حقائق متعددة، وروعة المتاحف تكمن في كشفها عن هذا الجانب، ولوفر أبوظبي هو متحف للقاء». 

بياض يعمّ المكان
ها قد اقتربنا من المتحف وبدأت تفاصيله تتجلى، تلك التفاصيل التي دارت مرات ومرات في ذهن نوفيل، قبل أن ينقلها إلى أرض الواقع. توقفت بنا الحافلة عند مواقف المتحف، فخرجنا منها على عجل واستقبلتنا حديقة المتحف الجميلة المطلة على البحر، وعلى أطرافها ممر لممارسة رياضة المشي، وكانت في الممشى امرأة أنيقة تتأمل القبة بثياب جميلة تتماشى ألوانها مع ألوان المكان، بدت مسرحة الطرف إلى المتحف فندت عنها تنهيدة تعبّر عن سكون وارتياح، محدثةً نفسها بصوت خفيض: إنه حقاً رائع... رائع. 
البياض يعم أرجاء المكان، وكان ثمة مستطيل حديدي أبيض وطويل، يعبر فيه زوار المتحف، فهو بمنزلة ممر، وتصميمه، بالرغم من حداثيته، يذكّر بالرواق القديم. عبرنا من خلاله الحديقة ليفضي بنا إلى مستطيل آخر أقصر من سابقه يتربع على جسر قصير فوق الماء يصل بالمتحف. كان المدخل يغصّ بالزائرين من عشاق الفن والجمال، وقد انتظم الناس في صف طويل للحصول على تذكرة الدخول، فدنا منّا شاب إماراتي بلباس شعبي مهندم يعمل في المتحف مقترحاً الدخول على الموقع الإلكتروني للمتحف وشراء التذاكر اختصاراً للوقت، وتجاوزاً للانتظار الطويل، فأخذنا بنصيحته القيّمة، حيث لم يأخذ منّا شراء التذاكر إلكترونياً سوى بضع دقائق، ليرسل إلى البريد الإلكتروني تذكرة تحمل رمز الدخول الذي يتم تمريره بالجهاز عند مدخل القاعات.
في بهو المتحف يوجد موقع الاستقبال والاستعلامات ومكان مخصص لتسليم أشياء الزوار غير المسموح بدخولها إلى أجنحة المتحف، إضافة إلى المتجر المنفتح على المخرج، فآثرنا زيارته في نهاية تجوالنا. وفي أقصى البهو هناك لوحات زرقاء متشابهة تتخللها خيوط من اللون الأبيض.
 
مقتنيات فريدة
يحتضن «لوفر أبوظبي» أكثر من 600 قطعة فنية خاصة بمجموعة المتحف، إلى جانب قطع أخرى مُعارة من المتاحف الفرنسية، موزعة على قاعاته الاثنتي عشرة. ولأن المتحف يعبّر عن حضارات الإنسان منذ القدم، فقد جاء ترتيب القاعات على أساس التسلسل الزمني والتاريخي، مع اهتمام بالتبويب الموضوعي أيضاً. 
منظور جديد للتاريخ ومفهوم فريد للمتاحف فهو ليس مختصاً بحضارة بعينها، بل يجمع تاريخ العالم وحضاراته في متصل واحد عميق يضرب بجذوره إلى أعماق الذات الإنسانية، ليصل ما انقطع أو ما خُيل إلينا أنه انقطع تحت وقع جنون التعصب الذي ينتشر في العالم عنصرياً كان أم دينياً، أو حتى نوعياً (جندرياً)، فالفن والجمال خير رابط وأفضل منبع لقيم التسامح والتواصل بين الشعوب والحضارات.
في المتحف قطع فنية فريدة ليست مقصورة على حضارة ولا محدودة بحدود جغرافية، فهو يحطّم حدود الجغرافيا ليجمع العالم تحت قبته الفارعة. وسيخبُر الزائر لـ «لوفر أبوظبي» تجربة كونية أممية عالمية وشاملة تعبر أفقية الجغرافيا، كما سيفتتن بالشعور برهبة الماضي عبر عمودية التاريخ، من عصر إلى آخر ومن فضاء حضاري وجغرافي إلى غيره. 
لن تشعر بالوقت، وربما لن يسعفك لتأمل كل موجوداته إذا كنت ممن يكررون النظرة تلو الأخرى على لوحة واحدة فقط، لاكتشاف أسرارها وربما سياقها التاريخي والثقافي، بل والذاتي، إن زيارة واحدة لن تكفي.

أسلوب جديد
قبل أن تدخل القاعة الأولى سوف تمر بردهة بيضاء مرسومة على أرضيتها خريطة العالم، وتتخذ أسلوباً جديداً في عرض التحف الفنية، إذ توضع في عارضات زجاجية تمكّن الزائر من النظر إليها من كل الزوايا وفي جميع الاتجاهات. صممت القاعات بكيفية تُسلمك كل قاعة إلى أخرى بانسيابية ويُسر، لكنها تشبه، مع ذلك، لعبة المتاهة. 
وجاء ترتيب قاعات المتحف على النحو التالي: قاعة العرض الأولى (القرى الأولى)، قاعة العرض الثانية (القوى العظمى الأولى)، قاعة العرض الثالثة (الحضارات والإمبراطوريات)، قاعة العرض الرابعة (الأديان العالمية)، قاعة العرض الخامسة (طرق التبادل التجاري الآسيوية)، قاعة العرض السادسة (من المتوسط إلى الأطلسي)، قاعة العرض السابعة (العالم من منظور جديد)، قاعة العرض الثامنة (في بلاط الأمراء)، قاعة العرض التاسعة (أسلوب جديد في العيش)، قاعة العرض العاشرة (عالَم حديث)، قاعة العرض الحادية عشرة (الحداثة موضع تساؤل)، قاعة العرض الثانية عشرة (منبر عالمي).

دهشة وتأمّل
في ردهات المتحف، عيون متسعة دهشة وأخرى تضيق متأملة وهي تنظر في اللوحات الفنية البديعة. نسير بين جموع الناس وكلهم في شغل عن بعضهم في تتبّع الآثار الفنية وأيديهم ترتفع بالهواتف المحمولة الذكية لتخليد الذكرى، بعض الرؤوس تدور من زحمة البهاء المتناثر، أما الأعين فتتحول من مشهد إلى آخر لتستقر حيناً على لوحة أو تمثال أو وثيقة أو لباس أو أي أثر فني من محتويات المتحف.
ومن الآثار النادرة التي تميّز المتحف تمثال «أبوالهول اليوناني» المصنوع من الحجر الجيري، حيث يعود تاريخه إلى القرن السادس قبل الميلاد، والمجموعة الجنائزية الفرعونية العائدة إلى الأميرة حنوت تاوي، ورأس حكيم الإغريق سقراط، وكذلك رأس بوذا وتمثال أثينا وتمثال أميرة باختريا من آسيا الوسطى. كما يتضمن المتحف لوحات فنية رسمها أشهر فناني العالم؛ منها لوحات لليوناردو دافنشي وجوفاني باليني وبول سيزان وأوغست رودان وغيرهم. 
ويضم كذلك روائع الفن التشكيلي الحديث والمعاصر. وقد لفتت أنظارنا نافورة الضوء للفنان آي ويوي لبهائها الباذخ، وكذلك لوحة غريبة لفنانة سعودية تدعى مها الملوح، عبارة عن مجموعة من القدور المستخدمة لطهي لحم الماعز التقليدي، كانت القدور مسودة بفعل الطهي على النار، وقد اختارت الملوح (غذاء الفكر - المعلقات) عنواناً لعملها الغرائبي. 

أمطار النور تحت القبة
عندما تنتهي بك القاعات ستجد نفسك تحت القبة مباشرة، في ساحة المتحف وأروقته الداخلية المفتوحة من الجوانب على الفضاء الخارجي، فيتراءى الضوء شديداً في نهايات الممرات، في حين يبدو الوقوف في منتصف القبة كما لو كانت تظللك غيمة معتمة، إلا أن أمطارها تملأ المكان والأرضيات بوابل من تشكيلات ضوئية ترتسم على الأرضيات، تشكيلات ضوئية أشبه بالتشكيلات الضوئية المنبثقة عن سعف النخيل الذي كان يستخدم في تسقيف البيوت العربية قديماً.
يخترق الماء الأرصفة البيضاء في ساحة المتحف الداخلية مشكّلاً بركاً متناغمة، وبالإمكان الجلوس على مقربة منها، بل والتصوير عندها، نظراً إلى الانعكاس الجميل للقبة على سطحها، كان الانعكاس دقيقاً وحاداً لدرجة يصعب التمييز في الصورة الملتقطة بين القبة في الأعلى وخيالها المنعكس على الماء... صورة بديعة تجبرك على الوقوف والتأمل ويأخذك سحرها إلى عالم آخر.
في الساحة الداخلية تُعرض أعمال فنية بديعة أنجزها الفنان الإيطالي جوسيبي بينوني بتكليف من إدارة المتحف، وبينوني هذا من أصغر فناني حركة آرتي بوفيرا الفنية، ومن تلك الأعمال شجرة ترتفع عالياً مصنوعة من البرونز، يطلق عليها اسم «أوراق النور»، كما نجد جدارية حجرية للفنانة الأمريكية جيني هولزر نُحتت عليها نصوص مستوحاة من لغات بلاد الرافدين مكتوبة بالخط المسماري، ونفذت هولزر جداريتين أخريين للمتحف؛ في إحداها نص من مخطوط لمقدمة ابن خلدون، أما الأخرى فنصوص مدعمة بالشرح للفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين. 
انعطفنا إلى اليسار، فصرنا في طريق ينتهي أمام مقهى المتحف يسمى «البلازا»، وبجانبه مدرج يلتقي بالماء، فجلسنا لنلتقط أنفاسنا، ولنأخذ قسطاً من الراحة نستعين به على مواصلة التجوال.

رهبة الجمال
أجبرتنا رهبة الجمال على التأمل للحظات ولحظات، إذ يتلبس الفن المتحف بدءاً من حديقته وطرقه المؤدية إليه، مروراً ببنائه ومرافقه وتكويناته المعمارية، ووصولاً إلى مقتنياته الفريدة ذات القيمة التي لا تقدّر بثمن. وعند المدرج الذي يعانق المياه سرحنا الطرف في الخطوط الأفقية المتتابعة بأفق السماء وخط القبة وانعكاسها.
إن مبنى المتحف عبارة عن مكعبات خرسانية بيضاء يبلغ عددها 55 مبنى، تتوزع من تحت القبة الفضية الداكنة على نحو عشوائي وفني في آن، ومن بين هذه المكعبات، وبسبب عشوائيتها، تتشكل ممرات صغيرة ودهاليز بيضاء منفتحة على ساحات واسعة تمطرها الشمس بأشعتها التي تبدو كأنها خيوط من النور ساقطة عبر فتحات القبة وتحيط المياه المتحف من كل الجهات، بل وتدخل المبنى من كل جانب.
بناء يتمثل المدينة العربية القديمة، ويستلهم الهندسة المعمارية العربية، فالقبة هي إحدى السمات التي تميز المعمار الإسلامي منذ القدم، وأكثر من ذلك فإنها - أي القبة - مكونة من تكرار للشكل النجمي الشهير في عدد يصل إلى 7850 نجماً بأحجام مختلفة وزوايا متعارضة ومتراكمة في طبقات ثماني.
وتزن القبة 7500 طن، هو بالمناسبة نفس وزن برج إيفل الباريسي، وتدعمها أربعة أرصفة متداخلة في بنيان المتحف ليعطيها الشكل العائم، في حين يبلغ قطر قاعدتها 180 متراً.
لبناء المتحف البديع بُعد آخر غير البعد الجمالي، فالغايات البيئية لم تكن لتغيب عن جان نوفيل عند تصميمه المتحف، حيث يتيح البناء ظلاً من القبة ومن التظليل الذاتي للمكعبات الخرسانية ليوفر أجواء مريحة للزوار، ومن ثم التخفيف من استهلاك الطاقة، نظراً إلى منافذ التهوية المحسنة. كما توجد مراسٍ للقوارب مصطفة بعشوائية فنية متقنة في المياه التي تسكن البناء أو يسكنها البناء. لقد كانت غاية المصمم المعماري نوفيل إيجاد حي ثقافي ومساحة للفن، وجاء تصميمه منسجماً مع غايته، حيث استلهم من العناصر الفنية الشرقية التي منها المشربيات روح بنائه الحداثي.
يقول نوفيل: «أردتُ أن يكون هذا المبنى على صورة أراض محمية تخصّ العالم العربي هذه الجغرافيا، ما أوده هو تكييف المواضيع الأبدية للهندسة المعمارية لتحريف مسارها وإعادة تفسيرها من خلال نهج جديد».

«من لوفر إلى آخر»
رحنا نتمعن في المكان وسكونه وأضوائه اللامعة؛ فكلما غيّرت الشمس موقعها تحوّل اتجاه أشعتها التي تمطر ساحة المتحف عبر فراغات القبة الفارهة، فأضحت الساحة وكأنها جوهرة كريستالية تتلألأ جمالاً. ولم يخرجنا من سكوننا إلا صرخات ضاحكة لطفلين يلهوان بأقدامهما في بقع الضوء، فانتبهنا وهممنا بمواصلة المسير، فرجعنا إلى منتصف الساحة، حيث يوجد جناح خاص بالمعارض المؤقتة التي يستقبلها المتحف، وكان آنذاك يستضيف معرضاً تحت عنوان «من لوفر إلى آخر»، يحكي قصة نشأة «اللوفر» في باريس، ويحتضن 150 قطعة نادرة من المجموعة الأولى لقصر فرساي ولوفر باريس، تجمع بين اللوحة والتحفة والأثاث. 
ولما خرجنا من جناح المعارض المؤقتة، انعطفنا يساراً وتجاوزنا شجرة «أوراق النور» البرونزية، فكنّا عند دهليز يفضي إلى متحف الأطفال وساحة المسرح التي تحوي مسرحاً يقابله مطعم.
كان متحف الأطفال صغيراً، ويهدف عبر برامجه الدورية إلى تنمية الروح الإبداعية لدى الطفل. أوشكت الرحلة على النهاية أو هكذا ظننا، بعد أن قضينا وقتاً ممتعاً في أرجاء المتحف، وصولاً إلى المتجر المؤدي إلى المخرج. كانت الشمس تشارف على الغروب، مضينا إلى الخارج عازمين على المغادرة، فإذا بأجواء فنية ساحرة تستوقفنا في حديقة المتحف، إذ كانت أصوات الطبول والموسيقى تملأ المكان، إنها فرقة شعبية تؤدي رقصات شعبية؛ صف من رجال يقفون بشكل متسق ومنضبط ويقف أمامهم صف آخر، يمسكون بأيديهم بعض العِصيّ النحيفة (خيزران)، ويحنون الجزء العلوي من أجسامهم إلى الأمام برؤوس تتمايل من أسفل إلى أعلى متناغمة مع حركة العصي في اليد، ومنسجمة مع النغم والإيقاع. تجمّع الزائرون حول الفرقة، وبدأ السيّاح الأجانب بالتمايل وتقليد الرقصة الشعبية. 
والحق أن دور «لوفر أبوظبي» لا يقتصر على استعراض قطع وأعمال فنية، بل يمتد إلى ممارسة دور حضاري عبْر أنشطة تستمر على مدار العام، مقصودها تحقيق الرسالة الحضارية التي يضطلع بها المتحف، ومحورها التسامح والانفتاح.
ربما لم يسعفنا الوصف، نُقر بذلك، لكننا حاولنا قدر الإمكان نقل مشاهداتنا للعناصر الجمالية في «لوفر أبوظبي».
وقد قيل: كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، وكذا الجمال تعجز الكلمات عن وصفه كلما طغى وتجبّر، فللجمال سطوة وجبروت، لا يناسبهما في بعض الأحيان سوى التأمل والسكوت، وهذه كانت حالنا عندما كنا نتنقل من عالم فني إلى آخر من عوالم «لوفر أبوظبي»■

يحيط ماء البحر المتحف من كل جانب مشكلاً لوحة فنية بديعة

مدخل المتحف يزدحم بالزوار من كل أنحاء العالم

«كو - لاب الفن المعاصر والمهارات الحرفية» إحدى مبادرات البرنامج الثقافي الإماراتي - الفرنسي تعمل على إحياء حرف تاريخية هي السيراميك والتطريز والزجاج والنسيج

إحدى ساحات المتحف تكشف عن جمال القبة وضخامتها

من مقتنيات المتحف