مجلة العربي مشروع ثقافي ناجح

مجلة العربي  مشروع ثقافي ناجح

لعل القارئ العربي المتتبع للمشهد الثقافي والمواظب على مواكبة الجديد في مجال الكتابة والإبداع، لا يمكن، بحال من الأحوال، أن يغفل عمّا للمجلات الثقافية العربية من دور كبير في خدمة الفكر والمعرفة. ذلك أن الكتاب لم يكن ليستحوذ على المجال المعرفي وحده؛ وإنما برزت إلى جانبه وسائل تثقيفية أخرى تراهن على تجديد الفكر وتنويع مجالاته.

يتعلق الأمر بظهور المجلات الثقافية هنا وهناك، في مختلف التخصصات الممكنة. فثمة المجلات العلمية والأدبية والفنية وغيرها كثير. غير أن أمر التخصص لم يكن عائقاً أمام إحداث مجلات ثقافية أخرى تتوجه إلى فئة عريضة من القراء غير المتخصصين. وهو أمر محمود، باعتبار أن أصحاب هذه المجلات يراهنون على تكريس فعل القراءة والحرص على نشر المعرفة أولاً وأخيراً.  
وتعتبر مجلة العربي الصادرة عن وزارة الإعلام بدولة الكويت إحدى هذه المبادرات الفارقة في مشهدنا الثقافي العربي، وهي مجلة راهنت، منذ ستة عقود، أي منذ تأسيسها في شهر ديسمبر 1958، على أن تكون مجلة تخص جميع شرائح المجتمع، مجلة متنوعة موجهة للإنسان العربي، من المحيط إلى الخليج، بما تحمله كلمة «العربي» من معنى. 
ولا غرابة في أن تكون تلك العبارة الواصفة على أول صفحة بالمجلة، عبارة دالة وجامعة مانعة، بتعبير المناطقة، حيث جاء فيها: «العربي مجلة شهرية ثقافية مصورة يكتبها عرب ليقرأها كل العرب».
وفي ذلك إشارة قوية إلى البعد القومي العربي من جهة، وإلى البعد الثقافي المتنوع من جهة ثانية. تحافظ على عهودها وتجدد دماءها بما توافر لها من إمكانات وطاقات مبدعة. 
هكذا كان لانتظام صدور مجلة العربي منذ أول عدد ما يضمن للقارئ العربي، الحقيقي منه والمفترض، مساحات كبرى للقراءة والتأمل والتدبر والتحليل والمساءلة. تصله في الوقت المناسب وتدفعه إلى التفاعل الإيجابي مع موادها.
ولأن «العربي» تتبنى فكرة التنوع والأخذ من كل فن طرفاً أو طرباً، فإن ما تقدمه يشكّل مائدة دسمة للتثقيف والترويح عن النفس، ليس فقط على مستوى المقروء فحسب؛ وإنما على مستوى الصور والاستطلاعات والتقارير. أما ثمنها الرمزي والمغري، بالنظر إلى موادها الكثيرة والمتنوعة، فيغري فعلاً بالاقتناء والاقتداء.  
أذكر شخصياً، حين تيسّر لي قراءة بعض أعدادها، خلال فترة الدراسة الثانوية والجامعية، أنني أحسست أن في موادها المتنوعة ما يلبي حاجياتي الثقافية والوجدانية. وكان مما يشدني إليها طريقة توليف موادها بين لغة وفكر وإبداع وطرائف وألغاز وصور وغيرها.
كنت أقرأ من موادها ما يلائم حاجياتي واهتمامي. ومن ثمة، كنت أفيد من مقروئها وأتشرب ما يعلق بذهني من أفكار كتّابها ومبدعيها. وكثيراً ما تسربت بعض تلك القراءات إلى بعض كتاباتي، على سبيل الاستشهاد أو الإعجاب. ومع توالي الأيام والشهور والسنوات تأكد لي بالملموس مدى جدية المجلة ورسوخها في ذاكرة المتلقي العربي.
وهي جدية لم تكن لتبرز لولا جدية رؤساء تحريرها وكتّابها ممن آمنوا بفكر المجلة وخطّ تحريرها العربي، حيث التنوع والتعدد الفكري والفني، على حد سواء.
والأكيد أن صدور العدد الأول لمجلة العربي عام 1958، لم يكن حدثاً عادياً أو عابراً، فقد شكّل مناسبة مهمة، ولبنة ثقافية ومعرفية كانت الأمة العربية في حاجة إليها. حاجة إلى من يوحد رؤيتها الثقافية ويجمع شملها، في كثير من الجوانب، لعل الجانب الثقافي والفني من أبرزها. 
لقد نجحت مجلة العربي في طرح صيغة جديدة لمعنى «المجلة الثقافية». ويكفي أن نلقي نظرة خاطفة على فهارس أعداد المجلة، القديمة منها والجديدة، لنلحظ الحرص الشديد على تنوع الأبواب، والزوايا، والأعمدة، والملفات والمحاور وغيرها، مما يلبي ذائقة أكبر عدد ممكن من القراء. 
يجد القارئ في استطلاعات المجلة المدعمة بالصور والوثائق والرسومات والبيانات وما إليها، بحسب المجال وطبيعته، مساحة كبرى للسفر في مقترحاتها واختيارات أصحابها. كما يجد في ملفاتها المتنوعة، من حين لآخر، ما يدفعه إلى النهل من معينها الفكري والتربوي. 
هذا الأفق الثقافي والمعرفي لمجلة العربي، جعل مشروعها الثقافي ناجحاً بامتياز. ويكفي أن نستحضر جزءاً آخر من هذا المشروع التنويري الناجح، يتمثل في أنها لم تقتصر على العناية بالكبار من القراء؛ بل امتد طموحها إلى مخاطبة القارئ الصغير، من خلال تخصيص مجلة موازية للمجلة الأم، أطلقت عليها اسم مجلة «العربي الصغير». وهي مجلة لا تقل جمالية عن الأولى، على مستوى الإخراج الفني. وقد تتلمذ على يدها عدد من القراء الصغار وأفاد من ذخائرها التعليمية والتثقيفية عدد من الآباء والمربين والمعلمين. بهذا المعنى، تشكّل مجلة العربي مرجعاً ومدرسة في الإعلام الثقافي، بالنظر إلى ما تحمله موادها من معارف أدبية وعلمية وتاريخية.
إجمالاً، نستطيع القول إن مسار مجلة العربي الطويل والمديد، قد بوأها مكانة مهمة بين المجلات العربية الأخرى. وهي مكانة مقرونة برؤية أسرة التحرير التي تراهن دوماً على التجديد والتجدد. كما أن تعدد وظائفها الثقافية مكّنها من أن تتبوأ مكانة مرموقة، نذكر من بينها حفظ الذاكرة العربية وتجميع القراء، بمختلف مستوياتهم وأعمارهم، على كلمة سواء، والمساهمة في إغناء المكتبة العربية، من خلال ما تنشره من أعمال أدبية وفكرية وإبداعية وفنية متنوعة، لكتّاب عرب، تصدرها تارة مستقلة، وتارة أخرى إلى جانب المجلة الأم، دعما للقراءة والمساهمة في ترويج الكتاب. 
بعبارة أخرى، مجلة العربي تجمعت فيها من الميزات ما تفرّق في غيرها. مجلةٌ، ليس من قبيل المبالغة أن نقول إنها تشكّل رمزاً عربياً وثقافياً بامتياز. 
نرجو لمجلة العربي كل النجاح في مشروعها الثقافي الواسع، وأن تواصل استمرارها في خدمة القارئ العربي.
كل عام وأسرة مجلة العربي وقراؤها، أينما وجدوا، بخير وسلام■