الغابة
على شاطئ البحر؛ كافيتريا منعزلة، قوائم خشبية بلا جدران، سقف من جذوع النخيل، مناضد من البامبو، مجموعة من الشابات والشبان تتراوح أعمارهم بين العشرين والخامسة والثلاثين، بعضهم يشربون العصير الخاص بهم بتلذذ من خلال الماصة، وبعضهم يتحدثون بانهماك، أو يلعبون «الكوتشينة»، اثنان أو ثلاثة يسبحون في البحر، أغلبهم يتحلّقون حول ليلى.
شعرت ليلى برعشة خفيفة تسري في جسدها الضئيل، لم يلاحظها أحد، كما لم يلاحظوا القلق الذي اختبأ في ملامح وجهها الأسمر الطويل، ربما رفة الجفنين، أو الحركة غير المنتظمة لفتحتي الأنف، هو ما لاحظته صديقتها سلوى التي تعرفها جيداً.
لم تعرف لـيلى هل هي سعيدة لأن سلوى أفـشت سرها للمجموعة الذين لا تعرف معظمهم، في الحقيقة هي لا تعرف إلا سلوى التي شجعتها بالأمس على أن تشارك في يوم مَرِح مع أصدقاء من الأدباء والصحفيين في كافيتريا جديدة بمنطقة منعزلة بشاطئ أبي قير، كافيتريا ذات طابع إفريقي في بنائها ومشروباتها والعاملين فيها، (ستشاهدين شباباً بأجساد فتية شبه عراة يقدمون لك العصير والقهوة)، ضحكت سلوى وهي تشجعها على المشاركة والاستمتاع بيوم استثنائي، وكانت ليلى متلهفة للخروج من ضيق روتينها اليومي، كانت الأسابيع القليلة التي تفصل بينها وبين سن الأربعين توترها، زاد توترها عندما لاحظت أنها وسلوى أكبر أفراد المجموعة، يفصل بينهما وبين أصغرهم خمس سنوات على الأقل، لكنها تجاهلت هذه الملحوظة، واندمجت بسرعة مع المجموعة التي جاءت إلى هذا المكان لهدف واحد فقط (إلقاء الهموم في البحر)، كما عبّر أحدهم وهو يخلع ملابسه، ويجري إلى البحر يلقي نفسه فيه، ويدعو الآخرين أن يفعلوا مثله صائحاً: (سعيد الحظ من يخرج من البحر بغير هموم، والأسعد منه مَن لا يخرج أبداً).
كانت ليلى تشعر ببعض السعادة لأنهم تحلّقوا حولها بمجرد إخبار سلوى لهم بما تجيده صديقتها، فأخيراً تعود لتكون مركزاً لشيء ما، لكنها شعرت بقلق عظيم عندما تذكرت آخر مشاجرة بينها وبين زوجها بسبب هذا الموضوع، صرخ في وجهها: «أنا لم أتزوج غجرية تفتح المندل وتقرأ الكوتشينة وتنقّب عن الحظ»، لم تستطع أن ترد عليه، ألجمتها كلماته الغاضبة، ألجمتها أكثر نظرات الشماتة في عيون أمه وابنة خالته التي كانت تريد أن تتزوجه، «والله العظيم والله العظيم والله العظيم لو رأيتك تفعلين ذلك مرة أخرى لأطلقك».
كانوا يمدون أياديهم بفناجين القهوة الفارغة التي شربها بعضهم خصيصاً لتقرأ له ليلى من خلال بقايا الفنجان ملامح شخصيته، وأهم ما حدث له، وما سيحدث في أيامه القادمة، بينما كانت ليلى تنظر إلى سلوى بلومٍ خفي، لأنها كانت شاهدة على تهديد زوجها لها، وفي الوقت نفسه تبرر لنفسها ما ستفعله هذه المرة (هذه المرة فقط، هو قال لو رأيتك تفعلين ذلك، لم يقل لو فعلتِ ذلك، فكيف سيراني هنا؟).
برغم انشغالها في قراءة فناجين القهوة، وسعادتها التي بدأت تتصاعد لتصبح شعوراً عظيماً بالفخر لم تجربه منذ مدة طويلة عندما ترى ملامح الانبهار على وجوه من تقرأ لهم، فإنها لاحظت أن الشاب الذي كان يتمنى ألا يعود من البحر قد عاد، عاد ضاحكاً نشيطاً تتناثر مياه البحر المالحة من فوق جسده الضخم، يبدو أنه استطاع أن يُغرق أحزانه في البحر فعلاً.
غادرتها آخر فتاة قرأت فنجانها، وهي تشعر بالكراهية تجاه ليلى لأنها أخبرتها أن قصة الحب العنيفة التي تعيشها الآن لن تكتمل، لأن الطرف الآخر يعيش في الوقت نفسه قصتي حب أكثر عنفاً لن تكتملا أيضاً، لأنه متزوج عرفياً من ابنة جاره التي رفض أبوها زواجهما.
جفف الشاب جسده ببشكير أبيض كبير، ولفّه حول كتفيه وظهره، وربطه على بطنه، فأبرز صدره الكثيف الشعر أكثر، تقدم إليها حاملاً فنجانه، وفي عينيه نظرة سخرية وشت بها انفراجة خفيفة لشفته العليا التي تتحمل عبء شاربه الكثّ، ربما لم يلاحظ هذا سوى ليلى التي اتهمت نفسها بالمبالغة في الاهتمام بالتدقيق في تفاصيل هذا الشاب.
- (هو ليس فنجانك، لكنني أستطيع أن أقرأ شخصيتك من ملامحك، لكنك تبدو مغامراً، فهل تحب أن تجرب الذهاب إلى الغابة؟!).
كانت ليلى تتحدث إليه بقوة وثقة، وكانت رنة السخرية في كلامها واضحة، حتى أن الشاب شعر بسخونة في أذنه اليسرى التي تلتهب عادة عندما يشعر بالحرج، وحتى أن بعض أفراد المجموعة انتبهوا إلى المحادثة فبدأوا يقتربون منهما مرة أخرى.
كان الشاب قد أخذ فعلاً فنجاناً لا يخصه، فهو لا يشرب القهوة أصلاً، وهو لا يؤمن بكل ما تفعله ليلى، أراد أن يسخر منها فكشفته، فهل رأته وهو يأخذ الفنجان وأرادت أن تكسب درجة أخرى على حسابه فوق كل ما كسبته اليوم من إعجاب وانبهار ومحبة وكراهية؟
شعر الشاب أن ما تحمله كلمات ليلى من تحدٍ يفوق ما بها من سخرية، وبرغم أنه كان يرغب في الابتعاد فوراً، وأن يلقي بنفسه في البحر مرة أخرى، فإن تَحَلُق الآخرين حولهما جعله مضطراً لقبول ما عرضته عليه، وإن لم يفهم ما تقصده فعلاً.
- (لندخل الغابة... ما المشكلة؟)
حاول أن يحمل نبراته بأكبر قدر ممكن من الاستهانة ليذلّ ليلى، لكنه لم يستطع أن يمنع صوته من الارتعاش وهو يشعر أن قدميه بدأتا مسيرة صعبة في رمال متحركة لا يعرف إلى أين ستنتهي به، ردت إليه ليلى اللكمة بسرعة: (هل أنت واثق؟ إن كنت خائفاً فلا داعي للاستمرار، يمكنك التراجع)، كان يريد التراجع بالفعل، لكنه قال: (نعم! واثق... أين هي هذه الغابة؟)
- (بداخلك)
- (ماذا تعنين؟)
- (أغمض عينيك وستدخلها).
لم يكن إغماض العينين سهلاً، إنه ليس مجرد حركة انطباق الرموش على بعضها، ليس مجرد الحركة التلقائية المعتادة التي نفعلها حوالي 12 مرة في الدقيقة ولا نشعر بها، كان يعلم أن هذه الحركة الآن يمكن أن تنقله نقلة خطيرة لا يعرف مداها، ولا يعرف مدى استعداده لها، لكن العيون الكثيرة التي كانت تنظر إليه بترقّب، وعيون ليلى التي بدت له صقرية متوحشة؛ أجبرته على إغماض عينيه، بدأ ينزل برمشيه العلويين ببطء تمنى أن يدوم لساعات قبل التقائهما بالرمشين السفليين، لعلهم يملّوا وينصرفوا، لكن الرموش في النهاية التقت ببعضها البعض.
- (ماذا ترى؟).
- (لا شيء! مجرد ظلام).
- (انظر جيداً، أنت في غابة، صفها لي).
- (كيف أنظر جيداً وأنا مغمض العينين؟ هل أفتحهما؟).
لم يجرؤ على فتحهما من دون أن تأذن له، تمنى أن تضحك ليلى ساخرة وتطلب منه أن يفتح عينيه وينصرف، لكنها لم تفعل.
- (بداخلك عيون أخرى، عيون مغلقة لم تفتحها من زمن، ربما لم تفتحها أبداً، ربما لا تعرف أنها موجودة أصلاً، اكتشفها، افتحها، انظر أمامك، أنت الآن ترى الغابة، تقف على حدودها، خائفاً مرتعشاً، لكنك تتأملها، صفها لي).
لم يكن قد اكتشف أي عيون بعد، ولم يكن يرى سوى الظلام الذي يحيط به منذ أغمض عينيه، لكنه قرر أن يسخر منها لمرة أخيرة قد تنقذه.
(أشجار ملونة، طويلة حتى أن رؤوسها تخترق السحاب، طيورها تبني أعشاشها في السحاب فعلاً، الطيور كبيرة جداً، لكنها تبدو رقيقة، الطيور تغني وتتنقل بين أفرع الأشجار، تهتز الأفرع فتسقط منها ثمرات فاكهة ذهبية، مانجو وتفاح وخوخ وكيوي، لكنها كلها من الذهب...).
قاطعته: (لا تكذب، أنت لا ترى ذلك، تتمنى أن تراه، لكنك لا تراه بالفعل، أنت تقف على أطراف غابتك، لكنك لم ترها بعد، دقق فيها جيداً، دقق، انظر، صفها لي، صفها لي، صفها لي)، كان صوتها يزداد عمقاً وحنواً ويقترب أن يكون صوت زوجة عمه التي ربّته بعد وفاة والديه في حادث تصادم أتوبيس سياحي بالحنطور الذي كانا يتفسحان به على الكورنيش في عيد زواجهما الخامس.
(الأشجار سوداء، الرائحة تشبه النشادر، لكنها مركّزة لدرجة لا تطاق، الأشجار قصيرة، أنا أطول من معظمها، الأشجار جرداء بلا أغصان، أغصان قليلة ببعض الأشجار، لكنها بلا ثمار، بعض الثمار القليلة ملقاة على الأرض، لكنها تعفنت، رائحة عفنها أقوى من رائحة النشادر، أسير في الغابة متحسساً طريقي، أرى أمامي بصعوبة، لا أعرف مصدر الضوء الذي يريني كل ذلك، لا شمس هنا ولا قمر، تنبت للأشجار رؤوس، الرؤوس ملامحها شريرة، تضحك ضحكات تبدو صاخبة، لكنها بلا صوت، وهذا ما يرعبني أكثر، أغصان الأشجار تتحول إلى أيدٍ تحاول أن تمسك بي، أبتعد عنها بقدر ما أستطيع، الغصن الذي يلمسني يلسعني ويترك لوناً مكان اللسعة، في البعيد جداً بعمق الغابة أرى وجه زوجة عمي، الوجه الوحيد الطيب يبتسم لي، يداها تناديان عليّ أن اقترب، أجري إليها، أجري أسرع متجنباً اللسعات أو لا مبالياً بها عندما أرى بجوارها ابنتها، سوسن تبتسم لي، أنت تعرف أنني أحبك، لكنني أضعف من أن أدافع عن هذا الحب، عندما أصل تتحول سوسن إلى شجرة سوداء قصيرة، يداها تلمساني، لسعتهما تجعلني أصرخ، في أصابعها العشرة وجه عمي، يضحك ساخراً في أحد الوجوه، يبصق عليّ من فم وجه آخر، يسبّني بفم ثالث، اخرج من بيتي أيها النذل، أربيك بحرّ مالي ثم تحاول أن تغوي ابنتي، صرخته تلقيني بعيداً، لا تخرج الكلمات من فمي لأدافع عن نفسي أو حتى أطالبه بميراثي الكبير من أبي، الغابة تصبح شوارع سوداء مليئة بالقمامة، أغفو بجوار صندوق قمامة وفي حضني قِطّ أجرب، يدا زوجة عمي تلقيان بالقط بعيداً، يدا زوجة عمي تغسلان جسدي كله، الغابة خضراء، أسمع غناء عصافير سعيدة، الأشجار تبدو وكأنها جنيات ترقص، الغابة تحترق، النار تجري خلفي كعدو يريد أن يمسك بي بأياديه المئة...).
توقف الجميع عن متابعة ما يصفه، كانت ليلى قد وقفت فجأة، وجهها أصبح شديد الاصفرار، ركبتاها ترتعشان، عيناها تركزان على الرجل الغاضب القادم إليها بسرعة، ويبدو أنه سوف يضربها، صرخ فيها (ألم أحذّرك؟) (كيف أتيت إلى هنا؟) (هيا معي إلى البيت، لن أحاسبك أمام الناس)، كانت تسير ببطء لأن قدميها لا تحملانها، وكان يدفعها في ظهرها تارة، ويجذبها من يدها تارة، ولم يلاحظ أحد ابتسامة الشماتة على وجه سلوى، لكن العيون كلها كانت تحدق في الشاب عندما اختفت ليلى وزوجها، كان يصرخ: (النار، أيدي النار، عمي، صديقي، رئيسي في العمل، الزبال، الضابط، الشوارع، الجحيم، أريد أن أخرج من هنا، أخرجيني، أخرجيني). (افتح عينيك، افتح عينيك، افتح عينيك)، بدا وكأنه لم يسمع أصواتهم التي تحاول أن تساعده، كان فقط يصرخ لأن النار تقترب منه أكثر، ولأن بعض أيادي النار بدأت تمسكه بالفعل، وعندما تجرأت فتاة فهزت كتفه لكي يفيق، تحول إلى كومة من رماد، بينما صرخت الفتاة من شدة لسعة النار■