الدّلالة الرّمزيّة لموتيف «الزّيتون» في شعر محمود درويش

الدّلالة الرّمزيّة لموتيف «الزّيتون»  في شعر محمود درويش

تعدّ شجرة الزّيتون من أكثر الأشجار قدرةً على التّكيّف معَ البيئة الجغرافيّة التي تنمو وتترعرع فيها، وهيَ من الأشجار المعمّرة التي لها قدرةٌ كبيرةٌ على التّجذّر في الأرض والثّبات والرّسوخ، وقد عُرفَت منذ أقدم الحضارات، ووظّفها الشّعراء اليونانيّون القدامى كرمزٍ للوجود على الأرض؛ نظراً لخضرتها الدّائمة، وخيرها الوفير.

ويكفي هذه الشّجرةَ عظمةً أنَّ الكتبَ السّماويّةَ قد خصّتها بالذّكر، وعلى رأسها القرآن الكريم الّذي ذكرَها في خمسة مواضعَ هيَ:
- قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (سورة الأنعام - من الآية 99)
- قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} (سورة الأنعام - من الآية 141)
- قوله تعالى: {يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. (سورة النحل - من الآية 11) 
- قوله تعالى: {وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا} (سورة عبس - الآية 29) 
- قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} (سورة التين - الآية 1).
لأنّ الرّمزَ مرآة الشّعوب، فقد استعارَ الشّعراء المحدثونَ من شجرة الزّيتون صفاتها للتّعبير عن المقاومة والصّمود في وجه العدوّ والارتباط بالأرض، ومن أكثر الشّعراء تأثّراً بهذا الجانب محمود درويش الذي لم يترك من الأشجار والنّباتات الّتي رآها أو اشتهرت بها أرض فلسطين إلا وذكرها، وقد حازت شجرة الزّيتون في شعره حضوراً لم يبلغه غيرها من الأشجار، «وقد مثّلت له هذه الشّجرة وطناً بكلّ أبعاده»، فنجده في كثيرٍ من قصائده يبلغ أعلى مراتب الدّلالة الرّمزية في توظيفها، واستخدامها استخداماً رمزيّاً مكثّفاً، ولأهمّية الزيتون اختاره درويش ليكون عنواناً لديوانه الشّعريّ الأوّل «أوراق الزّيتون».
يقول في قصيدة «ههنا الآنَ، وهنا الآن»:
 وَلَنَا نصف حَيَاةٍ
وَلَنَا نصف مَمَاتٍ
وَمَشَاريع خلود... وَهَويَّه
وَطَنيّونَ، كَمَا الزَّيتون

غصن الزيتون... والسلام
أمّا فيما يتعلّق بدلالة غصن الزّيتون على السّلام عند درويشٍ فلها مرجعيّة دينيّة مستوحاةٌ من قصّة سيّدنا نوح عليه السّلام، فبعد ركوبه السّفينةَ مع مَن آمن معه، وبعدَ انغمار اليابسة بالمياه، وحدوث الطّوفان فوقَ أرض قومه الّذين كفروا به وكذّبوه، واستقرار السّفينة على جبل الجوديّ في تركيّا، أرسل النّبيٌّ نوحٌ حمامةً لتستطلعَ الأرضَ، وتتوضّحَ نتائجَ الطّوفان، فعادت وفي فمها غصن زيتونٍ دلالةً منها على انقشاع المياه وانتهاء الطّوفان.
يقول درويشٌ في قصيدة «مطر»:
يَا نوح!
هَبني غصنَ زَيتونٍ
وَوَالدَتي... حَمَامَه!

فالزّيتون رمزٌ للسّلام الّذي ينشده كلّ حالمٍ به، وقد وظّفَ درويشٌ هذا المنحى في قصيدة «جنديّ يحلم بالزّنابق البيضاء» حينَ بدأَ قصيدتَهَ بالإعلان عن حلم أحد جنود الصّهاينة المشاركينَ في احتلال القدس الشّرقيّة، وقد عبّرَ له عن رفضه للزّهو الانتصاريّ لليهود مقابلَ إراقة أرواح الأبرياء من الشّعب الفلسطينيّ، كما صرّحَ له عن حلمه الّذي يراوده بإحلال السّلام والأمن.
يقول:   
يَحلم بالزَّنَابق البَيضَاء
بغصن زَيتونٍ... 

قداسة أزلية
 وقد تميزت شجرة الزيتون في شعر درويش، لحملها لمعاني القداسة والأزليّة والخلود، حتّى غدت علامةً على الوجود والعلاقة الحميمة بالأرض المغتَصَبَة، فهيَ تحيلنا إلى دلالة المكان والهويّة، فعندما كان درويش يرى جرّافات الاحتلال تحاول اقتلاع أشجار الزّيتون الرّومانيّ، كان يرى في ذلك محاولةً لسلب الهويّة والمكان، لكنّه في الوقت ذاته كانَ يرى الحياةَ تنبثق من موت أشجار الزّيتون الّتي عدّها من مقوّمات وجود الإنسان الفلسطينيّ على أرضه، ومن أهمّ عناصر الطّبيعة الّتي «تمثّل الأرضَ وتنوب عنها؛ بحيث تندرج فيها اندراجَ المخبر في المظهر».  
يقول:
وَعَلَيكَ أَن تَحيَا وَأن تَحيَا
وَأَن تعطي مقَابلَ حَبَّة الزَّيتون جلدَك
كَم كنتَ وَحدَك

فشجرة الزّيتون تمثّل حالةً معيشيّةً للفلسطينيّينَ، أمّا رمزيّاً فلها دلالة المواطنة والتّلازم معَ الأرض، والنّظر إليها يمنح القوّةَ والإصرارَ والتّحدّي، فهيَ عصيَّةٌ على الاقتلاع، ومنها يستَمَدّ الكفاح، لذا كانَ من الواجب عندَ درويش إعطاء كلّ حبّة زيتونٍ من الجلد؛ لتصبحَ ملتحمةً بالجسد. 
ولعلَّ شجرةَ الزّيتون من أهمّ معالم الطّبيعة النّباتيّة التي لها ارتباطٌ روحيٌّ معَ درويش، فهيَ «تمثّل العراقةَ والشّموخَ والالتحامَ الأوثقَ والأبقى بجسد الأرض عبرَ ألوف السّنين»، وقد رمزَ درويش بشجرة الزّيتون إلى الوطن، داعياً إلى التّشبّث بها وغرسها في النّفوس إن غابت عن الأنظار، فنَجده يصرخ بصيغَة الأمر: «سَجّل أَنَا عَرَبي»، معلناً انتماءه العربيّ لأرضه، ومقدّماً دلائلَ على ذلكَ الانتماء هي «الجذور، والسّرو، والزّيتون»، وعلى الرّغم من قدم الزّيتون وأصالته تاريخيّاً، فإنّ زارعَه أقدم تجذّراً في التّاريخ منه، على حدّ قول درويشٍ في قصيدة «بطاقة هويّة»:
سَجّل أَنَا عَرَبي
أَنَا اسمٌ بلَا لَقَب
صَبورٌ في بلَادٍ كلّ مَا فيهَا
يَعيش بفَورَة الغَضَب
جذوري
قَبلَ ميلَاد الزَّمَان رَسَت
وَقَبلَ تَفَتّح الحقَب
وَقَبلَ السّرو وَالزَّيتون
وَقَبلَ تَرَعرع العشب

رمزية فذة
وقد يحمل الزّيتون عندَ درويشٍ دلالةَ ضياع الإنسان الّذي هُجّرَ عَن وطنه، وغابت عنه أصوله، فتبدو مفردة الزّيتون ملاصقَةً للإنسان حتّى أثناءَ محاورته للذّات المعشوقة المتَغَزَّل بها، فرمزيّة الزّيتون الفذّة ممتزجَةٌ بالبكاء على واقع التَّشَرّد في المنافي، وقد تتحوّل الدّلالة فجأَةً وتنقلب إلى أملٍ في البحث عن الأصول، فغصن الزّيتون بعدَ أن كانَ يبكي على حالة الاندثار والظّلام، أصبحَ متفائلاً بسطوع نورٍ الشّمس والقمر من جديدٍ.  
يقول في قصيدة «لا تنامي... حبيبتي»:
صَوتك الحلو قبلَةٌ
وَجَنَاحٌ عَلَى وَتَر
غصن زَيتونَةٍ بَكَى
في المَنَافي عَلَى حَجَر
بَاحثَاً عَن أصوله
وَعَن الشَّمس وَالقَمَر

ولأنّ التّشبّثَ بالأرض موقفٌ وطنيٌّ يعطي لصاحبه الشّرعيّةَ في استنطاق الجمادات وإسماع الآذان الصّمّاء، فقد سعى درويشٌ - بصفته فلسطينيَّ الهويّة - إلى تحويل «كلّ ما تقع عليه عيناه أو يجول في خاطره إلى رمزٍ للوطن والأرض»، وإلى إعلاء مراتب الانتماء للوطن، وتقديم علاماتٍ دالَّةً على مشروعيّة ملكيّة الأرض، والزّيتون من أهمّ العلامات الدّالّة على البقاء والأبديّة على الأرض الفلسطينيّة.
يقول في قصيدة «عن الصّمود»:
لَو يَذكر الزَّيتون غَارسَه
لَصَارَ الزَّيت دَمعَا!
يَا حكمَةَ الأَجدَاد
لَو من لَحمنَا نعطيكَ درعَا!
لَكنَّ سَهلَ الرّيح،
لَا يعطي عَبيدَ الرّيح زَرعَا!
إنَّا سَنَقلَع بالرّموش
الشَّوكَ وَالأَحزَانَ... قَلعَا!
وَإلَامَ نَحمل عَارَنَا وَصَليبَنَا!
وَالكَون يَسعَى...
سَنَظَلّ في الزَّيتون خضرَتَه،
وَحَولَ الأَرض درعَا

دلالة الثبات
في المقطع السّابق دعوةٌ إلى الاستبسال في المقاومة وعدم الخضوع والاستسلام، والتمسّك بالقيم الّتي لها ارتباطٌ بالصّمود والتّحدّي، أمّا فيما يتعلّق بمفردة الزّيتون فإنّها من أهمّ المفردات، وأكثرها وروداً في المقطع، إذ وردت مرّتين في سياق المقطع، ففي المرّة الأولى جاءت فاعلاً لفعلٍ يمارسه الإنسان، وهو فعل التّذكّر، وهذا يحيلنا إلى الماضي العريق والتّاريخ الأَصيل، وليسَ من علامةٍ دالّةٍ عليه سوى الزّيتون، أمّا في المرّة الثّانية فقد جاءت اللّفظة على عكس الدّلالة الزّمنيّة الأولى، فهي مستقبليّةٌ من خلال تسويف الفعل «ظلّ»، فمنَ الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل يبقى الزّيتون «علامةً على الكينونة والتّاريخ، فللزّيتون دلالة التّقديس، ودلالة الثّبات الأبديّ».
وقد وردت لفظة الزّيتون في قصيدة «المزمور الحادي والخمسون بعد المئة» كعلامةٍ منَ العلامات اللازمة في تاريخ فلسطينَ، حيث شبّهَ درويشٌ أورشليم (القدسَ) الّتي تمحورَ حولَها النّصّ الشّعريّ بزيتونةٍ داميةٍ، في دلالةٍ رمزيّةٍ على ديمومة الموت فيها، وقد حشَدَ في القصيدة عدداً من الإشارات التّوراتيّة مثل «مزمور، هلّلويا، الصّليب»؛ لتصبَّ هذه الدّلالات في بؤرةٍ واحدةٍ هي ديمومة الموت في سبيل النّضال والمقاومة، ورفض الخضوع للمحتلّ.
يقول:
أورشَليم! الَّتي أَخَذَت شَكلَ زَيتونَةٍ
دَاميَه...

محمد الدرة
وعبرَ مرثيّة محمّد الدرّة، نقرأ في قصيدة «محمّد» مقطعاً يرسم فيه درويش صورةَ الفداء والتّضحية، بالتّناصّ معَ حادثة صلب المسيح كما يرد في النّصوص التّوراتية، وقد وظّفَ درويشٌ هذا المنحى في إشارةٍ إلى أنّه مصلوبٌ وشعبه على الأرض ينتظرونَ الرّحمةَ والعدلَ منذ زمنٍ طويلٍ، وفجأَةً يأتي المخلّص «محمّد الدّرّة»، العلامة المصنوعة من موادّ هي: «نحاس، غصن زيتونةٍ، روح شعبٍ»، وهي تشير مجتمعةً إلى الحياة والتّجدّد والفداء. 
يقول:
محَمَّد
يَسوعٌ صَغيرٌ يَنَام وَيَحلم في
قَلب أَيقونَةٍ
صنعَت من نحَاسٍ
وَمن غصن زَيتونَةٍ
وَمن روح شَعبٍ تَجَدَّد

وقد جعلَ درويشٌ من حبّه للمرأة دليلاً على ارتباطه بقضيّته، فــــ «المرأة في شعره تؤدّي وظيفةً رمزيّةً بحتةً؛ إذ كانت رمزاً خصباً للأرض»، فهوَ حينَ يذكرها يذكر الأرضَ الّتي تعلّقَ بها، وحين يفصّل في ذكر محاسنها يعلن انتماءها لفلسطينَ، فكأنّما المرأَة علامةٌ بارزةٌ على حبّه الخالد لفلسطينَ، ودليلٌ على هويّته الوطنيّة، وفي قصيدة «شجرة الزّيتون الثّانية» نجد درويشاً يضفي على زيتونته صفات المرأة المحتشمة الرّزينة الّتي لا تبكي ولا تضحك أمامَ عواصف الدّهر ثابتةً محتفظةً بشبابها، فكأنّما الزّيتونة معادلة المرأة علامةٌ ثَابتةٌ للإخصاب في أرض فلسطينَ.
يقول:
شَجَرَة الزَّيتون لَا تَبكي وَلَا تَضحَك 
هيَ سَيّدَة السّفوح المحتَشمَة بظلّهَا تغَطّي
سَاقَهَا، وَلَا تَخلَع أَورَاقَهَا أَمَامَ عَاصفَة
تَقف كَأَنَّهَا جَالسَةٌ، وَتَجلس كَأَنَّهَا وَاقفَة

إيحاء بالثورة 
من جملة الدّلالات الرّمزيّة للزّيتون كمكوّنٍ تشكيليّ للطّبيعة الفلسطينيّة أنّه يوحي للمقاومينَ بالثّورة على الصّهاينة، ويحرّضهم على استمرار الكفاح، فهو متجدّد الخضرة في كلّ الفصول، لا يقوى الخريف على تعرية أوراقه، وهوَ امتدادٌ للوطن الّذي لا حدّ له بعدَ أن حرّفَ العدوّ حدودَه، وهو بهذا «يذكي حاجةَ الحالة الفلسطينيّة إلى ضخّ الحماس في نفوس الفدائيّين». 
يقول في قصيدة «الأرض»:
فَكلّ شعَاب الجبَال امتدَادٌ لهَذَا النَّشيد،
وَكلّ الأَنَاشيد فيكَ امتدَادٌ لزَيتونَةٍ زَمَّلَتني
   
فلفظة «زمّلتني» تحيلنا إلى حادثة عودة الرّسول عليه الصلاة والسّلام بعدَ نزول الوحي عليه في غار حراء، وعودته إلى بيت السّيّدة خديجة بنت خويلد، مصاباً بهلعٍ شديدٍ، طالباً منها أن تزمّلَه، فما كانَ منها إلّا أن هدّأَت من روعه، وبالعودة إلى القصيدة نجد أنّ درويشاً قد تشرّبَ هذه الحادثةَ، وأضفى عليها دلالاتٍ جديدةً في نصّ القصيدة، وقد أكسبَ لفظةَ الزّيتون دلالةً مركزيّةً، فــــ «الزّيتون رمز الحياة الخضراء الرّيّانة، وهو شجر الفقراء كما هو شجر الأغنياء»■