إملي نصرالله أمّ الرواية اللبنانية

إملي نصرالله أمّ الرواية اللبنانية

تشغل الروائية اللبنانية إملي نصرالله موقعاً مهمّاً على الخريطة الأدبية العربية، وهو موقعٌ راحت تنسجه، بدأب ومثابرة، طوال نيِّف ونصف قرن، وترصد فيه التحوّلات الاجتماعية التي طرأت على العالم المرجعي الذي يحيل إليه أدبها السردي، بجناحيه الروائي والقصصي، جرّاء اصطدامه بالمدينة، من جهة، والغرب، من جهة ثانية. وبذلك، تكون ابنة هذا العالم المرجعي بامتياز، وبرحيلها في 13 /3/ 2018 يفقد صوتاً صارخاً بآلامه وآماله.

في بداية الستينيات من القرن الماضي، يزور جواهر لال نهرو وابنته أنديرا لبنان، فتقيم له السفارة الهندية حفل استقبال، وتكون إملي نصرالله الصحافية الناشئة آنذاك بين المدعوّين والمدعوّات، بحكم صداقتها مع روبا جنسن، زوجة القائم بالأعمال الهندي. 
وفي ذلك الحفل، تفاجئها الصديقة بالسؤال: «متى ستكتبين روايتك الأولى؟»، فيشكّل السؤال المفاجئ الشرارة التي تشعل فتيل الأدب لديها، فتعكف على كتابة «طيور أيلول»، روايتها الأولى التي تنال جوائز عدة، وتطبع أربع عشرة مرّة، وتصدر في عام 2015 بتقنية «برايل»، ويروح هذا الفتيل يشتعل طوال نصف قرنٍ ونيّف، ويتمخّض عن عشرات الكتب في الحقول المعرفية المختلفة.
ترحل نصرالله عن أربعةٍ وستين كتاباً، منها أربعةٌ وأربعون كتاباً منشوراً تتوزّع على: تسع روايات، وعشر مجموعات قصصيّة، وسبعة كتب للفتيان، وخمسة كتب للأطفال، وستّة أجزاء من «نساء رائدات»، وخمسة أجزاء من «حصاد الأيام»، ومجموعة شعرية واحدة، وكتاب ذكريات مهنية، وآخر إصداراتها كتاب «الزمن الجميل»، الذي أبصر النور قبل أيام من رحيلها، ويتضمّن مجموعة مقابلات أجرتها، خلال عملها الصحافي، مع نساء شهيرات في حقولهن.
أمّا العشرون كتاباً الأخرى فما تزال مخطوطة، وقد عهدت بها إلى جامعة القديس يوسف، لعلّها تجد سبيلاً إلى النشر.

حصاد وفير 
هذا الحصاد الوفير في الرواية، والقصّة، والسيرة، والمقالة، والتراجم، والشعر، وأدب الأطفال والفتيان هو نتاج «زرع» باشرته «الفلاّحة» إملي نصرالله في حقول الكتابة، في عام 1962، وزاولته على مدى خمسة عقود ونصف العقد، فراحت المواسم تترى، واكتنزت بيادرها بأطيب الغلال. 
هناك في كوكبا، قرية أبيها الجنوبية الوادعة، ولدت إملي نصرالله، ذات يوم من عام 1931، وفي الكفير، قرية أمّها الرابضة على سفح جبل الشيخ، تنشأ، وتتشبّع بتلك البيئة الريفية الجميلة، وتختزن في داخلها الطبيعة البكر، وتكتسب العادات والتقاليد في مجتمع محافظ، فتلتزم ببعضها وتتمرّد على البعض الآخر، لاسيّما ما يحرم المرأة من ممارسة حقّها في التعلّم والعمل والاختيار، وتتّخذ من ذلك العالم المرجعي فضاءً روائياً أو قصصياً، تحيل إليه، وتنطلق منه إلى ما يتخطّاه في الجغرافيا والاجتماع، سواء في المدينة أو في المغترب. 
على أن المفارقة في تأثير النشأة الريفية على نصرالله هو أن الفتاة الطموح، المتمرّدة على واقع المرأة الريفية، الحالمة بالعلم والعمل وتحقيق الذات، هي نفسها التي تأبى الانخراط في حياة المدينة ومغرياتها، وتحافظ على القيم الريفية المحافظة، وترفض التطرّف في ممارسة الحرية. 
وبذلك تعيش الغربتين؛ غربة القرية، وغربة المدينة، وتبقى معلّقةً بين الانتماءين. وهذا ما تقع فيه شخصيّاتها الروائية. وبهذا المعنى، يقول د. علي زيتون: «إن أعمال إملي نصرالله الروائية تكاد تشكّل محاولة منها ودعوة للخروج من رحم القرية إلى مجتمع إنساني ذي أفق مفتوح، ومجتمع ليس بالضرورة أن يكون مجتمع المدينة».

بين الماضي والمستقبل
برأيي، فقد باءت هذه المحاولة بالفشل، فالشخصيات التي غادرت القرية إلى المدينة، أو هاجرت إلى الغرب بحثاً عن هذا المجتمع الإنساني لم تفلح في العثور عليه، وراحت تتأرجح بين الحنين إلى ماضٍ لم يعد موجوداً، والتطلّع إلى مستقبل بعيد عن متناول اليد.
فغدت كذلك الغراب، في مأثوراتنا الشعبية، الذي حاول أن يتعلّم مشية الحجل، فلا هو تعلّمها، ولا حافظ على مشيته الأصلية.
وهكذا، تتحرّك شخصيات نصرالله الروائية بين قطبي القرية / المدينة، أو بين قطبي القرية /المهجر، وتؤول، غالباً، إلى مصائر قاتمة، فهي إمّا أن تضيع في الغربة، وإمّا تعود إلى القرية بعد فوات الأوان، لتجد أن الزمان والمكان تغيّرا، ولتعيش اغتراباً من نوع آخر، وفي القرية هذه المرّة. 
بين «طيور أيلول»، روايتها الأولى التي صدرت في عام 1962، و«ما حدث في جزر تامايا»، روايتها الأخيرة المنشورة، لا المخطوطة، التي صدرت في عام 2007، خمسةٌ وأربعون عاماً، تتناول نصرالله الموضوعة نفسها، موضوعة الاغتراب اللبناني، ولو بحكايات وشخصيات مختلفة. 
وهو ما تفعله في روايتي «الإقلاع عكس الزمن»، و«الجمر الغافي». ذلك أن الاغتراب هو الموضوع الأثير الذي تجوس فيه، وتروي حكاياته، وتتسقّط أخباره، ولعل ذلك يعود إلى خبرتها الذاتية وما عاشته من هجرة أقاربها وأفراد أسرتها، حتى ليمكن اعتبارها مؤرّخة روائية للهجرة اللبنانية.

ريادة روائية
في نظرة سريعة على الروايتين، الأولى والأخيرة، وما بينهما من روايات، لاسيما «الإقلاع عكس الزمن» و«الجمر الغافي»، نرى أن المسارات والمصائر الروائية تتشابه، وتتقاطع. وكأنّ نصرالله كتبت رواية هجرة واحدة.
في «طيور أيلول»، تتناول إملي نصر الله الحياة في الريف اللبناني ومحدودية الخيارات فيه، مما يدفع بشبابه وصباياه إلى الهجرة للمدينة وبلاد الاغتراب، ليعيشوا غربتهم الأولى، حتى إذا ما عاد بعضهم إلى الريف يعيش غربته الثانية. 
وترصد العلاقات الإنسانية المحكومة بالعادات والتقاليد، وعلاقات الحب المجهضة بسبب ذلك، وخضوع المرأة لعقلية ريفية ذكورية. وفي الوقت نفسه لا تغفل الجوانب الإيجابية في الريف. وهكذا، تصدر الرواية عن منظور متعدّد، مركّب، للريف والمدينة والأب والمهجر.
تستخدم نصرالله في روايتها خطاباً روائياً حديثاً، على الرغم من مضي نصف قرن ونيّف على صدورها، وتحقّق بذلك ريادة معيّنة في روائية الرواية.
وقوام هذا الخطاب: استخدام الراوية المشاركة التي تنطوي في الوقت نفسه على راوية عليمة، واستخدام شخصيات رئيسة نامية متحوّلة، والمزاوجة بين التعاقب الزمني والتزامن، واستخدام حوار مناسب للفضاء الاجتماعي، ولغة أدبية جميلة تجمع بين المستوى الشعري في بعض تراكيبها والمستوى الشعبي في تراكيب أخرى، بما تذكره من أمثال شعبية وأدوات ريفية.

حكاية تراجيدية
فوق هذا كلّه، تكسر نمطيّة السرد، وتفتح النص على أنواع أدبية أخرى كالرسالة والأسطورة والحكاية والخاطرة، مما يضفي عليه الحيوية والتنوع. وبذلك نكون إزاء رواية حديثة في خطابها وتقنياتها، أرست حداثتها منذ نصف قرن ونيّف.
وفي «ما حدث في جزر تامايا»، روايتها الأخيرة المطبوعة، تقول نصرالله حكاية الطموح اللبناني من بداياته المحفوفة بالمخاطر وحب المغامرة والبحث عن حياة أفضل، مروراً بالكفاح اليومي والسعي إثر الثروة بأساليب مشروعة وغير مشروعة، وانتهاءً بنهايات فاجعة، مما يجعل من الهجرة حكاية تراجيدية بامتياز، ويحوّل الرواية إلى ملحمة ومختبر لمشاعر وتجارب إنسانية شتى. وإذا المهاجر هرباً من الفقر والقهر يقع في براثن الغربة والعذاب والمكائد والمؤامرات، ويصحّ فيه المثل الشعبي اللبناني «من تحت الدلفة إلى تحت المزراب». 
وفي هذا الفضاء الروائي، نقع على منظومة من القيم يتجاور فيها الإيجابي والسلبي، ويتفاعل العام مع الخاص، ويحتدم الصراع بين الخير والشر، ويسقط فيه صرعى كثيرون.
الخطاب الروائي في هذه الرواية يعكس خبرة كبيرة في السرد وترتيب الأحداث من دون الابتعاد عن روح الحكاية وبداهتها، ويشتمل على خيوط وعلاقات روائية يجد القارئ نفسه منجذباً إلى متابعتها. ولعل المنحى البوليسي الذي نحته الرواية من خلال كثير من الأحداث والجرائم الغامضة وعدم كشف القائمين بها من جهة، والمنحى الدرامي المتمثّل في تسارع الأحداث وعدم توقّعها في القسم الخيّر من الرواية من جهة ثانية، هما ما يجعلان القارئ أسير حقلها المغناطيسي.
على أن هذا الخطاب الذي تزاوِج فيه نصرالله بين بداهة الراوي وصنعة الروائي يتّسم بمواصفات معيّنة، على مستوى الراوي واللغة والسرد والحوار، هي مجلى لهذا التزاوج بين البداهة والصنعة. 
وبين الروايتين، الأولى والأخيرة، ثمة سبع روايات أخرى، اثنتان منها تتناولان الموضوعة نفسها، وهما «الإقلاع عكس الزمن» و«الجمر الغافي». وبذلك تكون قد وقّفت حوالي نصف نتاجها الروائي على موضوعة الاغتراب اللبناني.
وهي إذ ترحل اليوم عن هذه الدنيا، تترك خلفها بصمة روائية خاصة، وتشغل موقعاً مهماً على خريطة الرواية، اللبنانية والعربية، لا ينازعها فيه سواها.