يانيس ريتسوس الحكمة الجنائزيّة

يانيس ريتسوس الحكمة الجنائزيّة

يحظى يانيس ريتسوس (1909 – 1990) بمكانة لافتة في المدوّنة الشعريّة العالميّة الحديثة، حيث رُشّح لجائزة نوبل للآداب مرّات متعدّدة، إلا أنّه لم يحصل عليها بسبب انتماءاته اليساريّة. وقد اعترف الشّاعر التشيليّ بابلو نيرودا، عندما نالها سنة 1971، بأنّ ريتسوس كان يستحقّها أكثر منه. وبعيداً عن منطق الجوائز، فإنّ تجربة هذا الشّاعر اليونانيّ فريدة من نوعها في زخمها الشعريّ وأبعادها الدلاليّة التي مزجتْ بين ما هو فرديّ وجماعيّ، وبين ما هو آنيّ وتاريخيّ، ضمن إيقاع جنائزيّ اعتملت في أرجائه أصداء المآسي الإغريقيّة القديمة دون أن تفارق الأفق الزّمني الذي انحكم إليه ريتسوس في عصره.

عندما سُئل ريتسوس عن الأسباب التي تدفعه إلى الكتابة، اختزلها في جانبيْن؛ هما الحاجة إلى تجاوز جدار العزلة، وضرورة التواصل. وذلك حين ترتبط الذّات بموضوع معرفيّ عبر الوسائط الجماليّة التي تظلّ دوما غامضة وغير محدّدة تماماً مثل الحياة. لا تتحدّد الحياة في نظر ريتسوس، ولا الجماليّة. تظلّان دوما منفتحتيْن في أفق التجربة الفنّيّة، الشّيء الذي يستدعي البحث المتواصل عن سُبُل تمثيلهما معاً كامتداد للذّات.
وفيما يتعلّق بالعزلة، فإنّها لم تكنْ اختياراً أدبيّاً، وإنّما فُرضتْ على الشّاعر اليونانيّ منذ صغره. فقد شهدتْ حياته العائليّة المبكّرة تحوّلات هائلة، أفضتْ إلى جنون والده، الذي فَقَدَ ثروته بسبب الإدمان على القمار، وإلى موت أخيه وأمّه، وإلى انتقاله القسريّ من إطار أسرة غنيّة إلى عتبات الفقر. 
ويذكر أحد الباحثين أنّ الخدم ظلّوا يقرعون كلّ صباح الأقداحَ الخزفيّة ليوهموا الجيران بأنّ عائلة ريتسوس لا تزال كعهدها ولم تفلس، لكنّ الوهم سرعان ما تلاشى عن يانيس، عندما انتقل إلى أثينا ليكمل دراسته. لقد اضطرّ إلى الانقطاع عن التعليم والاشتغال في مهنة صغيرة، ثمّ تزايد إحباطه عندما أُصيب بمرض السلّ، فعاد مجدّداً إلى قريته.
 
دائرة مغلقة
بدا الوضع كذلك حينها لولا الحاجة إلى التّواصل مع الذّات قبل أن يكون مع الآخرين، فالتّناغم الغيريّ لا يكون مجدياً إلّا متى استبقه الانسجام مع الأنا. 
وهذه الضّرورة الملحّة دفعتْ ريتسوس إلى الانغماس في الكتابة والإقامة بين غرفها التي لا تعترف بالحدود ولا تحتفي بالجدران المغلقة، فنظم ديوانه «منزلنا القديم».
من الواضح أنّ الكتابة، كما يقول ميلان كونديرا، تصفية حساب مع الماضي. فهذا الدّيوان ليس سوى تشييع لجنازة الذاكرة الطفوليّة، وكسرٍ لجدار العزلة الذي انبنى بسبب الظّروف العائليّة، وتجاوزٍ له نحو آفاق معرفيّة جديدة ظهرت معالمها مع رجوع ريتسوس إلى أثينا بعد شفائه من المرض.
 ثمّة حدث لافت ومحوريّ شهده ريتسوس مع العودة الثّانية، يتمثّل في التحاقه بالحزب الشيوعيّ اليونانيّ والحركة التقدّميّة. هل كان ذلك اختياراً طوعيّاً أم ضرورة جديدة أملتْ نفسها على الشّاعر، وفرضتْ عليه أن يحتمي بها؟ لا شكّ في أنّ كثيرين سيمضون إلى تبرير التزامه السياسي بسيرورة الوعي الاجتماعيّ آنذاك، غير أنّنا حينها سننسف كلّ الاحتمالات المتعلّقة بخلفيّات الذات وممكناتها المعرفيّة.
كما أنّ قرار الالتزام القيميّ، وإن حمل أثراً جماعياً يرتبط بحركة المجتمع، فإنّه لا يخلو من مرجعيّات فرديّة ترتبط بحركة الذّات وبتطوّر نظرتها إلى الحياة.

كسر حاجز العزلة
تتماثل خلفيّة ريتسوس العائليّة البرجوازيّة مع خلفيّة شاعر يونانيّ آخر هو كوستاس كاريوتاكيس (1896– 1928)، الذي عُثر عليه منتحراً تحت شجرة يوكاليبتوس، بعدما أطلق النّار على نفسه. وقد كتب في رسالة انتحاره: «هأنذا أدفع الثّمن عن أمثالي، عن أولئك الذين يجدون مثلي أنّ الحياة بلا معنى».
كان ريتسوس شبيها بكاريوتاكيس في الخجل والانطواء والعزلة، غير أنّ الاختلاف بينهما يكمن في استرسال الأخير في غنائيّاته الحزينة وعبثه الوجوديّ اللذين دفعا به إلى الانتحار، أما ريتسوس فقد عالج الفصام القائم بين الواقع الآنيّ والإرث العائليّ البرجوازيّ بالانضمام إلى صفوف الحركة التقدّميّة في اليونان، وذلك ما ساعده على كسر حاجز العزلة الفرديّ والانسياق مع الموجة الثوريّة. 
ثمّة تواصل مستمرّ بين القاع الذاتيّ والراسب الجماعيّ، ثمّة إنصات إلى العوامل المشتركة القائمة بين الأنا والآخر، ثمّة تشابك بينهما تجلّى في الأعمال التي أصدرها ريتسوس آنذاك، وهي «مزرعة تراكتر» و«أهرامات». وفيهما تخلّص من جنائزيّة الماضي، ليقتحم غنائيّة الحاضر، ضمن نَفَس ملحميّ يمزج بين الرثاء والحماسة. وما بينهما ظلّ شبح كاريوتاكيس ماثلاً في العالَم الشعريّ مثل منقذ من ضلالة الانتحار وفقدان المعنى.

شاهدة القبر
كانت سنة 1936 مفصليّة في حياة ريتسوس. فقد جُوبه الإضراب السلميّ لعمّال التبغ بقمع وحشيّ من الجنرال يوانيس ميتاكساس، وأطلقتْ الشّرطة النّار على المتظاهرين، ممّا أدّى إلى قتل عدد منهم. ثمّ نشرت إحدى الصّحف صورة أمّ قرب جثّة ابنها، وهو من المشاركين في الإضراب، فأثارت الصّورة ريتسوس وكتب قصيدته الشّهيرة «شاهدة القبر»، التي لقيتْ رواجاً كبيراً في اليونان، ومنها نقرأ ما يلي:
«يا ابني، يا ابن رَحِمي، يا قلب قلبي،
يا طيري الصغير في باحة بيتي البسيطة،
يا زهرة صحرائي الوحيدة،
كيف لعينيك أن تناما ولا تشاهدانني أنتحب؟
لماذا لا تتحرّك؟
لماذا لا تنصتُ إلى الكلمات المُرّة التي أصرخ بها؟
هنا، وسط الشارع، حللتُ شَعْري،
وكفنت به الزنبق الذابل في وجهك الحلو...».
تحوّلتْ هذه القصيدة إلى أيقونة ثوريّة في اليونان. فبعد مدّة قصيرة من تلك الحادثة استولى الجنرال ميتاكساس على السّلطة، وأمَر بإحراق الكتب أمام معبد زيوس في أثينا، ضمن طقس جنائزيّ لا يختلف جوهرياً عن القرابين التي كان الإغريق يقدّمونها للآلهة القديمة. وكان من بين الكتب المحروقة قصيدة «شاهدة القبر» لريتسوس التي ظلّتْ، برغم القمع السياسيّ، تعتمل في مخيّلة اليونانيّين، خاصّة بعدما لحّنها لاحقاً الموسيقار الكبير ميكيس ثيودوراكيس من منفاه في باريس. 

ثلاثة أعمدة
ومن الواضح أنّ التشابك بين الذاتيّ الخاصّ والإنسانيّ العامّ حاضر بقوّة في هذه القصيدة. فصورة الأمّ التي ترثي ابنها لا تنأى عن والدة ريتسوس التي ماتتْ حزناً على شقيقه. 
وصورة الأب المتسلّط الذي بدّد ثروته في القمار ليصاب بالجنون لا تنأى عن صورة الجنرال ميتاكساس، وهو يصــــاب بجنون السلطة ليبدّد الإرث الديمـــــقراطيّ لأثينا ويستبـــــدل به نظاماً فاشيّاً. 
بل إنّ القمع الذي تعرّض له ريتسوس، من خلال النفي والسّجن، لا يختلف عن انتحار كاريوتاكيس تحت شجرة يوكاليبتوس. كلّ ما في الأمر أنّه انتحار بطيء داخل السجون والمعتقلات، ساعده على فهم معنى الحياة وعلى النّفاذ إلى أعماقها الغائبة أو المغيّبة.
الذّات، المجتمع، الثّورة... هذه هي الأعمدة الثلاثة لعالَم ريتسوس الشعريّ، كان الجامع بينها، لا الأفكار الكبيرة والأيديولوجيا، وإنّما التفاصيل اليوميّة الصّغيرة التي غادرت إطارها السّائد والمألوف لتتّخذ طابعاً أسطورياً جنائزياً هو سرّ جماليّة شعره. فنصوص ريتسوس ليستْ تعبيراً عن العالَم، بل هي عالَم في حدّ ذاتها تزخر بالمعنى وتنبض بالحياة. يقول ريتسوس:
«الكلماتُ شرايينُ
يسري فيها الدّمُ،
عندما تحتشدُ الكلماتُ
يشتعلُ جِلْدُ الورقةِ، أحمرَ
مثلما يشتعلُ جِلْدُ الرّجلِ والمرأةِ
في لحظةَ الحُبِّ».
الكتابة لحظةُ حبّ؟ حتماً هي كذلك في نصوص ريتسوس، وذلك ما أهّله ليكون كاتباً مهمّاً ومؤثّراً في الشعريّة الإنسانيّة المعاصرة■