نظريات ونظريات مضادة أين نشأت لغتنا العربية وشقيقاتها؟

نظريات ونظريات مضادة أين نشأت لغتنا العربية وشقيقاتها؟

الشائع في الأوساط الثقافية، عربية وغير عربية، أن أسرة اللغات المسماة «سامية»، وفق اصطلاح تداولته جماعة مؤرخين في جامعة جوتنن الألمانية في ثمانينيات القرن الثامن عشر، بعد أن وضعه أوغست شلوتسر (1735 - 1809)، أو المسماة «أسرة اللغات العربية القديمة» وفق اصطلاح د. طه باقر (1912 - 1984)، ترجع في أصلها إلى لغة أمّ موطنها الجزيرة العربية، حسب تحديد الجغرافي أبومحمد الهمداني (893 - 947)، أي المحاطة بالمياه من جميع أقطارها.

يرجع آخرون موطن تلك اللغات إلى إفريقيا أو إثيوبيا، ومنهما دخلت الشرق الأوسط، ويأخذ آخرون بنظرية أن موطنها جنوبي فلسطين والبحر والأحمر وشمالاً سورية والعراق، مع ملاحظة تشترك فيها جمهرة الباحثين وهو وجود الأكدية في العراق بوصفها أقدم لغة مكتوبة، وأكثر لغات هذه الأسرة قرباً إلى العربية، منذ أكثر من 4000 سنة. 
في السنوات الأخيرة، تجمعت خيوط نظرية استفاض في شرحها الباحث الأمريكي توماس ل. تومسن، من فريق يطلق عليه «فريق جامعة كوبنهاجن» في كتابه «التوراة في التاريخ: كيف يختلق الكتاب ماضياً؟» الصادر منذ وقت قريب نسبياً (1999).
غاية الكتاب هي بسط ما توصلت إليه أبحاث هذا الفريق، أي دحض ما اختلقه كتّاب غربيون حوّلوا «التوراة» اليهودية إلى كتاب تاريخ، ولفقوا في سعيهم نحو هذه الغاية شواهد أثرية، وزوّروا نصوصاً، وفي سياق ذلك كرّس الباحث الأمريكي الفصل الخامس من كتابه لما سماه «البواكير»، أي بواكير نشوء المجتمعات واللغات في شرقي الوطن العربي، وفي فلسطين خاصة. وهو الفصل الذي رأينا فيه جديداً يستحق لفت النظر إليه. 
يعترف الباحث بأن التفسير الذي يستخدمه اليوم، هو وفريقه، لإيضاح نشوء ما يسميها الغربيون «اللغات السامية»، ونسميها نحن «أسرة اللغات العربية القديمة»، هو تفسير نظري، ولكنه الأفضل مقارنة بتفسيرات عدة نظريات أخرى، لأنه يستند إلى المعلومات المتوافرة لدى الباحثين عن السمات المشتركة بين لغات شمالي إفريقيا واللغة المصرية القديمة، والتماثل الألسني بين المصرية القديمة واللغات السامية في آسيا. 
يضاف إلى هذا أن هذه النظرية تقيم تكاملاً بين المعطيات الأثرية المستخلصة من شمالي إفريقيا، وبين التاريخ البيئي والمناخي ذي العلاقة بانتشار الصحراء.

معتقد راسخ
بهذا تكون هذه النظرية بعيدة كل البعد عن الأخيلة الرومانسية، على حد تعبير الباحث، عن أصول «الساميين» المتدفقين من صحراء الجزيرة العربية، تلك الأخيلة التي سيطرت على المخيلة الغربية عن الشرق خلال القرن التاسع عشر. 
إن ما عزّز فكرة الصحراء العربية المولدة لموجات هجرات متتابعة إلى أراضي الهلال الخصيب المحاذية لها، هو المعتقد الراسخ منذ زمن طويل بأن اللغة العربية حافظت على الأشكال اللفظية القديمة.
ولهذا السبب، بدا أن ما تمكّن الباحثون من إنشائه، اعتماداً على الأشكال الأقدم للغات السامية، أقرب إلى اللغة العربية منه إلى النصوص السامية الأقدم التي لدينا، سواء كانت نصوص بلاد ما بين النهرين، «الأكدية» و«البابلية» القديمة، أو نصوص «أجرت» السورية.
وشجعت الفكرة القائلة بأن هذه اللغات كلها ترجع في أصولها إلى الجزيرة العربية الباحثين على التفكير بالساميين، كما لو أنهم شعب واحد مفرد، فتح واستوطن أراضي الهلال الخصيب، من بحر العرب إلى السويس، بهجرات قبائلية متوالية ضخمة، بدءاً من الألفية الثالثة قبل الميلاد وحتى نهاية الألفية الثانية، وتم تفسير تطور مختلف اللغات السامية بوصفه تطوراً لعائلة لغوية واحدة. وتم تمييز الفروق بين لغات هذه العائلة على أساس الفترة التي غادر فيها أصحابها الصحراء. 

عودة إلى الوراء
لم يبدأ المؤرخون باستخدام مناهج نقدية وأكثر دقة إلا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ففي هذه السنوات توافر فيض من الدراسات حول الشرق الأدنى القديم، وحل التخصص محل صناعة الأساطير واصطياد الكنوز التي وسمت علم الآثار قبل الحرب العالمية الثانية. 
يقول توماس تومسون: في ضوء ما توافر من معطيات، من أجل التعرف على أصول اللغات نحن بحاجة إلى الذهاب بعيداً، العودة إلى الوراء، إلى الأسلاف في شمالي إفريقيا الناطقين باللغات السامية. هؤلاء الأسلاف عاشوا في الصحراء الخضراء حتى أواخر الألفية السابعة ق.م، أي إلى وقت حلول الجفاف الطويل المتواصل الذي أنشأ الصحراء الكبرى التي نعرفها اليوم، فأجبر المزارعين والرعاة هناك على مغادرة بيوتهم وقراهم، والهجرة إلى أراضي البربر غرباً، وإلى تشاد ومناطق أخرى جنوباً، وإلى وادي النيل شرقاً، وأخيراً عبور النيل نحو فلسطين عبر سيناء، ومنها إلى وادي الرافدين، فالجزيرة العربية. 
ومع مطلع الخمسينيات بدأ الباحثون الألمان يكتشفون التماثلات الوثيقة بين الأفعال في اللغة الأكدية وفي بعض لغات شمالي إفريقيا. وهو ما يتضح في لغة البربر بالشمال الغربي، وفي ليبيا أيضاً. 

اتصال وثيق
هذه التماثلات، بين كلا الجانبين، جعلت من الصعب رؤية اللغات السامية مستقلة استقلالاً تاماً عن هذه التماثلات. وربط الباحثون بين لغتين من لغات شمالي إفريقيا يفصل بعضهما عن بعضه الآخر أكثر من ألف ميل صحراوي أيضاً.
وفي ستينيات القرن الماضي، أوضح المزيد من دراسة العائلات اللغوية أن سمات اللغات السامية المبكرة تتصل اتصالاً وثيقاً بعدد من اللغات الإفريقية، ليس البربرية والليبية فقط، بل والمصرية القديمة والقبطية اللاحقة المنطوقة في مصر حتى اليوم.
وبدأ المؤرخون الألسنيون، مع أواخر ستينيات القرن الماضي، بالنظر إلى شمالي إفريقيا بدلاً من الجزيرة العربية في بحثهم عن المتغيرات التي قادت إلى نشوء اللغات السامية، بين المزارعين المستقرين في سورية وفلسطين أولاً، ثم في قلب وادي الرافدين. 
ولوحظ أن اللغات العربية والأكدية والسامية الغربية تمتلك مفردات مشتركة ذات صلة بالزراعة وثقافة الرعي والماشية، ومفردات من هذا النوع لابد أنها ترجع إلى مرحلة سبقت انقسام السامية الأم إلى لهجات محلية. 
واستنتج الألسنيون أن المتحدثين بالسامية المبكرة، الأم، لا يمكن أن يكونوا بدواً من الجزيرة العربية، ولابد أن يكونوا مزارعين مستقرين. 
وبما أن وادي الرافدين لم يشهد سوى مرحلة استيطان قصيرة جداً قبل العصر البرونزي، فقد أصبحت سورية وفلسطين المناطق الواعدة أكثر من غيرها في إماطة اللثام عن أقدم فترات نشوء اللغة السامية الأم.
ودعم الترابط الوثيق بين علم الآثار والدراسات الألسنية هذا الاتجاه البحثي ومدّه بالقوة، فأضفى بعداً تاريخياً جلياً على ما كان دائماً نظرية ألسنية بشكل رئيس من دون تحقيب زمني. 

لغات حقيقية 
لم تعد السامية/الحامية، المعروفة باسم الآفرو/آسيوية أيضاً، والسامية الأم، مجرد نموذجين نظريين، بل بدت كلتاهما مثل لغات تاريخية حقيقية.
ومع أنه ليس لدينا نصوص مكتوبة بهاتين اللغتين، إلا أننا نعرف متى ظهرت هاتان اللغتان. كانت السامية الأم تؤرخ بفترة سبقت استقلال الأكدية واتخاذها شخصية لغة، ونحن نعرف متى حدث هذا؛ حين دخل الناطقون بالسامية لأول مرة وادي دجلة والفرات، وانضموا إلى السومريين في الجنوب، خلال الألفية الثالثة ق.م. 
في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، تجمعت بطريقة مرضية مختلف المفاهيم التاريخية والأثرية ذات العلاقة بتطور اللغات، إلا أن تأريخ هذه التطورات لايزال خطاطة أولية، تقول إن الصحراء الكبرى في شمالي إفريقيا لم تكن قد أطبقت بشكل كامل بين 9000 و7000 عام، وأتاح مستوى البحر المرتفع أعلى مما هو عليه اليوم، إشاعة رخاء في فترة ممتدة من فترات العصر الحجري الحديث في جنوب شرقي البحر الأبيض المتوسط، كانت دعامة للزراعة والمراعي في أرجاء المنطقة غير القابلة للسكن الآن. وفي منطقة كردفان/دارفور في السودان انتشرت زراعة المحاصيل وتربية الأغنام، واقترح بعض الباحثين هذا المكان كمنطقة شهدت ظهور أوائل المتكلمين باللغة الآفرو/آسيوية. 
إذا صح هذا فلا بد أن هذا التطور حدث قبل 6000 عام، ولابد أن لغة البربر المنتشرة اليوم في شمال الصحراء وجنوبها، دخلت تلك المنطقة قبل أن تعزل الصحراء الشمال الإفريقي عن السودان. ومن المعتقد الآن أن قرى العصر الحجري الحديث في فترة الرخاء، وحين لم تكن الصحراء الكبرى قد وجدت بعد، شهدت ظهور أسلاف الناس الذين كانوا أول متكلمين بالسامية في آسيا، بعد متغيرات طرأت على اللغة■