Phantom thread حُبٌّ للأزياء وأزياء للحُب

Phantom thread حُبٌّ للأزياء وأزياء للحُب

يعد فيلم phantom thread التعاون الثاني الذي يجمع الممثل العالمي دانييل داي لويس بالمخرج بول توماس أندرسون، وقد سبق للممثل البريطاني سليل الأسرة الثقافية (ابن الشاعر الأيرلندي سيسيل داي لويس وزوج ابنة الكاتب الأمريكي أرثر ميلر) أن أعلن في وقت سابق أن فيلمه هذا هو الأخير في مسيرته السينمائية الحافلة بعديد الجوائز  العالمية، أبرزها بطبيعة الحال تربعه على قائمة الممثلين الأكثر ترشيحاً وتتويجاً بالأوسكار (3 تتويجات و6 ترشيحات).

يذكر أن هذا التعاون بين الرجلين جاء بعد فيلمهما السابق there will be blood سنة 2007، حينما توج داي لويس آنذاك بالأوسكار عن دوره الرائع والمميز كمنقّب جشع عن النفط في آبار بنسلفانيا في البدايات الأولى لظهور هذه المادة الثمينة.
وقد عاد النجمان ليترشحا من جديد لجائزة الأوسكار في فئتي أحسن ممثل دور رئيسي وأحسن مخرج.
ويحكي الفيلم الجديد Phantom thread قصة مصمم أزياء جاد في عمله، باحث عن الشهرة والنجاح في مجاله، مخصصاً وقته وحياته وتفكيره لهذه الغاية، ويقود رينولدز (دانييل داي لويس) فرقة جماعية تتكون من أخته سيريل ومجموعة من النساء المتخصصات في الخياطة والتصميم، هدفهم هو إرضاء العائلة الملكية والمشاهير والضيوف الكبار الذين يبحثون عن الأزياء المميزة ذات القيمة الرفيعة والأثمان الباهظة. وبالفعل يتمكن رينولدز من تحقيق نجاح باهر في عمله، بعد أن ذاع صيت أزيائه وملابسه المحكمة الحياكة والصنع، وكان نجاحه هذا ثمرة عمل مُضنٍ وتخطيط مرسوم وتدبير محكم. 
غير أن حياة رينولدز ستتغير تغيراً تاماً بعد تعرفه على الفتاة ألما في أحد المطاعم، حيث كانت تعمل نادلة، وعرض عليها العمل في فريق أزيائه.
وبالفعل تقبل ألما العمل في الفريق، وينصب اهتمام رينولدز على هذه الفتاة الرشيقة والخجولة والهادئة، المثيرة للاهتمام في كل تصرفاتها وحركاتها. 
وسرعان ما تحول هذا الاهتمام والإعجاب إلى حب غريب قلب حياة البطل الجاد، ونقل مسار تفكيره من الحيز العملي الجاد والجاف، إلى الحيز العاطفي المليء بالأحاسيس والحيوية.

حالة غريبة
 كان جسد ألما وقوامها المثير والرشيق، وطبعها الهادئ والخجول، وشخصيتها القوية ذات الإرادة الطموحة، من المثيرات التي استجاب لها رينولدز، فرأى فيها الفتاة المناسبة لعرض أزيائه وفساتينه، ثم سرعان ما تعلّق قلبه بها وتحول الإعجاب إلى حالة حب غريبة ستكشف عن عدد من الاختلافات والتناقضات بين الشخصيتين، فشخصية رينولدز هي نموذج للإنسان الانطوائي والمنعزل، الذي لا يرى في الحياة مثيراً ومحفزاً آخر غير عمله وتخطيطات أزيائه وهيئة فساتينه وتصاميمه. 
لهذا فهو كان يرى في كل الأشخاص المرافقين وسيلة للنجاح والشهرة والإبهار في العمل، غير مهتم بالأثر الأخلاقي والاجتماعي للعلاقات الإنسانية التي تربطها مع أخته وطاقمها، فكل هؤلاء بالنسبة إليه هم وسيلة وأداة للعمل وتحقيق للنجاح والشهرة، ولا قيمة لهم خارج نطاق هذه الوظيفة، والغريب في الأمر أن هذه الفئة ترضى بوضعها القائم ولا ترى نفسها سوى وسيلة للإنتاج والعمل، إلى أن تأتي الفتاة الملهمة ألما ذات الطموح العالي والإرادة القوية، التي ستتمرد على هذه المواضعات والتقاليد، واضعةً حداً لامتداد السلطوية الإنتاجية التي كان يرسخها رينولدز بشخصيته المتصنعة والجافة المشاعر، الراغبة في تحقيق القيمة الاجتماعية النبيلة والشهرة الرفيعة.
جاءت ألما وهي الفتاة الفقيرة، الخجولة، الهادئة، الحساسة، لتثور على النظام الجبري - الميكانيكي الذي يحكم حياة البطل وفريقه في العمل، نظام آلي لا يعرف سوى التصنع والرسميات والرغبة في الشهرة. وكانت أول مهمة تنتظر ألما المحبوبة هي كيفية الإيقاع ببطلها في أسر وشباك الغرام، فكانت إثارة الجسد وإبداع النظرة ورشاقة القوام وخجل الملامح الأسلحة التي لجأت إليها ونجحت فيها إلى حد بعيد، لتنتقل بعد ذلك إلى مهمتها الثانية الأصعب، وهي كيفية ترويض حبيبها ونقله من حالة النرجسية والتسلط والجد والتصنع، إلى حالة الاندماج والتفاعل والعطف والحب ذي الأحاسيس المرهفة.

محاولة صعبة
هي محاولة صعبة تنتظر البطلة لتغيير سلوك وشخصية البطل، خاصة أنه من ذوي الطباع الحادة، والخصال العنيدة، وهذا ما ستكتشفه ألما في خطتها الأولى التي ستبوء بالفشل، بعدما أرادت خلق مفاجأة لحبيبها - بالرغم من تحذيرات سيريل لها من طبع أخيها الذي يكره المفاجآت - بعد قدومه إلى المنزل، حيث سيشعر رينولدز بنوع من الجفاء والنفور من مائدة العشاء التي أعدتها حبيبته كمفاجأة، بعد أن أخلت المنزل من الجميع، لتختلي بحبيبها الذي تريد أن تراه بصورتها التي تعشق وتحب.
ولم يزدها فشل خطتها الأولى إلا إصراراً وطموحاً في ترويض الحبيب العنيد، لتبدأ الإعداد للمرحلة الثانية من خطتها، حيث ستبحث عن فطر سام لتخلطه بمشروب تقدمه للحبيب، هذا الفطر الذي يؤدي إلى المرض لكنه لا يميت، يسبب الآلام ويترك صاحبه طريح الفراش بسبب آثاره الجانبية وأعراضه المرضية المنهكة، لكنه لا يقتل. وحينما تنجح محاولتها هذه المرة، تعترض الأخت طريقها في البداية حينما تأتي بالطبيب لمعالجة أخيها، لكن ألما تتخلص بذكائها من الطبيب، وتتفرغ للسهر على راحة حبيبها والتفرد بعطفها وحنانها عليه، فيبدأ قلب البطل بالاستسلام والتنازل شيئاً فشيئاً، معتقداً أن ألما هي الراعية والمنقذة التي تكفلت به في لحظاته الصعبة مع المرض والألم.
 وتنجح خطة ألما حينما يسترجع البطل عافيته ويطلب يدها للزواج بعد استسلامه لغواية مشاعرها وعطفها، وتحقق بذلك غايتها وأهدافها التي سطرتها بتدريج وتخطيط، حيث تنتقل شخصية البطل - مع مثيرات الغواية والحنان التي استعملتها ألما - من مرحلة السلطوية والعناد إلى مرحلة السقوط في الفخ ثم مرحلة المرض فمرحلة الضعف، ثم أخيراً الاستسلام للمودة والحب والزواج، بل الأكثر من ذلك أصبح خاضعاً مروضاً لحب بطلته التي أعطته، مرة أخرى، سُم المرض، لكن هذه المرة بعلمه وموافقته وترحيبه، مقابل الاستفادة والاستمتاع بعطف القلب وحنان المشاعر ورفق الحبيبة.

صراع خفي
هو حب غريب وعجيب ذاك الذي نقله لنا بول توماس أندرسون في فيلمه هذا، حب مليء بالمتناقضات بين طرفيه، حب يتجاذبه صراع وتوتر خفيّ بين شخصيتين مختلفتين فكرياً وعاطفياً ونفسياً واجتماعياً، رينولدز الغني، العقلاني، المغرور، الغارق في رسمياته وعمله وحب ظهوره القيادي، وألما الطموحة، المتواضعة، العاطفية، الخجولة، الراغبة في كسب ود حبيبها بأي ثمن. إنه صراع بين العقل والعاطفة، بين العناد والعطف، بين السلطوية والحنان، بين التصنع والتلقائية. وفي النهاية تنتصر العاطفة وينتصر الحب على كل أشكال الحياة الوهمية الزائفة، ينتصر القلب وينزع نفسه من كل أغلال الكبرياء والنرجسية.
فنياً، صاغ المخرج فيلمه باحترافية عالية، جعلت كل نقاد السينما يستحسنونه ويرشحونه لعديد من الجوائز العالمية، فقد اختار المخرج تحريك مسار أحداثه بتدرج بدأ بوتيرة سريعة وحركية تتخللها لقطات يعتمد فيها على الكاميرا المتنقلة التي ترصد الأحداث وتتعقب الشخصيات، من خلال عدساتها المقربة والمحيطة بالفعل السينمائي الذي يقوم به مصمم الملابس وفريقه من أجل البحث عن الشهرة والنجاح. ولهذه الغاية كان لزاماً على المخرج أن يبرز معالم الفساتين، وشكل التصاميم، وهيئة الأزياء المعروضة، وطرق حياكتها وخياطتها من طرف الفريق.
كما كان لزاماً عليه أن يصور عن قرب ملامح الطموح والجد والاجتهاد التي تنتاب البطل وفريقه لتسلق سلّم الشهرة والنجاح، كما أن اهتزاز الكاميرا وعدم ثباتها هما إحالة ضمنية لطبيعة العلاقة المتوترة بين البطل والبطلة التي سادت في المرحلة الأولى من الفيلم. هذا التوتر ستخف حدته شيئاً فشيئاً مع تباطؤ الأحداث وتراجع إيقاعها وامتدادها انسجاماً مع حالة الانجذاب والتقارب التي بدأت تملأ كيان الحبيبين، لينتقل المخرج من مرحلة التعريف والعرض والتعاقب إلى مرحلة الثبات والاستقرار، حيث يترك المخرج مساحة كبيرة للحوار في الفيلم لتبطيء وتيرة الحكي، ويركز فيه - بالاستناد إلى اللقطات المقربة - على تفاصيل وجزئيات الشخصيات، وخاصة البطل والبطلة، حيث ترصد الكاميرا الثابتة في هذه المرحلة ملامح الشخصيات وهيئتها، سلوكها وتصرفاتها، انفعالاتها وتقلباتها، فكرها وعاطفتها، فرحها وحزنها، سلطويتها وتمردها، حبها ونفورها، حنانها وعنادها... كل هذا في قالب فني عميق يغوص داخلياً في أسرار وكنه الطبيعة البشرية وما تحمله من تناقضات أخلاقية وفكرية وعاطفية وقلق وجودي.

عنصر مركزي
لا يخفى هذا على مخرج بارع كأندرسون، لكونه نجح في عديد من أفلامه السابقة في الكشف عن أغوار الطبائع الإنسانية العميقة، خاصة في فيلمه، السابق، المشترك مع دانييل داي لويس «لن يكون هناك دم»، حيث صور في مشهد درامي مثير، قساوة القلب الإنساني الذي تحدى غريزة الأبوة ودمرها، بقتل الأب لابنه بسبب الطمع والجشع والهوس بمال البترول. 
وإذا كان الحوار قد أخد قسطاً وافراً في فيلم أندرسون، كونه عنصراً مركزياً يستهدف الكشف والبوح عن خوالج الذات وأعماق النفس، فإن هذا العنصر استفاد أساساً من القدرة التشخيصية الاحترافية التي يتمتع بها دانييل داي لويس في تجسيد صورة الشخص المغرور والمتصنع في تصرفاته، المتسلط والعنيد في أفكاره، المتناقض والمتقلب في أحاسيسه. ولا داعي للتفصيل في هذا الأمر، طالما أن الجميع على دراية بالتدريبات القاسية، والاشتغال المكثف، والاستعداد المضني الذي يقوم به دانييل في كل أفلامه، وهو المعروف عالمياً بوظيفته الفنية كممثل منهجي، يلتزم تماماً بكل دور يقوم به من خلال عيش الدور حرفياً في حياته، حيث يظل متقمصاً دوره السينمائي قبل وأثناء المدة التي يستغرقها تصوير الفيلم، لدرجة إيذاء صحته في بعض الأحيان. فقد تعلّم دانييل اللغة التشيكية من أجل دوره في فيلم «خفة الوجود غير المحتملة»، وأجبر نفسه على العيش من خلال كرسي متحرك من أجل دوره في فيلم «قدمي اليسرى».

نغمات هادئة
أما الموسيقى فهي من تأليف جوني غرينوود، وجاءت على شكل نغمات هادئة لمقطوعات البيانو، مواكبة لطبيعة الحبكة البطيئة النمو، ومنسجمة مع الحالة النفسية لشخصيات الفيلم، طالما أن المخرج استهدف الحفر في دواخل النفس الإنسانية. وهي موسيقى رتيبة ودرامية مجسدة لمسار التحول الذي تعرفه كل من شخصيتي رينولدز وألما من حالة النفور والتوتر والاختلال إلى حالة الانجذاب والحب والاتزان.
وطالما أن فيلم phantom thread هو فيلم عرض أزياء، فإن المخرج سينصب اهتمامه كثيراً على اختيار ملابس فيلمه بعناية فائقة، جعلته يترشح ويفوز بجائزة الأوسكار عن هذه الفئة. فقد استعمل كثيراً الفساتين الأنيقة والجذابة التي تجلب النسوة من كبار الشخصيات والمشاهير، وهي فساتين محاكة ببراعة ودقة وعناية، جعلت البطل يضحي بوقته وجهده لأجل هذه الغاية، حيث نلاحظ في الفيلم اندماجاً روحياً بين البطل وعمله في تصميم الملابس والفساتين، فيختارها بعناية، وينتقيها باهتمام، ويصنعها بعشق وهوس. وكل تصاميمه مواكبة للموضة، ومسايرة لذوق المشاهير من النسوة العاشقات للتبختر والظهور وحب الاهتمام.
هكذا نخلص في النهاية إلى أن انسجام الرؤية والعمل بين بول توماس أندرسون ودانييل داي لويس من بين أبرز العوامل التي ساهمت في نجاح فيلم phantom thread، خاصة أن الشريكين السينمائيين يعرفان بعضهما البعض جيداً من خلال أعمال سابقة، ولهذا فقد جاء الفيلم محاكاً بفنية وإتقان وبراعة، منسجماً في ذلك مع فنية مخرجه وحياكة بطله وإتقان طاقم عمله■