الألوان بين الفن الشعري والفن التشكيلي

الألوان بين الفن الشعري  والفن التشكيلي

الألوان هي الجزء المنظور من كائنات العالم وأشيائه، وبفضلها استطاع الإنسان منذ أقدم العهود أن يتعرف إلى الأشياء والحالات ويميّز بينها، فمثلت لديه قرائن شكلية دالة تجنبه السقوط في فخ الخلط والفوضى.
وبارتقاء هذا الإنسان فكرياً ووجدانياً تمكّن من جعل هذه الألوان مادة للترفيه، فسما بعينه إلى ما تطمح إلى تذوقه من آثار جمالية منظورة، سواء عن طريق الاكتفاء بالتلقي الحسي لعناصر الطبيعة، وما تجود به مشاهدها من تناغم الألوان وانسجامها، أو عن طريق إعادة تشكيل تلك الألوان من جديد ضمن ممارسات طقوسية أو فنية تضمن لروحه سكينتها، ولبصره متعة المشاهدة وبهجتها. 

لقد انتبه الإنسان البدائي إلى أهمية الألوان، واعتبرها طقساً أساسياً لمغادرة التكوين الحيواني الفطري ودخول عالم الكينونة الإنسانية؛ فقد «لاحظ كلود ليفي شتراوس أنه عند بدائيي أمريكا اللاتينية، يجب على الإنسان إذا أراد أن يصبح رجلاً، أن يصبغ جسمه، أما الذي يبقي على لونه الطبيعي فلا يختلف عن بقية الحيوانات.
والوشم الجراحي ينشئ نوعاً من تطعيم الفن للجسد لكي يحوله بشكل اصطناعي إلى وضع أكثر إنسانية»، (مادة couleur في موسوعة Universalis). 
هكذا أدرك البدائي سلطة التلوين ودورها في إخراجه من هيئته المتوحشة، والسمو به
 - وفق اعتقاده - إلى درجة عالية من اكتساب صفة التحضر، واستحقاق الانتماء إلى عالم يرفل بالألوان الزاهية. 
وتأسيساً على ذلك نستنتج أن محدودية ثقافة البدائي لم تمنعه من أن يشعر بقيمة الألوان عندما تنتقل من عالم الطبيعة لتتنزّل في الفن؛ ذلك أن إقدامه على صبغ أطراف جسده لابد أن يكون مدعوماً بتقنية خاصة في الصبغ والتلوين، إذ إنه سيعمل على انتقاء الألوان من المواد الطبيعية، ومن ثم تنسيقها بشكل يجعله راضياً عن أوضاعها وأشكالها.
وإذا كان هذا شأن الإنسان البدائي في علاقته بعالم الألوان وقيمته الرمزية في حياته على الرغم من بساطتها، فما بالنا بالفنانين الذين يتصيّدون أي إشارة أو رمز يعينهم على الكشف عن الدلالات العميقة؟ 

وسيلة أساسية
لا شك في أنهم وجدوا في مملكة الألوان غير المحدودة معيناً ثرّاً لا ينضب من الدوال المسعفة. وبما أن اللون هو الوسيلة الأساسية التي يعتمد عليها الفنان التشكيلي في تشييد صروحه الجمالية، فإن مستويات التعامل الفني معه قد عرفت درجات متفاوتة تبعاً للمدرسة التي ينتسب إليها هذا الفنان أو ذاك؛ فقد «كانت التأثيرية تسجل الأشياء كما تراها العين، وتصوغ الألوان في غلالة النور الطبيعي الذي ينعكس عليها ويحدد درجاتها.
أما الحوشية فجعلت من اللون وسيلة لتمثيل أحاسيس الفنان وأداة لبلاغة التعبير التشكيلي، بغضّ النظر عن حقيقة الألوان في الطبيعة؛ فالسماء قد تكون حمراء، والأنهار قد يغمرها الأصفر المتوهج، والوجوه قد تكون خضراء، إذ العبرة بما تقتضيه بلاغة التعبير...» (بدرالدين أبو غازي ـ رواد الفن التشكيلي ـ كتاب الهلال، مايو 1985، ص 46).  وما ينطبق على التشكيل ينطبق على الشعر، فكلاهما فن وإن اختلفت وسيلة تعبيره عن الذات. كما أن بينهما تجاوراً يصل إلى حدود تماهيهما؛ لأن الشاعر - وإن كان يستعمل اللغة - مأخوذ في معظم الأحيان بما يقترحه عليه خياله من صور حسية بارزة الخطوط والألوان.
فالألوان تضع العين على رأس قائمة الحواس المتلقية لهذه الصور. أما الفنان التشكيلي فيستعير من الشعر عنصر الإدهاش وخاصية الانزياح، وهما معاً يفتحان للخطوط والألوان أفقاً إبداعياً يتميز بقابليته على الجمع في آن واحد بين التنافر والانسجام: التنافر الذي يظهر على سطح اللوحة، وهو تنافر إبداعي صرف، والانسجام الذي يبنيه المتلقي إن هو نجح في الغوص على الدلالات العميقة التي تختفي تحت طبقات الرموز اللونية.

الرسم بالكلمات
هذا التجاور الفني بين التشكيل من جهة والشعر من جهة ثانية، هو ما دعا الشاعر اليمني عبدالعزيز المقالح إلى القول: «من التعابير الشائعة عبارة تتحدث عن الرسم بالكلمات، وهي عبارة توجز المفهوم المعاصر للشعر، وهذا لا يعني أن العلاقة بين الرسم والشعر لم تكن قائمة في الماضي.. فكلاهما، الشعر والرسم، أو القصيدة واللوحة، يقفان منذ وُجدا عند نقط التقاء كثيرة.
فالشاعر يرسم قصائده أو لوحاته بلغة مقروءة ومسموعة، والرسام يكتب لوحاته أو قصائده بلغة منظورة. وأهمية أي شاعر، قديماً كان أم حديثاً، تقاس بمقدار ما يضيفه في نتاجه الشعري من الصور الجديدة المبتكرة غير المسبوقة وغير المكرورة، والتي تضاف إلى عالم الإبداع الشعري كما تضاف اللوحات الفنية إلى عالم الإبداع التصويري». (شعرية اللون ـ مجلة فصول ـ المجلد 15 ـ العدد 3 ـ القاهرة، خريف 1996، ص 319).
لقد وجد الشاعر في الألوان الطبيعية مادة دسمة، ساعده خياله على إخضاعها شعرياً لكي تضفي على معانيه مزيداً من الدلالات الرمزية، ولكي تكمل ما ينقص صوره المرئية من لمسات باهرة. 
صحيح أن أسماء الألوان لا تحيل اصطلاحياً على غير ذاتها، لكنها تتخذ أوضاعاً أخرى مختلفة انطلاقاً من السياقات التركيبية التي ترد فيها. وهذا ما تنبّه إليه باحث الشعرية الحديثة جان كوهين عند دراسته لهذا الجانب في أشعار رامبو وفرلين وملارمي، حيث يقول: «عندما اخترنا اللون، كنا نختار صفة صعبة التناول شعرياً.
اللون هو إحدى الصفات الملموسة الأكثر بروزاً في أشياء هذا العالم، ولهذا فإسناد لون ما إلى شيء غير ملون، والأكثر من هذا إسناد هذا اللون إلى أشياء غير محسوسة، يبدو تحدياً مقصوداً في وجه العقل.
إن العالم الرمزي عالم مضلل، ولهذا نجد القمر وردياً والعشب أزرق، والشمس سوداء، والليل أخضر. والأغرب من ذلك الذهول الأحمر والعزلة الزرقاء والنوم الأخضر... تلك الألوان التي لم نشاهدها أبداً، والتي تختلط بأشكال غريبة وبأصوات لم تسمع، هي ما يكون عالم الشاعر الذي يبدو عجيباً».
(بنية اللغة الشعرية ـ ترجمة: محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال البيضاء، 1986 ص 127 ـ 128).

عنصر ملتبس
إن لجوء الشعراء إلى مسخ الألوان الحقيقية للأشياء أو إلى تلوين أشياء لا لون لها في الأصل، لم يتم بطريقة جزافية محكومة بالاعتباط والفوضى، لأن التعبير الشعري - بطبيعته - يعد مجافياً للمألوف، وخالقاً لانحرافات لغوية في أفق توليده لمدلولات رمزية تستلزم أحياناً العودة إلى ذات الشاعر لإزالة تلك الانحرافات، لاسيما عندما تضطرب العلاقة بين اللون كصفة مسندة، وبين موصوفه كمسند إليه.
فالدلالة الرمزية تتجاذبها أطراف يوجد بعضها ضمن مرجعية خارجية، قد تكون ذات الشاعر نفسه أو تكون عنصراً متلبساً بمحيطه. والرمز، كما نعلم، هو «الرابط الأساس الذي يشد مفاصل النص ويجنبه الانكسار والتفكك، ذلك أنه يتحكم بجميع الحركات الداخلية التي تؤسس مجتمعة بنية النص الشعري ذاته». 
(محمد لطفي اليوسفي ـ في بنية الشعر العربي المعاصر، دار سراس للنشر، تونس 1985، ص 34). 
هكذا تختزل الألوان معاني رمزية بالغة الأهمية، باعتبارها منظورات فيزيائية تستجيب لتطلعات الذات الراغبة في الكشف عن طبقات الأعماق. 
وهو الأمر ذاته الذي نجده عند الشعراء العرب المعاصرين الذين أثارتهم القيمة الرمزية التي تنطوي عليها الألوان. فإذا كانت مكونات العالم الحسي تعلن عن نفسها من خلال الطلاء الذي يغطي سطوحها، فإن تحت هذا الطلاء الظاهر تنحفر الدلالات العميقة التي تخفي حقيقة هذه المكونات.
 
مثيرات حسية
«إن ألوان الأشياء وأشكالها هي المظاهر الحسية التي تحدث توتراً في الأعصاب وحركة في المشاعر. إنها مثيرات حسية يتفاوت تأثيرها في الناس. لكن المعروف أن الشاعر ـ كالطفل ـ يحب هذه الألوان والأشكال، ويحب اللعب بها. غير أنه ليس لعباً لمجرد اللعب، وإنما هو لعب تدفع إليه الحاجة إلى استكشاف الصورة أولاً، ثم إثارة القارئ أو المتلقي ثانياً، فالشعر إذن ينبت في أحضان الأشكال والألوان، سواء كانت منظورة أم مستحضرة في الذهن». (عزالدين إسماعيل ـ الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية ـ ص 129 - 130). 
إن الفنان التشكيلي يرسم وهو يفكر بالشعر، وقد يلجأ إلى الأخذ المتعمَّد من النصوص الشعرية ما يزين به لوحاته الفنية، وفي هذا الصدد لم يكن أنطون ميرو (1570 - 1621) وهو فنان تشكيلي من العصر الباروكي، يفرّق بين التشكيل والشعر، فيحدث له أن يزين لوحاته بجمل شعرية، كما أنه كان يفعل العكس. 
أما بيكاسو (1881 - 1973) فيرى في نفسه رساماً وشاعراً في آن واحد، وكان يقول: بعد كل هذا، فالفنون واحدة، إذ نستطيع كتابة لوحة مثلما نستطيع رسم أحاسيسنا في قصيدة. 
وقد يستدعى اللون لغرض تلوين خطوط اللوحة المرسومة، وتنتقي الفرشاة - ساعتها - ما يناسب كل شكل من طلاء ينضح بالدلالات الثابتة في العرف البشري، وتبعاً لما يوجد في ذاكرة الرموز التي لا يُختلف عليها.
وربما احتاجت اللوحة إلى إضاءة قوية تُسلط عليها من مصباح عاكس، يبرز مكونات اللوحة وأبعادها الفيزيائية. وهذا ما يحرص عليه منظمو المعارض الفنية بتوجيه من الفنانين العارضين، حتى تبدو الألوان في اللوحات الفنية، أمام متلقيها من زوار المعرض، محتفظة بالوضع البصري الذي سعى إليه الفنان لحظة إبداع اللوحة■