الأمراض النادرة وحقائقها بين الواقع والمستقبل

الأمراض النادرة وحقائقها  بين الواقع والمستقبل

يختلف تعريف الأمراض النادرة من بلد لآخر؛ ففي أوربا مثلاً يعتبر المرض نادراً  في حال أصاب (شخصاً واحداً من بين كل ألفي شخص)، بينما في الولايات المتحدة الأمريكية يعتبر  المرض نادراً  في حال لم يتجاوز  عدد المصابين به مئتي ألف شخص، ومع الاختلاف الحاصل بين النسب إلا أنه يمكننا القول إن الأمراض النادرة تؤثر على عدد قليل من الناس في محيط ما مقارنة بعامة السكان. 

لعل انحصار تأثير الأمراض النادرة في عدد قليل من الناس بالنسبة إلى المجموع العام لهم لا يعني قلة عدد المصابين بها، حيث يقدر عدد الأشخاص الذين يتأثرون بهذه الأمراض بحوالي (ثلاثمئة وخمسين مليوناً في جميع أنحاء العالم؛ منهم خمسة وعشرون مليوناً في العالم العربي وحده)، وبالنظر إلى الرقم الكلي لعدد المصابين نلحظ أنه رقم كبير جداً، يفوق عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية بثلاثين مليوناً.
ولتسهيل تخيّل الأمر أقول إن عدد المصابين بالأمراض النادرة يساوي تقريباً عدد سكان أمريكا، إضافة إلى عدد سكان أستراليا؛ لهذا نستطيع القول إن الأمراض النادرة ليست نادرة بالشّكل الذّي يوحي اسمها به، خصوصاً إذا عرفنا أن عدد مَن تؤثر عليهم الأمراض النادرة يفوق عدد الأشخاص الذين يعانون مرض السكري أو السرطان.
ويذكر أن المرض النادر في منطقة ما قد يكون شائعاً في منطقة أخرى، فمثلاً فقر دم حوض البحر الأبيض المتوسط الوراثي، أو ما يعرف بمرض الثلاسيميا، هو مرض نادر الحدوث في شمال أوربا، لكنه يعد في الوقت ذاته شائعاً في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وكذلك «الملاريا»، ففي الوقت الذي يعد فيه من الأمراض الشائعة في إفريقيا، نجده يعد ضمن الأمراض النادرة في الولايات المتحدة.
تجدر الإشارة إلى أنّ هناك أكثر من (ثمانية آلاف نوع مختلف) من الأمراض النادرة حول العالم، ومن الجيّد معرفة أن بعض هذه الأنواع يندرج تحت مسمى أمراض شائعة، وبعض الأشكال النادرة من مرض السرطان مثلاً أو مرض الزهايمر يدخل ضمن الأمراض النادرة، كما أن هناك بعض الأنواع لا يتجاوز عدد المصابين بها عدد أصابع اليد الواحدة.
ومن المؤسف جداً معرفة أن الأمراض النادرة أمراض مزمنة، أي أنها في الغالب تتطلب علاجاً يؤخذ مدى الحياة، كما أنها أمراض شديدة التعقيد، يصعب تشخيصها وبالتالي ليس ن السهل إعطاء علاج لها، ويكفي لإدراك مدى صعوبتها معرفة أن نسبة الأمراض النادرة التي لديها موافقة علاجية من منظمة الغذاء والدواء (FDA) لا تتعدى 10 في المئة من مجموع تلك الأمراض، وهذا يعني أن الأطباء لا يستطيعون إلى الآن إعطاء علاج لنحو 90 في المئة من المصابين بتلك الأمراض.

العلاقة بين الوراثة والأمراض النادرة
تعد العلاقة بين الأمراض الوراثية والأمراض النادرة علاقة وثيقة جداً؛ حيث إن جميع الأمراض الوراثية تقريباً هي أمراض نادرة، بينما لا يمكن لنا إطلاق القول بأن جميع الأمراض النادرة أمراض وراثية، وهذا مع الاعتراف بأن حدوث خلل بالمادة الوراثية يقف وراء ما يقارب 80 في المئة من الأمراض النادرة.
وإلى جانب العامل الوراثي هناك عوامل أخرى يمكن أن تؤدي دوراً مهماً في تطور الأمراض النادرة، من هذه العوامل العامل البيئي، والنظام الغذائي، والتدخين، والتعرض للمواد الكيميائية، أو حدوث الحساسية والالتهابات (البكتيرية أو الفيروسية)، حيث يمكن لهذه العوامل أن تسبب المرض النادر بشكل مباشر، ويمكن لها أيضاً أن تتفاعل مع العوامل الوراثية فتكون سبباً في ازدياد حدته.
 ومع اكتشاف تأثير كل هذه العوامل، إلا أن هناك عديداً من الأمراض النادرة لا يزال سبب الإصابة به غير معلوم حتى اليوم. ويمكن ملاحظة علامات الإصابة بالأمراض النادرة في مرحلة مبكرة من حياة الإنسان، فعند الولادة أو في مرحلة الطفولة يمكن للأطباء تشخيص (أكثر من خمسين في المئة) من الأمراض النادرة، وهناك كثير من تلك الأمراض يظهر أثناء مرحلة البلوغ.

العواقب الطبية والاجتماعية لندرتها
لفترة طويلة لم يكن الأطباء والباحثون على علم بالأمراض النادرة، وحتى وقت قريب جداً لم تكن هناك بحوث حقيقية للصحة العامة فيما يتعلق بالمسائل المتصلة بالأمراض النادرة، ومما لا شك فيه أن العلاج المناسب والرعاية الطبية الجيدة يمكن لهما تحسين نوعية حياة المصابين وزيادة عمرهم المتوقع. 
وإلى الآن يعاني مجال الأمراض النادرة شحّ أو محدوديّة في المعرفة الطبية الأساسية، ففي كثير من الحالات هناك نقص في معرفة ظروف المرض النادر من حيث: (سبب المرض، والعمليات الفسيولوجية المختلفة المرتبطة به، والسير الطبيعي والتطوري له)، وهذا النقص في المعرفة يعوق إلى حد كبير القدرة على تشخيص وعلاج هذه الأمراض.
وغالباً ما يستغرق الحصول على التشخيص وعلى العلاج الملائم سنوات طويلة، حيث إن هناك تحديات جوهرية وفريدة خاصة بالأمراض النادرة مقارنة بغيرها؛ ومن أبرز هذه التحديات التي تواجه الباحثين ومطوِّري العقاقير، عدم قدرتهم على الوصول إلى عدد مناسب من المرضى المصابين بتلك الأمراض، ويتضح ذلك أكثر ما يتضح في مرحلة التطور الإكلينيكي لهذه الأمراض، وهذا بدوره يعقّد المهمة إلى حد كبير.
فقلة أعداد المرضى المصابين وانتشارهم بمختلف البلدان مع اختلاف الأعراض من مريض لآخر يعاني المرض نفسه، وقلة مراكز الاختصاص وشحّ الخبرة السريرية في التعامل معهم، كل ذلك أدى إلى تأخير وجود حلول جوهرية لهذه الأمراض. وفي ضوء كل ما سبق يمكن تخيّل ما يواجهه المصابون بهذه الأمراض من صعوبات أثناء سعيهم لتشخيص حالاتهم، أو أثناء محاولتهم الحصول على المعلومات ذات الصلة بمرضهم، أو أثناء محاولتهم الوصول إلى أطباء مؤهلين للتعامل مع حالاتهم.
ومما تجدر معرفته أن المصابين بالأمراض النادرة هم أكثر عرضة للأذى من النواحي النفسية والاجتماعية والاقتصادية. ويمكن التغلب على هذه الصعوبات باتباع سياسات ملائمة، لذلك يجب على العلماء والمختصين العمل عن قرب مع المرضى وعائلاتهم للوصول إلى ما هو أنسب وأنفع لهم.
ونظراً إلى قلة المعرفة العلمية والطبية الكافية، لا يتم تشخيص عديد من المرضى، وبالتالي لا يزال مرضهم مجهولاً، وهؤلاء هم الأشخاص الذين يعانون صعوبات أكثر من غيرهم. 

التقدم المتوقع في تشخيصها وعلاجها 
يمكن الآن تشخيص المئات من الأمراض النادرة من خلال الاختبارات البيولوجية وتقنيات سلسلة الجينوم، حيث اكتشفت تلك التقنية في الأعوام القليلة الماضية الأسس الجينيّة لعديد من الأمراض النادرة. وقد أحرز ذلك بالفعل تقدماً باهراً بالنسبة لبعض الأمراض، مما يدل على أننا يجب ألا نتخلى عن الكفاح، بل على العكس من ذلك، فمواصلة وتكثيف الجهود في مجالي البحث والتضامن الاجتماعي على الصعيدين المحلي والعالمي يجلبان النفع الكبير.
ولتحسين معرفه التاريخ الطبي لهذه الأمراض يجب المبادرة بإنشاء سجلات متخصصة، مع التركيز على إنشاء بيانات وبائية موثقة، فذلك يوفر أساساً مهماً يساعد على معرفة المزيد من التاريخ الطبي للمريض وأسباب الأمراض النادرة، ورصد سلامة وفعالية العلاج السريري وتقييم نوعية الرعاية المقدّمة. كما أن إنشاء شبكات متخصصة يساعد في تبادل الخبرات والمعلومات بين الباحثين من أجل تقاسم نتائج بحوثهم، مع ضرورة الاهتمام بتمويل البحث وتطوير العلاجات المبتكرة، مثل علاجات الخلايا الجذعية والعلاجات الجينية لتصبح أكثر شيوعاً من الناحية العملية.
وإلى جانب ضرورة الحصول على الرعاية الصحية الجيدة، يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار ضرورة الحصول أيضاً على دعم اجتماعي ونفسي جيّد، وذلك عن طريق الاتصال الفعال بين المستشفيات والمؤسسات العامة، بما يتيح إمكان إدماج المصابين.

العالم العربي والأمراض النادرة
أشرت سابقاً إلى أن عدد المصابين بالأمراض النادرة في عالمنا العربي يبلغ خمسة وعشرين مليون مصاب، واعتباراً لكل ما تقدم أقول إنه لا بد للمجتمع العربي أن يعترف بضرورة مواجهة الأمراض النادرة، وأن يعتبرها من أولويات الصحة العامة على غرار العالم الغربي، وهذا يستلزم وضع خطة وطنية جادة لمواجهتها.
 وهناك عدد من الإجراءات التي يمكن بدورها أن تحدّ من وجود تلك الأمراض، وهي أمور وقائية بالدرجة الأولى؛ كإجراء فحص ما قبل الزواج، وذلك لتفادي بعض الأمراض الوراثية المتنحية والناتجة عن زواج الأقارب، ومنها أيضاً إجراء بعض الفحوص الوراثية للمرأة الحامل، التي تساهم في الكشف عن الاعتلالات الوراثية للجنين، ومنها كذلك إجراء فحص فوري لجميع المواليد الجدد؛ مما قد يتيح تجنب حدوث إعاقة محققة■