رجل العائلة
قليلاً ما تحدث «أبو أحمد» عن نفسه، جُلُّ حديثه عن إخوته الذين تكشّف عنهم مبكراً غطاء الدفء والأمن بوفاة والدهم، فبات باعتباره أكبرهم «رجل العائلة» والمعيل الوحيد لهم، تحمّل المسؤولية الثقيلة صغيراً، وفرضت عليه ظروف الحياة أن يصبح رجلاً في مرحلة المراهقة المبكرة.
سردُ التضحيات التي قدّمها سيكون شبيهاً بقصة فيلم مكرور، من ترك المدرسة والعمل الشاقّ وتحمل إهانات أرباب العمل، واستغلالهم حاجته، وحرصه على أن ينال إخوته على عكسه فرصتهم في التعليم، وتأخر زواجه حتى ولج الكهولة بكفين فارغين لكن بقلب يفيض أبوّة وحناناً.
غالباً ما تنتهي قصص التضحية بشعور المضحي بالألم وجحود إخوته ونكران الجميل، لكن ليست كلُّ النهايات متشابهة ومكررة في الواقع، فحين تسمع «أبو أحمد» - بكنيته غير المتحققة على أرض الواقع - تكتشف مفهوم التضحية بمعناها الشامل العميق والحقيقي، فهي العطاء الذي لا ينتظر مقابلاً، والحب غير المشروط، يرى ذاته في ابتسامة إخوته الذين أوصلهم لبرّ الأمان، ويرى في نجاحاتهم نجاحه، ويحضن فيهم أبناءه الذين لم يُكتب لهم أن يروا النور، وأفضل نصيحة يقدمها لمجالسه ألا تتوقع من الآخرين الكثير كي لا تصاب بخيبة الأمل.
تكتسبُ ملامحه رضا المعطي، الذي يرى في مساعدة وإسعاد الآخرين سعادة خالصة وبهجة صافية لا يعكّرها انتظار الثمن والمقابل، وهو يقتات على ذكريات الماضي الذي كان أليماً وثقيلاً، لكن الزمن يجمّل القبيح ويمحو بأنامل الرحمة ألوان الشقاء فتبدو باهتة مقابل إشراقة لحظات الفرح، فكأني بـ «أبو أحمد» يرسم صورة وردية لعمر قضاه في البذل والتضحيات وجلس على قارعة العمر يرنم أغنيات لفرح غاب■