قراءة في رواية «الطريق إلى سُحماتا» للسّعافين سيمفونيّة الرّحيل الفلسطيني الطّويل

قراءة في رواية «الطريق إلى سُحماتا» للسّعافين سيمفونيّة الرّحيل الفلسطيني الطّويل

لعلّ الرواية التي بين أيدينا «الطريق إلى سُحماتا»، (الصادرة عن الدار الأهلية بعمّان في عام 2017 للدكتور إبراهيم السّعافين)، تكون واحدة من الروايات القليلة التي استطاعت أن تقارب بعمق القيامة الفلسطينية اللاهبة، تلك القيامة التي ابتدأت بحرب عام 1948، وأسفرت عن تشريد الشّعب الفلسطيني، واحتلال الجزء الأكبر من فلسطين، والتي استمرّت فيما بعد على هيئة حروب أخرى يشنّها الكيان الصهيوني المجرم.

 تلقي رواية «الطريق إلى سُحماتا» الضّوء على مقاومة الشعب الفلسطيني الباسلة، وتصدّيه المستمرّ للمشروع الاستيطاني الصهيوني في وطنه.
تتحرّك وقائع الرواية في عدد كبير من المحطّات: الولايات المتحدة، ومصر، ولبنان، والأردن، وكندا، والكويت، وفلسطين. ولو دققنا النّظر في هذه المحطّات لوجـــــدنا أنها تتــكوّن من فلسطين، باعتبارها وطناً لمعظم شخوص الرواية، إضافة إلى بعض دول الجوار التي تحيط بها، والتي التجأ إليها الشّعـــب الفلسطيني المهجّر من وطنه. أمّا أمريكا فكانت محطة للدراسة وتلقّي العلم. 
تبدأ الرواية بفصل يتحدّث عن عدنان خليل السعدي، الطالب الفلسطيني اللاجئ، الذي ذهب إلى الولايات المتحدة كي يكمل دراسته في جامعة جورج تاون، بعد أن بدأها في إحدى الجامعات المصرية. 
يلتقي عدنان عدداً من أصدقائه الذين كانوا زملاء دراسة في فترات سابقة، إضافة إلى مجموعة تتألف من الزملاء الجدد الذين تعرّف عليهم، ومن هؤلاء سلمى معاوية العُمر، التي سيقع في غرامها، وسيكون لها شأن كبير في حياته فيما بعد.
الجرح الكبير 
لا تلبث أحداث الرواية، بعد قليل من انطلاقها، أن تنعطف باتّجاه الفالوجة، قرية عدنان التي جرى احتلالها في عام 1948، وذلك من خلال مشاهد قاسية تضخّها ذاكرة الأسرة التي تقيم في الأردن، من خلال الأب خليل السعدي، أو الأم رشا، أو الأخ يوسف، أو عدنان نفسه. فالجرح الكبير لا يزال مفتوحاً على اتّساعه، وضياع الفالوجة ما هو إلا ضياع وطن.
الفالوجة هنا، ما هي إلا واحدة من البؤر الملتهبة، التي سيتفجّر منها الدّم والصّراخ على امتداد الرواية، فما إن يلتئم شمل الأسرة في جلسة، أو ما إن يزورها أحد من الأهل أو الأصدقاء حتى يذوب المكان على آخره، ويجد أفرادها أنفسهم محاصرين في بيوتهم الطينية بالفالوجة، وبنادق القتلة الصهاينة مصوّبة باتّجاههم، والطائرات تصبّ حمم النيران فوق رؤوسهم. في هذه الأثناء ثمّة ترويدات شعرية تنطلق على لسان خليل حمدان، ويتردد صداها الحارق في أكثر من موقع بالرواية، لكأنها لازمة شعرية تتكرّر في سيمفونية الرحيل الفلسطيني الطويل:
«الله يساهل عليكو طالعين جبال
ويردّكو بالسلامة وهاديين البال».

عمود الخيمة 
البؤرة الثانية الملتهبة هي قرية سحماتا في الجليل الفلسطيني الأعلى، وهي قرية سلمى.
في بيت معاوية العمر، والد سلمى، بمخيم الرّشيدية، يجتمع الأهل والجيران، ويأتي الأصدقاء من كلّ صوب، ويجلسون ليتداولوا أوضاع الشعب الفلسطيني. فمعاوية العمر أو (أبو أسامة) كما يناديه الناس، هو بمنزلة عمود الخيمة في المخيم، وحارس أحلام المشرّدين. في تلك الجلسات الحميمة، وما إن تبدأ، حتى يسافر أبو أسامة بذاكرته إلى قريته الحبيبة سحماتا بشمال فلسطين، فلا يبقى شيء هناك إلا ويتذكّره. يتذكّر ويسرد على الحضور جمال الحياة في القرية الهادئة، ثمّ لا يلبث أن تغيم عيناه وتتهاطلا بالدمع، ويسرد على مسامعهم ما حدث، حين انقضّت العصابات الصهيونية على القرية، وقف لها هو ورفاقه بالمرصاد، لكنّ أسلحتهم القديمة والعتاد القليل الذي لديهم، جعلا المعركة غير متكافئة، فغادر الناس القرية وهاموا على وجوههم في المنافي.
تلك الذكريات التي يسردها أبو أسامة في جلساته، ستتكرّر فيما بعد، خاصةً حين يقع أبو أسامة فريسة للمرض. لكأنّ تلك الذكريات بمنزلة حرز الحنين الذي يمدّه بالطّاقة، ويجعله قادراً على الصّمود والمواجهة.

أساطير اليهود
في أمريكا، ومن خلال اللقاءات والندوات التي تقيمها «منظمة الطلاب العرب»، كان الموضوع الفلسطيني هو الموضوع السّاخن والأهمّ المطروح على طاولة الحوار. في هذه اللقاءات يبرز كلّ من: عدنان وسلمى، كما ذكرنا، د. وائل البرّي (أستاذ العلوم السياسية) وزوجته د. ديبي (أستاذة التاريخ)، إحسان الصّبّاغ (طالب في قسم العلوم السياسية) وصديقته غادة ربيع (طالبة في قسم الأدب الإنجليزي)، بوب (الطالب الأمريكي في قسم العلوم السياسية) الذي يعدّ أطروحته عن المسألة الفلسطينية، وصديقته جانيت (محاضرة في اللغة العربية). من الأسماء المهمة نرى أيضاً كلاً من الطالب الأردني محمد الراعي ابن قرية الوهادنة، والطالب بسّام ضاهر من لبنان.
كان الطلبة يتحاورون في المآلات التي وصلت إليها القضية الفلسطينية، وأحياناً كان الحوار يغوص عميقاً في المسببات التي أدّت إلى اندلاع الصّراع. تُرى لماذا ترك اليهود بيوتَهم وممتلكاتِهم في البلاد التي كانوا يقيمون فيها، وجاءوا إلى فلسطين؟ هل تكفي أساطيرهم الدينية لإقناعهم بالأمر؟ أسئلة كهذه وغيرها كانت تدور في أذهانهم، وكانت الحال المأساوية التي وصلت إليها القضية الفلسطينية تقضّ مضاجعهم:
«أصبح كل شيء على المحك، لم يعد متّسع كبير للأحلام الفردية والجمعية. إنها وجهاً لوجه أمام حلمها القديم، أن يكون لها وطن كسائر النّاس، وأن تسعى لهذا الهدف مهما طال الزمن». 
هذا ما كانت الطالبة الفلسطينية غادة ربيع تحدّث به نفسها، حين تخلو إلى وحدتها.
أمّا سلمى فقد راحت تسأل عن جدوى دراستها ووجودها في الولايات المتحدة، في الوقت الذي يعاني فيه شعبها الأمرّين، وفي الوقت الذي دخل مرض أبيها مرحلة الخطر. 
عدنان وإحسان والراعي وبسام صاروا يسألون هم أيضاً السؤال نفسه، خاصةً أنّ الثورة الفلسطينية في لبنان تمرّ بمأزق خطير بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، والتهديد بالقضاء عليها من الجيش الصهيوني في الجنوب اللبناني.
لهذه الأسباب، قرر هؤلاء الطلاب الالتحاق بالكتيبة الطلابية، والذهاب إلى لبنان.

إدانة كونية
في الفصول الأخيرة تتنقل بنا الرواية بين معسكرات الفدائيين بالجنوب، وقواعدهم في بيروت، وبين مخيم الرشيدية، من خلال تسليط الأضواء على بيت معاوية العمر، الذي كانت الأخبار تصله أولاً فأوّلاً.
في هذه الأثناء يجيء بوب (الطالب الأمريكي) إلى لبنان، ومن خلال التقائه باللاجئين الفلسطينيين، وتلمّس معاناتهم، تتضح أمامه الصورة، فيقرر هو الآخر الانخراط في صفوف الفدائيين. وذات مساء يزور بوب بيت معاوية هو وصديقته روز، الفتاة الأمريكية التي درست اللغة العربية في بيروت، حيث يلتقي هناك الأصدقاء والصديقات. في هذه الزيارة يتقدّم بوب بطلب يد روز من معاوية، وتقام لهما في المخيم حفلة زفاف على الطريقة الفلسطينية. يلتحق بوب بإحدى قواعد الفدائيين في بيروت، وما يلبث أن يختفي في عملية اختطاف غامضة.
تشتعل خطوط التماس في بيروت بهجمات متبادلة بين الفدائيين ومناصريهم من الحركة الوطنية اللبنانية من جهة، وقوات الانعزاليين من أفراد الكتائب والقوّات اللبنانية من جهة ثانية.
أمّا في الجنوب فالاشتباكات على أشدها، بين قوات الثورة الفلسطينية من مختلف الفصائل والقوات الصهيونية، خاصةً أن إسرائيل أعلنت أنها ستنتقم من الثورة ردّاً على عملية الشهيدة دلال المغربي.
ينتقل كل من عدنان وإحسان والراعي إلى قواعد متقدّمة قريبة من حدود فلسطين عام 1948، ويخوضون إلى جانب رفاقهم من الفدائيين معارك ضارية مع قوات العدو الصهيوني. في إحدى المعارك يقع عدنان وإحسان في الأسر، لكنهما لا يلبثان أن يتحررا من الأسر بعملية بطولية يقوم بها رفاقهم. 
وفي أثناء إحدى المعارك، ووسط الدّمار الذي أوقعته الطائرات والمدفعية الصهيونية، والشهداء والجرحى، يخطر في بال الراعي أن يسأل السؤال المباغت:
«أيّ شيطان خطط لهذه المأساة؟ وأيّ حضارة تقتات من حياة الأبرياء الآمنين»؟!
هذا السؤال الخطير الذي تسأله الرواية على لسان أحد أبطالها، لا يشكّل إدانةً للكيان الصهيوني المجرم فقط، بل إدانة كونية للعالم الغافل، الذي لا تزال هناك دول كثيرة فيه تخطب ودّ هذا الكيان، وتدافع عنه، بل وتمدّه بالأموال والأسلحة.

التّسوية الحقيقية 
في المقابل، هل نستسلم أمام صلف الصهاينة وعدوانهم؟ الجواب يجيء على لسان سلمى ابنة سحماتا، التي تقول: «لقد أصبحت سحماتا يا أبي أبعد من ذي قبل، لكنّ حلمك باق معنا. نخسر معركة ومعارك، لكننا سنقاوم الهزيمة. ما زالت سحماتا التي أحببتَها حيّة في الصدور». يتصادى قول سلمى مع ما يقوله إحسان الدّباغ قبل أن يستشهد: «كل التسويات مؤقّتة، لأنّ التسوية الحقيقية أن أعود إلى يافا».
وهكذا تتضح لنا جيداً معالم الطريق إلى سحماتا. إنّ أكثر ما يميّز تلك الطريق أنها مزروعة بأجساد الشهداء■