الارتجال والفلسفة عند سبونفيل

الارتجال والفلسفة عند سبونفيل

أندريه كومت سبونفيل هو واحد من الفلاسفة الفرنسيين الأكثر قراءة، سواء في فرنسا أو في الخارج. ولد سنة 1952 في باريس، وتخرّج في المدرسة العليا للأساتذة، وهو مبرز في الفلسفة، وأستاذ محاضر بجامعة السوربون.
له كثير من المؤلفات، منها: «لست فيلسوفاً» (1993)، و«قيمة وحقيقة» (1994)، و«عروض حول الفلسفة» (2000)، و”المعجم الفلسفي» (2001)، و«هل الرأسمالية أخلاقية؟» (2004)، و”لذة التفكير» (2010)، و«الجنس أو الحب» (2012).

ارتبط مفهوم الفلسفة عند سبونفيل بفنّ العيش متجاوزاً المفهوم الذي يعتبرها نمطاً من التفكير، وهي بهذا المفهوم الجديد تسعى إلى أن تتوجه للإنسانية جمعاء تخاطب الحياة وتبدد الأوهام، وتساعد على التفكير في الحياة والبحث عن سبل السعادة بشكل ميسّر وعفوي. 
ويتساءل سبونفيل عن كيفية العيش بشكل جيد في عالمنا الراهن الذي يعيش على وقع الاضطرابات والفوضى والقلق. محاولاً الإجابة عن تلك التساؤلات في كتابه المعنون «الذي لا عزاء له، وارتجالات أخرى»، الصادر عن دار نشر «بوف» هذا العام، وهو عبارة عن مقالات جديدة يستحضر فيها كاتب «المعجم الفلسفي» الشهير مجموعة من المواضيع من قبيل الطبيعة والوحدة والموسيقى والتعليم... وذلك بطريقة ارتجالية في عرض تلك المواضيع. وهي سمة تميزت بها كتابات المؤلف في الآونة الأخيرة، بل إنه خصص جانباً مهماً في الكتاب للحديث عن الارتجال في الأدب والفلسفة.

تعريف الارتجال
يقول سبونفيل: «اقتبست الكلمة من شوبيرت، الذي كتب ارتجالات رائعة، إنها قطع موسيقية أو نثرية مكتوبة على الفور بلا تحضير. لقد كتب في معجمه، إنه كالارتجال للذين يحبون شوبيرت نعرف أنها موسيقى حميمية وكئيبة».
ويضيف: «عنونت هذا الكتاب (ارتجالات)، لأنه يحكي عن الفلسفة الحميمية والكئيبة، لأنها جزء مني، إنه أقرب كتاب إلى شخصيتي. لطالما قلت إن الفلسفة هي التفكير في الحياة وعيش الفكر، لكن يمكننا فعل ذلك من مسافة قريبة، لأن الفكر يفرض مفاهيم وتجريدات، لذا نؤلف كتباً مكتوبة من وجهة نظر الكون».
إن هذه المقالات التي يبلغ عددها اثنتي عشرة تتشكل في مجملها ارتجالات من نصوص قصيرة، مكتوبة على الفور ومن دون إعداد، تراوح بين الفلسفة والأدب، وبين الفكر والكآبة، على غرار ما فعله شوبيرت، الذي قدّم شكلاً موسيقياً نبيلاً، وكذلك ما قدمه الفيلسوف مونتين، في «الارتجالي والفجائي». إن النص المرتجل ليس أطروحة، وإنما هو مقال بالمعنى المونتاني للمصطلح، إنه يتيح نوعاً من الحرية الكاملة في ممارسة الكتابة.

فلسفة الارتجال
يقول المؤلف: «عندما تكون فلسفة الآخرين عاجزة، فكل ما تبقى هو أن نثبت شكوكنا، وأن نعود إلى شكل من أشكال الطفولة، وسذاجة الفكر». إنه بذلك أشبه برجُل جريح يجعلنا نعيش تجربته، التي تدعونا إلى البحث بلا كلل عن سر السعادة، وعن إيجاد معنى لحياتنا. 
فكيف يمكن أن تساعدنا الفلسفة إذن في حياتنا اليومية؟ وماذا تمنحنا حتى نعيشها بشكل أفضل؟ 
يمدنا سبونفيل ببعض المفاتيح في هذا الكتاب التي قد تمكننا من فتح بعض الأبواب الموصدة التي نقف أمامها عاجزين، وتحد من تقدمنا وسيرنا نحو ما هو أفضل والاستمتاع بالسعادة. 
وينطلق المؤلف في هذا الصدد من قطبين رئيسين هما هيغل ومونتين. يعزى إلى الأول العبارة التالية: «ما هو في نظامي ويشبهني فهو خطأ». إن الفرد المميز عند هيغل لا أهمية له.
أما مونتين فيقول العكس: «ما لا يشبهني في أبحاثي هو خطأ»، وهو محقّ أيضاً، ذلك أن لدى الفيلسوف الخيار والحرية في التفكير عن قرب في المفهوم والكون»، وهذا بالضبط ما حصل مع المؤلف في بعض كتبه، حيث تمحور تفكيره بالقرب من نفسه. وهذا ما يسميه ارتجالاً.
يقول: «أنا معجب جداً بمونتين، لأنه تفلسف قرب نفسه قدر الإمكان، هذا ما أحاول فعله».
لقد خصص المؤلف بعض الصفحات للحديث عن أصل الاكتئاب، معتبراً أنه نابع بالضرورة، إما من الجسم وإما من الطفولة، وحتماً من الاثنين، إنه من الجينوم وما فوق الجينوم. ويقول أيضاً إن هذا الاكتئاب نابع كذلك «مما عشته وكيف كنت عند ولادتي، اخترت أن أميل إلى الفكر لا إلى السرد، لأنني لا أتصور نفسي وأنا أحكي طفولتي. ففي شبابي حلمت بأن أصبح كاتباً، وعندما بلغت الثالثة عشرة عشقت الروايات وأعجبت بأليكساندر دوما، ولما بلغت الثامنة عشرة بدأت أكتب نصوصاً أدبية، وقد كانت حزينة جداً. في الوقت ذاته عندما كتبت نصوصاً فلسفية فإنها مالت إلى الفرح أو الحماس والرغبة في عيش الحياة بحماس. قررت أن أتجه إلى النور، لم أرغب في التأمل بالاكتئاب، وبالأخص في هذه النصوص، فبعد أن ألّفت عديداً من كتب الفلسفة المفهومية، أحببت - في هذه النصوص - الاقتراب مما أنا عليه».
تكلّم مونتين عن مسيرته الحزينة وما يتعلق بمرضه وأمه، وأولاده الذين خسرهم الواحد تلو الآخر. وهذه المسيرة تتقاطع في بعض جوانبها مع ما عاناه سبونفيل من آلام فقدان طفلته.

الذي لا عزاء له
يؤكد سبونفيل، في حواراته وكتاباته، أنه كان يحلم أن يكون كاتباً أو روائياً، لكنه حينما اكتشف الفلسفة تغيّر كل شيء بالنسبة إليه. فالحياة الصعبة والمؤلمة التي عاشها في كنف أم مكتئبة انتحارية، جعلته يترعرع في حزنها، في هشاشتها، وفي مرضها، الأمر الذي جعله يكتوي بعلّتها، مؤكداً في هذا الإطار «أننا لسنا مضطرين دوماً إلى الشعور بالسعادة، وبأنه يحق لنا أن نعيش تجربة العذاب، ذلك أن المأساة هي جزء لا يتجزأ من حياة البشر». 
إن التعبير عن مثل هذه التجارب والمواقف قد يختلف ويتباين، غير أنه يتطلب نوعاً من الارتجال. لقد أبرز المؤلف جملة محورية ذكرها مونتين: «أنا لا أعلم، بل أحكي»، أما شوبيرت فإنه لا يحكي عن نفسه، بل يحاول إيجاد المرادف الموسيقي للتعبير عن روحه، كما يقول ليونيل. في حين أن المؤلف يحاول إيجاد مرادف فلسفي وأدبي، لأن الارتجال يقوم على هذين المجالين. يقول: «ليس هذا العمل سيرة حياة، لكنني أحاول التفكير فيما هو أقرب إلى نفسي، هذه هي المحاولة التي قمت بها، ليس عليّ أن أقول: هل نجحت أم لا».

التعليم والضجر
 يقول المؤلف في مقطع مميز: «إذا اختفى الضجر وزال، فسيصبح التعلّم صعباً»، ثم يتساءل: «ماذا سيحصل لو كان كل التلاميذ والأولاد موصولين أمام الشاشة وما عادوا يشعرون بالضجر؟».
ويشير كذلك إلى أنه ما من تلميذ شاطر لم يضجر قط، «أظن أن التلميذ الشاطر ليس هو الذي لا يضجر أبداً في المدرسة، بل هو الذي يقبل بالضجر، خير مثال عن ذلك هو مسرحيات كورنيه وراسين وموليير، فعندما نقرأها، فإنه غالباً ما نعترف بأننا أحسسنا بالضجر. إذا ضجرنا فإننا نحن المذنبون، وهذا لا ينتقص في شيء من عبقرية راسين. لكن التلميذ الكسول هو الذي يقول: إن راسين فاشل، لأنه ببساطة شعُر بالضجر. إن الذي يقول لي: قرأت «نقد المنطق» ولم أضجر، فإنه كاذب. والذي يقول: قرأت يونغ وأرسطو ولم أضجر قط، فهو كاذب أيضاً. وعلى الرغم ذلك فإن كانْت ويونغ وأرسطو يعتبرون من العباقرة العظماء». 
إن الهدف ليس استبدال اللذة بالجهد في المدرسة، فهذا أمر سخيف، بل إن الهدف يكمن في مساعدة التلاميذ للتلذذ بالجهد، فهناك فرق بين إيقاظ اللذة، والرغبة في الفعل، ويجب في هذا الصدد عدم انتظار السعادة الجاهزة. إن السعادة لا تكمن في الامتلاك وما نتحصل عليه، بل تكمن في الفعل.

الوحدة والعزلة 
ينتقل المؤلف إلى موضوع الوحدة والعزلة، معتبراً أن الوحدة هي بُعد مكوّن للواقع البشري. فكل إنسان يعيش شكلاً من أشكال الوحدة التي لا تشبه بأي حال من الأحوال وحدة الآخرين. يقول مبيناً ذلك: «لا أحد يستطيع أن يعيش مكاني ما أعيشه. للسبب ذاته، نعيش وحيدين، لأنه لا أحد يستطيع أن يعيش مكانك». وعلى الرغم من أن عدداً معيّناً من التكنولوجيات الجديدة يهدف إلى تفادي العزلة، فإنها في المقابل تحتجز المرء في عزلة من نوع آخر، وبالتالي بقدر ما تجب محاربة العزلة، يجب تحمّل الوحدة.
إن المشوق في هذا الكتاب يكمن في أهمية طرح الأسئلة أكثر من البحث عن الأجوبة. إنه كتاب يدعونا إلى التأمل في حياتنا اليومية وقبول ما تخفيه لنا هذه الحياة من آلام ومعاناة وفقدان. وهكذا فإن الفلسفة مع سبونفيل، لم تعد معرفة نظرية مسرفة في خطاباتها ومفاهيمها المجردة وإشكالاتها المعرفية، بل أضحت ممارسة حياتية تؤسس لنمط حياة وفن للعيش، وتستشرف الغد الأفضل■