العربية و«التقنية» منزع علمي أم تطبيق عملي؟

العربية و«التقنية» منزع علمي أم تطبيق عملي؟

اعتاد ناطقو العربية المعاصرون على الشعور  بآفة النقص اللغوي؛ فكلما بحثوا عن لغتهم وجدوها مستوية - بئيسة - على درجات متأخرة على سلم ترتيب اللغات الحضارية المعاصرة، فلا تظهر  لها آثار  محسوسة ترقى بها؛ فألفاظها غائبة عن المشاركة في النهضة العلمية والصناعية، التي ألقت بظلالها على العالم أجمع منذ قرون، كما أنها تائهة لا دليل يهديها، ويأخذ بها إلى التفاعل مع نهضة العالم الإنسانية في الأدب، والنقد، والاجتماع، والفلسفة...، وهذه أضرب من العلم سلكت منذ عهد بعيد سبلاً جديدة في التعبير  والتصوير، والنظر والتحليل، والقراءة والمقاربة، كان لها أثر  كبير في عمران البلاد وتقدمها، لكن العربية - على غير  رضا منها - تخلفت عن كل ذلك، وألفت نفسها خارج ميدان صالت فيه وجالت لقرون متطاولة. 

ترك تراجع العربية في العصر الحديث تمثلها العالي محصورا في دائرة الأداء الديني، الذي حافظ بقوة فريدة على أصولها وقواعدها، فلم تستطع الألسنة، على تبلبلها وتباينها، وقوتها وضعفها، النيل منها وتبديلها، وهذا مرجعه إلى الشارع الحكيم، الذي لو شرع التعبد المباشر وأداء الشعائر بغير العربية، لكان استدعاء ماضيها، ودراسة حاضرها، وتشوف مستقبلها محط نظر، قد يفضي في الأقل إلى هجرانها واستحالتها لغة أقلية بائدة كأخواتها الساميات، وهذا يحتاج إلى بيان يخرج عن حد هذه المقالة. 
وبسبب هذا التراجع لحق العربية المعاصرة ضعف شديد، لم يسبق له أن أصابها في تاريخها المتطاول، فأصبح تجاورها مع أي لفظ آخر من الألفاظ العلمية الحديثة، يشعرها بتلك المتلازمة المرضية؛ فإن ذكرنا على مسامعها علم اللغة الحديث اضطرت إلى سماع تمهيد أعجمي خالص لا حظ لبيانها فيه، وإن خاطبناها بلغة النقد الحديث غرقت بنظرات وفلسفات غريبة غربية لا حظ لعقل ناطقها فيها، حتى انتهى الأمر ببعض أهلها وكثير من أعدائها - من أهل هذا الزمان - إلى وصفها بأنها لغة عتيقة لا تملك أن تجاري نتاجات العصر العلمية، على أن هذه التهمة عتيقة أيضا، لكن استمرارها عقودا متتالية ووعينا بثقلها واستطالتها، يدلان على أن أبناء العربية غير جادين في إيجاد حل لها، سوى ما نسمعه من تلك اللغة الإنشائية العاطفية، التي نسقطها عادة في حالة الدفاع الضعيفة عن أفكارنا واتجاهاتنا. 

العلوم وقصور العربية
يبدو أن العقل العربي المعاصر مرد على إشعار نفسه ولغته بالضعف؛ فأصبح - واعيا أو غير واع - يبحث عما يضعفها ويبث الهوان فيها؛ ذلك أننا نناقش هنا قضية لا تعنيها مباشرة، بل يتقاطع معها علم آخر يعاني عند العرب الضعف المعرفي أضعاف ما تعانيه العربية نفسها، وهذا نهج في التناول مكرور غريب؛ إذ صادفنا قديما قضايا تضع العربية في تقاطع مع علوم أخر، كان قصور العقل العربي العلمي فيها واضحا بجلاء، ومعلوم أن تمازج العربية مع العلوم التطبيقية خاصة، يجردها من خصوصيتها العلمية، ويجعل منها علم آلة، أو وسيطا معرفيا، أو وسيلة لإثبات مقاصد العلوم، فلا يظهر لها مطلب علمي خالص يخدم فروعها المعرفية، ومن العجب أن نقارب بعمق شديد علوم الآلة، ولا نمارس مثل هذه المقاربة مع العلم الخالص نفسه. 
إن التقنية الحديثة شاهدة على ما يورثه تقاطع العربية مع العلوم الأخر من ضعف عام لها؛ فدخول العربية في مجال التقنية يدخلها ميدانا جديدا من ميادين الصراع التي وقعت فيها قسرا منذ قرون، فتقنية البرامج المعدة من أجل خدمة اللغات أنشأها أعجمي، لا حظ للعربي بصناعتها، ثم يصدح لسان الرقيب المجهول مطالبا العربي بتطبيقها على لغته تطبيقاً دقيقاً، معلنا- بادئ الأمر- أن أي تعارض يطرأ بين البرامج واللغة سببه قصور اللغة عن الوفاء بمتطلباتها، ومعلوم أن هذا الإعلان - التهمة - لا يمكن قبوله عند أي باحث اختص باللغات، وتعرف  اتساعها وشمولها، وتجاوزها الحقيقي لكل ما قد يفكر فيه العقل التقني الحديث، وما سيفكر فيه مستقبلا، لكن العربية تدخل - كعادتها - الميدان وهي منكسرة أشد ما يكون الانكسار، فتتقبل كل ما تقرف به من غير أن ترى في أبنائها ركناً شديداً تأوي إليه، وسيسألون. 
والسؤال الآن: هل قصور العربية عن الدخول في عالم التقنية يعني ضعفها؟ 
الإجابة عن هذا السؤال تقتضي طرح سؤال آخر: هل العلاقة بين العربية والتقنية تنزع منزعا علميا أم تطبيقا عمليا؟ لا ريب في أن شغل العربية الأساس هو تصحيح الأداء اللغوي لدى الناطقين بها، وهذا سبب من أسباب صناعة النحو العربي قديما، فضلا عن وجود مشاغل أخر تلازم عقل دارس العربية: لغة وأدباً، فالعربية علم مستقل بنفسه، له أصوله وقواعده الخاصة به، فإذا مزجناها بعلم آخر، خرجنا بثلاث أحوال: إحداها، غلبة أحد العلمين الآخر وسيطرته عليه، وهذا يحكمه قوة العلم الذي تنافسه العربية وضعفه، والثانية أن يأخذ أحد العلمين من الآخر أخذ تأثير، وهذا تحكمه حاجة العلمين لبعضهما بعضا، والثالثة أن العلمين لا يقبلان التمازج والاختلاط، فتكون الدعوة إليهما مغالطة علمية، يجب تصحيحها.
والعربية دخلتها التقنية على رغمها؛ لأن التقنية - بالمفهوم الواسع - تعد صورة من صور الغزو الحضاري المرغوب فيه عند الأمم جميعا، فإذا ما دخلت أرض قوم قامت لها الأفراح، بل إن ثقافة المرء غدت تقاس بحجم الاستعمار التقني ومساحة سيطرته على عقله، والمفارقة أن لفظة الاستعمار هنا تكتسب دلالة إيجابية، تنمحي فيها دعوات الثورة عليه، وتستحيل الثورة على من يمنع إيصاله ويرفض انتدابه، ولا نغالي في القول إن الاستعمار التقني قد سيطر على أحوال الناس سيطرة شديدة، فجعلهم «يتقنون» أكثر مما يتكلمون ويكتبون؛ فحمل بذلك أثرا سلبيا واضحا، بعث من جديد - بسواد كبير - مشكلة الأداء اللغوي التي يعانيها أبناء العربية في الأصل، غير أن العربية المنكسرة اتبعت سبيلا هادئا في معالجة مشكلات التقنية، لتقلل من نتائجها السلبية في الناطقين، ولهذا موضع آخر يبسط فيه الكلام. 
إذن، انتشرت التقنية في أرجاء المعمورة، وتلقاها العرب - كغيرهم - بأشكالها المختلفة، التي تمثلت أولاً باكتشاف الكهرباء، ثم ظهور الراديو، ثم التلفاز، ثم الحاسب، ثم التطور السريع والمخيف لوسائل التواصل الاجتماعي، وما يعنينا هنا هو التقنية الحاسوبية، إذ نشأ لها مصطلح جديد في دروس اللسانيات، يجمع بين اللغة من حيث هي مادة علمية، والتقنية من حيث هي وسيلة كاشفة عن المادة وطبيعتها، وهذا المصطلح هو (اللسانيات الحاسوبية)، ويفترض بمن يدرسه أن يكون ملماً باللغة والحاسب معاً إلماماً كبيراً، ومَنْ هذا؟ 

البرمجة العربية والعلم
إن دراسة اللغة دراسة عميقة تشغل الباحث عن الاهتمام بالعلوم الأخر ضرورة، فيكون نصيبه منها ضئيلاً، ولا يتعمق منها إلا ما كان ذا فائدة وعلاقة بالدرس اللغوي، وكذلك الحال في من يدرس الحاسب، فتركيزه يكون منصباً على إتقان «لغة البرمجيات»، لا لغة الإنسان، لكنه في الآن نفسه، يتعلم كيف يكون قادرا على جعل اللغة مدخلاً من مدخلاته البرمجية، فتصبح اللغة بهذه الحال أحد نتاجات الحاسب، ويكون تأثيرها في الحاسب ضعيفاً، لأنها مدخل، والمدخل مجرد من التأثير، فما على «الحاسوبي» سوى أن يجمع ألفاظا أو قواعد ويدخلها في معادلات حاسوبية دقيقة، لتنتج له قواعد حاسوبية؛ فالمسألة إذن تنحو منحى التطبيق العملي أكثر من كونها علما يبحث في العربية وتطويرها وتقدمها.
و«الحاسوبي» يأخذ اللغة ويطوعها لقواعد برامجه الخاصة، فيكون الإدهاش من جهة عمله لا من جهة اللغة، يؤيد هذا أنه لا توجد مفاضلة بين لغة وأخرى من لغات الحاسب، إذ يستطيع أن يتقبل كل لغات الأرض، ويتخذ لها برامج مختلفة تبين عن أصولها وقواعدها، ولا مزية في ذلك للغة، وإنما لصانع البرنامج الذي يمتلك قدرات عالية في صناعته، في الوقت الذي قد يكون فيه أمياً لا يحسن الأداء العالي في القراءة والكتابة.   

تغيُّر كبير
إن ما قدمته «البرمجية» العربية من برامج حاسوبية ترتبط باللغة، كلها تعد نجاحاً للبرمجية لا اللغة، فالأمم الأخرى استفادت من التقنية ووظفت لغاتها فيها، لكنها لم تتوقف عندها، ولم تجعلها مشكلة يجب بحثها من جهة اللغة، بل بحثتها من جهة تطوير العلم نفسه، فمتابعة تطور التصحيح الإملائي لبرنامج (Ward)، يظهر التغير الكبير الذي طرأ على البرنامج منذ ظهوره حتى الوقت الحاضر، فضلا عن ظهور بعض البرامج الحديثة في أجهزة الهاتف الجوال التي تصحح الألفاظ بناء على سياقها، وتقدم أفقاً كبيراً من توقع الصواب في حال خطأ الكاتب، هذان مثالان على تطور التقنية، أما اللغة فهي ثابتة، لم يتغير رسمها ولا نحوها، وبهذا لا تعدو التقنية في اللغة أن تكون تطورا في الوسائل التعليمية قد يفيد منها الإنسان وقد لا يفيد، وحالها كحال المدرس الذي انتقل من استعمال الألواح و«الطباشير» إلى استعمال قلم السبورة، إلى استعمال أجهزة العرض المرئي، وصولا إلى الشاشة الذكية، وأنظمة التعليم عن بعد، فهذه كلها وسائل تعليمية، لا تتجاوز ذلك. 
والحال نفسها في اللغة، فإذا استعملنا الطريقة التقليدية في البحث الورقي، أو انتقلنا إلى إدخال المعاجم إلكترونيا، أو طورنا برنامجاً في العروض، أو في تعليم قواعد العربية، أو في فحص أصوات العربية، فهذا كله يؤدى بالطريقتين التقليدية والإلكترونية، ولا فرق بينهما سوى في السرعة - حتى السرعة نسبية -، غير أن الفرق الكبير هو في نتاج العملين، ولا يمكن أن نقرن باحث الأوراق علماً وثقافة بباحث «التقنية»، والملاحظة العامة تؤكد علو كعب الورقي على «التقني». 
ختاماً، ومهما يكن من أمر التقنية وأثرها إيجاباً وسلباً، فإن تمازج العربية فيها يعد تمازجا مجردا، يبقى في إطار الوسيلة لا التطوير والتقدم، فالتقنية لن تطور من أنظار العربية لغة ونقداً، كما أنها لن تستطيع تغيير كثير من نظرياتها، وما يقال عن أجهزة الفحص الصوتي يبقى محل نظر، لأن من تطبق عليهم التجارب ليسوا من الناطقين المجيدين لنطق الحروف، فهم عوام متأثرون بلغة أقوامهم السيارة، ومن ثم فإن نتائج هذه التقنية تبقى وصفية زمانية مكانية، لا يمكن لها هدم أي تصور نظري قديم. 
وبعد، فإن علاقة اللغة بالتقنية، هي علاقة حامل بمحمول، والمحمول اللغوي ثابت لا يتغير، أما الحامل التقني فصوره شتى، لا يثبت على صورة واحدة، فهو علم متغير متبدل أشد ما يكون التغير والتبدل، ومن ثم فإن متابعتنا لعلاقة اللغة بالتقنية هي متابعة للجديد المدهش التقني لا الثابت اللغوي، فلا يطلب من اللغوي سوى توصيفه المعياري ليقوم التقني بإدخاله في برنامجه المطور، وإن كنا 
نرى - متفائلين - أن اللغة يمكن أن تقدم دورا كبيرا في التقنية يتجاوز حدود ثباتها؛ فالقواعد اللغوية هي قواعد رياضية، والعقل اللغوي عقل رياضي، ففكرة الاحتمالات والتبديلات والتقليبات موجودة في الرياضة كما اللغة، والرياضة مشتركة بين اللغة والتقنية، وهذا باب من القول عزيز.
بقي أن نسأل: هل الأمم المتقدمة في التقنية تنشغل بالعلاقة بين لغتها وتقنيتها انشغالنا هذا؟ أم أنها مشغولة بتطوير تقنيتها فقط؟ سؤال موجه لغائبين كالكوري، والياباني، والأمريكي، والألماني، دول الصناعات والتقنية الفريدة■