أسمهـان... 75 عامًا على الرحيل

أسمهـان... 75 عامًا على الرحيل

في الرابع عشر من يوليو الماضي، مرّ على رحيل النجمة اللامعة في سماء الغناء العربي وفي سماء حركة تحرُّر المرأة العربية المعاصرة، أسمهان (1912 - 1944)، ثلاثة أرباع قرن، وما زالت حتى اليوم نجمة لامعة لا يشق لها غبار في تاريخ الغناء العربي المعاصر، إلى جانب أنها شخصية نسائية عربية متفردة عرّضت نفسها لأعظم المخاطر حتى خطر الموت غرقًا في مياه النيل، إرواء لطموحات نسائية ووطنية.

وضع انتماء أسمهان العائلي إلى آل الأطرش (اسمها الحقيقي آمال الأطرش)، في خضم علاقات سياسية شائكة، عندما كان مصير منطقة المشرق العربي يزداد تحددًا ووضوحًا في خلال الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، بعد أن تم تقسيم أقاليم هذا المشرق العربي في خلال الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، في اتفاقية سايكس بيكو.
ولجوؤها العائلي مع والدتها علياء المنذر وشقيقيها فؤاد وفريد الأطرش، في عام 1923، وضعها أيضًا، قبل نشوب الحرب العالمية الثانية، في خضم النهر الجارف للمرحلة الثانية من نهضة الموسيقى العربية المعاصرة، على يد سيد درويش أولًا، ثم تلامذته من العباقرة؛ محمد القصبجي وزكريا أحمد ومحمد عبدالوهاب ورياض السنباطي، وهي المرحلة التي تربّع فيها كل من محمد عبدالوهاب وأم كلثوم، على عرش الغناء العربي حتى ما بعد نهاية القرن العشرين.
جموح آمال الأطرش النسائي للعب دور في حياتها يتجاوز حدود الزواج وإنجاب الأولاد، إلى المساهمة في تحديد مصير بلادها السياسي، دفعها إلى التعامل مع المخابرات البريطانية والفرنسية (ذات النفوذ في المشرق العربي) وحتى محاولة الانتقال إلى التعامل مع المخابرات الألمانية، عندما أصبح مصير الحرب العالمية الثانية حائرًا بين الألمان والحلفاء، أمام زحف الألماني رومل عبر الصحراء الغربية إلى مصر.

وصف ظالم
هذه التنقلات هي التي أدت في الغالب الأعمّ إلى تصفية أسمهان جسديًّا، كما كلّفتها لدى بعض النقاد والمؤرخين وصفها الظالم بالجاسوسية، بدل المرأة الوطنية الشجاعة التي غامرت بتجاوز التقليدي للمرأة العربية، ودفعت الثمن.
غير أن هذا التاريخ السياسي العاصف لم يكن في حياة أسمهان الفصل العاصف الوحيد في حياتها، ولقد حباها الله - إلى جانب الطموح الشخصي الجامح - حنجرة جمع فيها أثمن معادن الأصوات البشرية النسائية النادرة، فشاء لها القدر أن تلعب دورًا عاصفًا آخر في حياتها الفنية القصيرة جدًّا، لتتبوأ بسرعة فائقة موقعًا إلى جانب أم كلثوم، بعد تربُّعها في النصف الثاني من العشرينيات على عرش الغناء العربي النسائي. بل إن بوسعنا القول - ونحن في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين - إن صوت أسمهان هو الصوت النسائي الوحيد الذي يمكن وصفه بأنه نافس صوت أم كلثوم منافسة جدية.
حرّكت تلك المنافسة غيرة فنيّة شديدة لدى أم كلثوم، ظلت مشتعلة لديها حتى فيلم «غرام وانتقام»، في السنة الأخيرة من حياة أسمهان، عندما انصرف الملحّنان الخاصان لأم كلثوم (محمد القصبجي ورياض السنباطي)، إلى تزويد صوت أسمهان بأروع ألحانهما في الفيلم، إلى جانب رائعة فريد الأطرش «ليالي الأنس في فيينا».
ولعل تلك المنافسة كانت الأكثر غنى وإيجابية في تاريخ الغناء العربي المعاصر، لأنها فتحت الباب أمام عبقريتي أم كلثوم وأسمهان، لتفتحا بابين واسعين لتطوير خطين مختلفين، لكن متكاملين، في تاريخ تطور الغناء النسائي العربي المعاصر في القرن العشرين.
ويمكن القول من الناحية الفنية إن أسمهان قد تأثرت في ميلها إلى خط الغناء العربي الحديث المنفتح النوافذ، بأسلوب التجديد الغنائي والموسيقي، الذي أطلقه محمد عبدالوهاب.

حداثة لامعة
تجدر الإشارة هنا إلى أنه بينما لعبت أم كلثوم دور زعيمة الخط التقليدي المتطور في الغناء النسائي العربي المعاصر، من خلال حياة فنية طويلة تجاوزت نصف قرن (1923 - 1973)، فإن الدور التأسيسي في تحديث الغناء النسائي العربي قد لعبته أسمهان في فترة قصيرة جدًّا، لعلها لم تتجاوز السنوات السبع (1937 - 1944)، حتى أن بإمكاننا القول إن كل المطربات اللواتي ظهرن ولمعن في تأدية الأسلوب الحديث في الغناء العربي المعاصر قد تأثرن بأسلوب أسمهان، مع أن بعضهن لم يعاصرها، بل جاء بعدها.
ولابد من الإشارة إلى أن الحداثة اللامعة التي تميّز بها غناء أسمهان لم تكن هجينًا، ولم تكن ابنًا شرعيًّا للتأثر بأساليب الغناء الغربية، بل إن هذا التأثر قد تأسس أساسًا صلبًا في أعماق الألوان العربية الأصيلة التي بدأت أسمهان بإتقانها قبل التزود بمؤثرات أساليب الغناء الغربي (كالأوبرا مثلاً)، فقبل أن تلمع أسمهان في أداء أغنيتها الخالدة «يا طيور»، من ألحان العبقري محمد القصبجي، كانت قد لمعت قبل سنوات بأداء لحن آخر للملحن نفسه كان ومازال تحفة من تحف الغناء العربي التقليدي الأصيل المبني على المقامات العربية ذات أرباع الصوت، وأساليب الغناء العربي التقليدي (قصيدة ليت للبراق عينًا).

أسمهان وعبدالوهاب
ولا غرو في ذلك، فصوت أسمهان، كما صوت شقيقها فريد، تربّى على تشرُّب ينابيع الألوان الفولكلورية المشرقية، على أيدي وفي حضن والدتهما صاحبة الصوت العذب علياء المنذر، كما أن أسمهان التي غنّت للقصبجي «يا طيور» تأثرًا بالموسيقى والأداء الغنائي الأوبرالي، كانت أيضًا قد أدت للقصبجي نفسه قصيدة خالدة هي «اسقنيها بأبي أنت وأمي»، التي يستعرض فيها القصبجي كثيرًا من روائع المقامات العربية الأصيلة، وتستعرض فيها أسمهان كل ما لديها من قدرات على أساليب الغناء العربي الأصيل المتمكن.
ولعل المثال الغنائي العالي الذي كان مرتفعًا أمام أسمهان هو أسلوب محمد عبدالوهاب المتطور، سواء في مجال الموسيقى، أو في مجال الغناء.
من هنا يمكننا القول إن الحظ السعيد لتطور الموسيقى العربية والغناء العربي المعاصر كان كبيرًا، عندما التقت أسمهان محمد عبدالوهاب، الملحّن والمغني، في لقائهما اليتيم في مغناة قيس وليلى (1939) التي مازالت تعدّ واحدة من التحف النادرة في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة، والغناء العربي المعاصر، بصوت عبدالوهاب وأسمهان.
أما في تعاون صوت أسمهان مع الموهبة التلحينية لشقيقها فريد، فيمكن القول إن فريد قد منح أسمهان بعضًا من أجمل الألحان التي أبدعها في حياته، مثل ألحان فيلم «انتصار الشباب»، ثم «رجعت لك يا حبيبي»، و«نويت أداري آلامي»، وصولًا إلى رائعة فريد الأطرش في آخر سنة من عمر أسمهان القصير «ليالي الأنس في فيينا».

تميّز تاريخي
إن ألمع ما في حياة أسمهان الغنائية، التي تزوّدت باسمها الفني على أساس اقتراح من أحد أقطاب الموسيقيين العرب المخضرمين (داود حسني)، أن التميّز التاريخي بصوتها قد جذب إلى التعاون مع صوتها عبقرية كل من محمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب ورياض السنباطي وفريد الأطرش ومدحت عاصم، في أقصر فترة فنية يمكن تصوّرها، مما يفسر هذا اللمعان الفني المتواصل انطلاقًا من صوت أسمهان، حتى بعد ثلاثة أرباع قرن على رحيلها، كما كان في أثناء حياتها القصيرة.
ومع أن تعاون أسمهان مع الملحن مدحت عاصم كان قصيرًا، حتى أنه لم يشمل أكثر من أغنيتين، (دخلت مرة في جنينة، ويا حبيبي تعال الحقني)، فإن هذين اللحنين ما زالا يخلّدان اسم مدحت عاصم (إلى جانب أسمهان طبعًا)، حتى يومنا هذا. مع أن لحن «يا حبيبي تعال الحقني»، هو في الأساس لحن تركي، نقله عاصم وأعاد توزيعه خصيصًا لصوت أسمهان.
أما لحن عاصم الأشهر لأسمهان، فهو - بلا شك - رائعة «دخلت مرة في جنينة»، التي ما زالت حتى يومنا هذا تعد نموذجًا حيًّا لروائع الموسيقى العربية المتطورة، والغناء النسائي العربي المتطور. حتى أن بإمكاننا القول إن حرارة استقبال اللحن والغناء في هذه الأغنية، ما زالت، حتى يومنا هذا، بالدرجة نفسها في أثناء حياة أسمهان.

تأثر إيجابي وسلبي
من أشهر ذكريات هذه الأغنية الخالدة لأسمهان، أنها عندما طبعت على أسطوانة في أواخر الثلاثينيات، نفدت تلك الأسطوانة من الأسواق عند كل طبعة جديدة، حتى أن الأديب العربي الكبير عباس محمود العقاد يذكر أنه لفّ بالحنطور على جميع محال الأسطوانات في القاهرة لتأمين نسخة من «دخلت مرة في جنينة»، لكنّه افتقدها في جميع هذه المحالّ.
ومع أن كثيرًا من المطربات العرب في النصف الثاني من القرن العشرين قد تأثرن تأثرًا إيجابيًّا بأساليب التطور الكبير التي أدخلتها حنجرة أسمهان على الغناء العربي النسائي المعاصر، فإن الأمر لم يخلُ في بعض الأحيان من التأثر السلبي بصوت أسمهان وأدائها العبقريين، ذلك أن عددًا غير قليل من المطربات اللواتي حاولن تقليد أداء أسمهان لم ينطلقن قبل ذلك من إتقان أداء المقامات العربية الأصيلة، كما كانت أسمهان تفعل، بل بدأن الطريق الخاطئ، نحو التأثر بالمؤثرات الغربية في أداء أسمهان، دون أي إلمام بالجذور العربية المتينة التي كانت تجري في عروق أسمهان، قبل ظهور بوادر التأثر بالأساليب الغربية.
يلفت النظر أنه يصدر بين السنة والأخرى، إما كتاب جديد عن أسمهان، أو فيلم وثائقي جديد أو مسلسل، وأن ذكراها تزداد لمعانًا مع مرور الزمن، ويزداد الانتباه إلى العبقرية المتينة لصوتها، وإلى شخصيتها النسائية الجامحة التي كانت تريد أن تحقق أقصى ما لديها من طموح، في أقصر فترة من حياتها التي انتهت عند حدود الثانية والثلاثين >