ثمانون ضياء العزاوي الفنان وخصوصية حداثته

ثمانون ضياء العزاوي الفنان وخصوصية حداثته

لا غرابة في أن تكون الخطوة الأولى من ستينيات القرن العشرين قد مثّلت حقبة تغيرات وتبدلات وتحولات في الرؤى والأفكار الإبداعية والنقدية، كما في النزعات الفنية، فيأخذ «التجريب» أبعادًا واثقة على مستوى الرؤى والأسلوب بتطوراته الفنية، وتشيع أفكار «الحداثة» بما عرفت تلك الحقبة من تحولات يمكن عدّها «تحولات جذرية» سيُعَبَّر عنها تعبيرًا تمثيليًا واثقًا بالفن التشكيلي على نحو خاص ومتفرّد، في التجربة الإبداعية العربية في عهدها الزماني ذاك.   

إذا كان الفنان البارز في هذا الجيل، ضياء العزاوي، قد بدأ مسيرته الستينية في الفن من خلال الحفر في الذات البشرية بما لها من تعالقات تراثية - بحثًا عن الجذور - فإن انتقالاته التالية، بدءًا من «الحرف»، فـ «الكلمة» و«الجملة» المحملة بدلالة المعنى، وصولًا إلى «النص»، الذي سيجعل منه «بُعدًا تشكيليًا» ذا خصوصية تكوينية، وسيجعل، في هذا كله، من «التجديد» و«المغايرة الأسلوبية» طريقه إلى «الحداثة»، ستكون في أعماله حداثة مستمدة من «قوّة التراث»، ومن بعد متمثلة بحركة الجسد المشبوح على مراقي «أرض المجزرة»، كما عكسها «تل الزعتر».
وهو في هذا يقف، تقنيًا، مع اثنين من مجايليه من الفنانين، وإن اختلفت الرؤية باختلاف المصدر.
فحداثة الفنان محمد مهرالدين مصدرها تناغم الذات من الفنان مع معطيات الفنون المعاصرة، وإن كانت لغته الفنية فيها قد جمعت بين «التصوير» و«التعبير»، وحداثة الفنان رافع الناصري التي أساسها تفاعل الذات منه، هو الفنان، مع «حيوية التكوين» الذي تعتمده لوحته بإشراقات لونية، وأسلوب يمكن وصفه بـ «التجريدي الحي».  
وإذا كانت هذه الحقبة الستينية التي ظهر فيها العزاوي وعدد آخر من الفنانين، الذين سيشكلون جيلًا متميزًا في الرؤية الفنية وأساليب التعبير التي اعتمد، قد امتازت بتعدد فضاءات الرؤية الفنية للفنان فيها، وبتنوّع معطياتها على مستوى البناء والتشكيل، فإن أعماله ستكون لها جمالياتها الخاصة.
وكما كانت لكل فنان من مجايليه طريقته في تحريك العناصر المكوِّنة لعمله، وإيقاعاته اللونية، فإن هذا الجيل قد صاغ أُطروحاته الفنية من خلال سؤال آخر غير سؤال الخمسينيات، سؤال يتلخص في الكيفية التي نضيف بها إلى هذا الفن، الغنيّ بمعطياته التأسيسية، بُعدًا آخر يشير إلى التحوّل والإضافة.
ومن هنا قامت فلسفة الفن عند هذا الفنان على رؤية أخذت بالحداثة ولم تلغ التراث، وظل يمتلك «ذاكرة بَصَريّة» لما كان للماضي الحضاري من «أشكال» و«تكوينات» وجد فيها ضالته الإبداعية.
وإذا كان هذا الجيل قد وفّر لنا فكرًا فنيًّا وضعه بأسلوب نظري، وجعله بمنزلة التعزيز لرؤيته الإبداعية، وأنه يمكن أن يكون به جيل مجتمع إلى بعضه فيما يؤسس له من بناءات، فإنه، في الوقت نفسه، كان جيلًا فرديّ التفكيرـ مما أتاح له التعدد فيما قدّم، وأتاح له أن ينهض بحقبة جديدة في الفن كانت لها معاييرها الفنية الخاصة بكل فنان. وهذا ما يجعلنا نذهب إلى أن هذه الحقبة ينبغي أن تُقرأ (تُدرَس) بذاتها في سياق البناء التشكيلي الحديث. فقد جاء فنانوها بفكر فنّي أكثر تطورًا، وقدّموا معطى فنيًّا مختلفًا.
وإذ نشير إلى «الذات الفردية» كما انعكست في عمل هذا الفنان أو ذاك من الجيل الستيني، إنما لنؤكد «خصوصيته الفنية»، مشيرين، في الوقت نفسه، إلى حالة من «الاستبصار النقدي» لـ «ذات فنية» وُلدت على قلق، وتكونت وتنامت على قلق مصدره في الحالتين: التفكير بالخصوصية، مع انفتاح على تجارب الفن الجديد في العالم. 
وفي هذا، وانبثاقًا منه، كان ذلك التنازع الذي سكنهم في تكوينهم الفني، فكرًا ورؤية. وقد تشكّل هذا التنازع في بُعدين، هما: «بُعد الوعي - الوجود» فيما يخص بناء الذات من الفنان وتكويناتها، و«بُعد الوعي بالوجود» بما يخص علاقة الفنان بالعالم، وهو يحيا زمنه المتغيّر.

الوعي التشكيلي... تجلياته وانعكاساته
يصدر كثير من أعمال الفنان العزاوي عن «وعي تشكيلي» بـ «الزمان، وفي المكان»، وتُفصح عن ثقافة تتمثّل، أكثر ما تتمثل، بما يفتح من صفحات التاريخ والتراث فيواشجها مع راهنية الواقع وما يثير من قضايا تعني الإنسان وتخصّ واقعه. وبهذا فهو يؤسس لتجربة فنية لها خصائصها الموضوعية. 
في حقبة مهمة من عمل الفنان (نهاية الستينيات والسبعينيات) نجد الخيال، وتجليات ما هو من عناصره القائمة، يتمثّل عنده برموز عالية الإيقاع. فالأُسطورة، على سبيل المثال، لم تُعد تفعيل الماضي بقدر ما اتجهت بفعلها إلى الحاضر، واضعة إياه فيما يمكن عدّه «جدلية رؤيوية»، فإذا عمله هو «المرئي القائم» الذي يواجه «انكسارات العالم» المتداعية بتمثيلاتها أمامه... وكأنه فيما يرسم بقدر ما يهمه «اكتشاف الحقائق» يهمه «الكشف عنها» لمواجهتها برؤية تنمُّ عن مساءلة الزمن من خلال رمزية المعاني والدلالات التي يكنزها في هذه الأعمال. وفي هذا كان أن جعل للحرف العربي، ومن ثم الكلمة فالجملة، دلالاتها الواسعة وهو يوظفها في سياقات رؤيته هذه، مجترحًا لها أُفقًا جديدًا في مغامرة أقرب إلى «التأصيل» منها إلى «التجريب». 

شعرية العمل الفني
يتماهى الفنان العزاوي في عمله الفني مع الشعر، ليس في رسم «النص» وتجسيده شكلًا، ولا في توظيف «المفردة اللغوية» منه في «تشكيل اللوحة» فحسب، وإنما، وهو الأهم، في هذه الامتدادات والتواصلات المنعقدة للشعر عالمًا بعالم الفنان، مشكلةً تجلياتها الإبداعية على نحو جعل عمله الفني ينفرد بخصوصيته.
وهو إذ اتخذ طريقه إلى هذا أولًا من خلال «الحرف» و«الكلمة» فـ «الجملة اللغوية»، فذلك ليجعل منها «مفردات تشكيلية» ذات «دلالات تعبيرية» مفتوحة على معانٍ، وبتشكيلات تؤلّف البعد التكويني للوحة، وتحقق دلالة ما تحمل من عنوان. وبهذا جعل من عمله عملًا قائمًا على المعنى/ وبالمعنى الدلالي الذي يحمله.
وإذا كان، ومن خلال صلته الأولى بالفن العراقي القديم، قد جعل للوحته «بُعدًا تجسيميًا»، فإن هذا البعد القائم في النحت القديم سيكون من خصائص لوحته في معظم ما أنجز من أعمال.
وإذا كان فيما عقد من تواصل مع تجربة الفنان الرائد جواد سليم، قد انعقد عنده بأبعاد أُخرى، فيها التجديد والمغايرة، فإن تواصله مع «الانطباعيين»، الذين انتمى إليهم «تجمعًا فنيًّا»، قد أضفى على عمله، هو الفنان المجدد، أبعادًا جديدة شكّلت إضافة واضحة إلى ما للانطباعية من تراث.
وعلى تشبعه بهذه المعطيات، سينفرد بخصوصيته فنانًا له أُسلوبه الشخصي فيما يعقد من حوار وتواصل مع الأشياء، بما فيها اللون، حتى جاءت لوحته لتؤكد: أن لا فنَّ من دون موضوع. فإن كان الفن «تقنية»، فإن هذه التقنية لا تكون، عنده، إلا بموضوعها. وإذا كان الكلام في الفن يأتي، في مواقف موضوعية وحالات فنية، على ما يُدعى بـ «الحقيقة القائمة» على «وجود مفتوح»، فإن هذه «الحقيقة»، عند الفنان العزاوي، ليست مغلقة على ذاتها، وإن تعيّنت بـ «خصوصية الموضوع»... في «رمز دال» على «وجود». 
وعلى هذا نجده مهما اتسع أُفق الرؤية أمامه يبقى، فنًّا، على اتصال مباشر بالواقع. وفي هذا كان أن أكسب لوحته/ عمله الفني قيمًا فنية لم تتأتّ لسواه على النحو الذي كان له - يمكن وصفها بـ «الجذريّة».
فالحرف، والكلمة، والنَص، التي اعتمدها الفنان «أشكالًا تكوينية» في عمله كان لها أن انتقلت به من مجال «الرؤية المباشرة» إلى عالم فني له «أُسسه التكوينية». فهو وإن استقبلها/ تلقّاها بشكل واعٍ منه، فإنه، في نطاق العمل الفني، حرّكها «حركة خلق» جعلت للعمل الناتج منها لغته الجمالية، فضلًا عمّا مثّلت من «ابتكارات» خاصة به فنانًا وعملًا فنيًّا.

الواقع بتفاصيله
على مثل هذا قامت حداثته الفنية التي إن وضعنا بداياتها في إطار التجريب فهو «التجريب الطليعي» بما له من معايير خاصة نجدها في عمل الفنان العزاوي أكثر وأوضح مما نجدها عند سواه من مجايليه.
وقد فتحت «مجزرة تل الزعتر» (1976)، ومن بعدها «مجزرة صبرا وشاتيلا» (1982)، طريق الفنان العزاوي نحو «فن جديد» بالنسبة إلى ما درج عليه فنًّا، سواء في مستوى الرؤية أو على صعيد الأُسلوب، ليكون لـ «الخط» بُعده التشكيلي البارع، وإن بمأساوية التمثيل، جاعلًا له من خصائص التعبير والحركة ما عبّر به عن عنف الحالة - الموت، متخذًا بذلك طريقًا جديدة بلورت، على نحو أوضح، دوافعه التجديدية (بمعنى الخلق والإضافة).
فالهدف عنده كان في التعبير عما حصل ووقع على الأرض التي تدافعت عليها جثث الضحايا، وتشبّعت بدماء الإنسان - الضحية، مقابسًا بهذا ما حصل على أرض الواقع. وقد اجتمع هذا عنده في عمله الواسع والكبير، والذي أطلقتُ عليه تسمية «غرنيكا صبرا وشاتيلا» بأُسلوبه المركز في هذا العمل إلى ما يمكن تحديده وصفًا بـ «التفاصيل المزدحمة للموت» الذي كان محصلة الاستبداد بقتل الإنسان. وقد أدرك هذه الحقائق بنفسه على أرض الواقع، وهنا تنقطع صلة الفنان بـ «الأساس الوضعي للانطباعية».
لقد مثّلت المجازر المرعبة التي حصلت في «صبرا وشاتيلا» و«تل الزعتر» نوعًا من الانفجار المفاجئ في عمل الفنان العزاوي، فطوّع تقنياته الفنية لـ «أشكال» من الموت، و«صيغ» من الجريمة بحق الإنسان وجودًا، وأنجز عملًا سيمتد بتأثيراته إلى التعبير عما حصل في العراق جراء الاحتلال الأميركي له عام 2003، وما رافق هذا الاحتلال وأعقبه من مجازر ستكون عند الفنان، وفق رؤيته، الصورة الرديف لما حصل في «صبرا وشاتيلا» وفي «تل الزعتر». فالضحية واحدة، وهي «الإنسان ابن المكان»، الذي أرادت هذه المجازر «إلغاء زمانه» >

لوحات تتميز برموز عالية الإيقاع وقضايا تعنى بالإنسان

إشراقات لونية وحيوية التكوين التجريدي الحي

مفردات تشكيلية من الحرف والكلمة ذات دلالات تعبيرية