السعادة... دهشة الحياة وسحرها

السعادة... دهشة الحياة وسحرها

عرف د. ليو بوسكاليا (1924 - 1998) - الـــكـــــاتب والــمتحدث المحفز وأستاذ التربية الخاصة السابق بجامعة جنوب كاليفورنيا - بدكتور حُب، لأنه أنفق جُلّ حياته وطاقته في مساعدة الآخرين على فهم معنى الحياة ومعنى الحب. وكان طموحه أن ينغمس العالم في المحبة ويعيش كل شخص حياة سعيدة. 
من خلال محاضراته - التي لا يزال بعضها حيًّا على «يوتيوب» - وكتبه، وأحاديثه التلفزيونية الملهمة، مكّن بوسكاليا عديدًا من الناس حول العالم من عيش الحياة بصورة أفضل، وشجّعهم على الاستمتاع بمزيد من العلاقات الطيبة.

 كان بوسكاليا يرى أن الحب هو الحياة، وأن الحياة هي الحب، وإذا فاتنا الحب، فاتتنا الحياة؛ بينما إذا أحببنا تفيض المحبة في قلوبنا وتضاف إلى حيواتنا حيوات. 
وكثيرًا ما كان يؤكد أنه لا يكفي أن نعيش، بل علينا أن نعيش من أجل هدف، واقترح أن يكون هذا الهدف هو إسعاد الآخرين ومشاركتهم، وبعث الأمل في حياة التائه والوحيد. 
ولم يكن يجد بأسًا في المخاطرة بالحب، لأن من لا يخاطر - من وجهة نظره - لا يفعل شيئًا، ولا يملك شيئًا، ولا يساوي شيئًا، ولا يصبح شيئًا. وحتى لو استطاع تجنّب المعاناة والألم ببُعده عن المخاطرة، فهو لا يتعلم شيئًا، ولا يشعر بشيء.
  
محاضرات الحب
ترك بوسكاليا وظيفته مديرًا للتربية الخاصة بمنطقة تعليمية في كاليفورنيا، ليعود إلى التدريس، وعندما انتحرت إحدى طالباته في نهاية الستينيات، رغم اجتهادها وعدم ظهور أي علامات يأس عليها، تأثر كثيرًا، وتساءل قائلاً: «ما جدوى ما نعلم، وما جدوى معرفة القراءة والكتابة إذا لم يعلّمنا أحد قيمة الحياة وقيمة تفرّدنا وكرامتنا الشخصية؟».
وسأل: «ما الذي نحاول فعله ونحن نعلّم؟ نحشو عقول الطلاب بالحقائق، وننسى أنهم بشر». وقادته تلك الحادثة إلى تدريس مقرر اختياري عن الحب بكل معانيه، من دون رسوم ومن دون ساعات معتمدة. ولم يكن يتقاضى عنه أجرًا، ولأن المقرر من دون امتحانات، فلا يرسب فيه أحد. وسرعان ما تزايد عدد طلابه من 20 طالبًا إلى 200، و600 آخرين على قائمة الانتظار، فقد كان التسجيل لهذا المقرر ينتهي بعد دقائق من فتحه. 
 ومما قاله د. بوسكاليا إنه لم يكن يدرس في مقرر الحب، بل كان يتعلم. فقد كانت المحاضرة عبارة عن جلسة نقاش تمتد ساعتين، تتم فيها مشاركة معارف وتجارب وأطروحات وأفكار حول الحب وتعلّم الحب من تجارب الحياة اليومية.
ومن أسرار نجاح المقرر شغف الأستاذ الشديد بمشاركة الناس، واقتناعه بأن الخلاص الوحيد يكون في المعرفة وفي التعليم والتعلّم. 
ومن شروط مقرر الحب ألا يسجل فيه أحد لأكثر من سنة، ثم يتعين على الدارس الإضافة إلى ما تعلّم، والقيام بنشاط «جميل». 
 
 معلّم العالم
ولد بوسكاليا في لوس أنجلس لمهاجرَين إيطاليين، وتربى في إيطاليا ثم عاد إلى أمريكا. واعتبر نفسه محظوظًا لأنه تعلّم من عائلته المشاركة والشغف وحب الحياة بصورة طبيعية وتنفسه مع الباستا، وإن كان يؤكد دائمًا أن الحب ظاهرة يمكن تعلّمها في أي وقت. 
 اشتهر الرجل بكونه متحدثًا في المؤتمرات التربوية، واحتلت خمسة من كتبه مراكز بقائمة «نيويورك تايمز» في وقت من الأوقات، وبيع منها أكثر من 11 مليون نسخة في أمريكا وحدها، وأعيد طبع بعضها 24 مرة، ليصبح معلّم الفصل معلمًا للعالم. 
وانطلاقًا من تجربته في التعليم، نادى دكتور حُب بالتغيير، واعتبره النتيجة النهائية للتعليم والتعلّم الحقيقي. ووجد أن أفضل سبل التعلم ما يحدث بمعايشة النموذج وبمحاكاة القدوة، وأننا إذا أردنا تعليم أحد شيئًا، علينا تعلّمه وتطبيقه أولاً. كما وجد في الفشل طريقة ناجعة وسريعة لاكتساب الحكمة، بصورة تفوق ما يمكن اكتسابه من تجارب النجاح، مؤكدًا أن الفشل ليس نقيضًا للنجاح، كما يعتقد كثير من الناس، لأن النجاح يمكن أن يكون قريبًا جدًا من الفشل. 
لطالما انتقد بوسكاليا التعليم التقليدي الذي يهتم بتعليم مختلف العلوم، ويتجاهل تعليم الطالب كيف يكون إنسانًا، الأمر الذي جعل الناس يقللون من شأن الابتسامة والكلمة الطيبة والأذن المنصتة، والإطراء الصادق، وغير ذلك من لفتات الاهتمام الصغيرة التي تحمل إمكانية تغيير الحياة.
وتمنى أن يرى مقررًا يتناول أسئلة مهمة، مثل: «من أنا؟» و«لماذا أنا هنا؟» و«ما هي مسؤوليتي نحو الإنسان؟» في جميع المراحل الدراسية.    لم يكن بوسكاليا مقتنعًا بقدرة المرء على تعليم شخص آخر شيئًا، ما لم يكن هذا الشخص راغبًا في التعلّم، تمامًا مثلما لا يستطيع أحد إجبار شخص على تناول طعام لا يرغب فيه.
والجميل أنه يمكن للإنسان أن يعلّم الجميع كل ما يعرف، دون أن يخسر شيئًا، وكذلك الحال مع الحب، حيث يمكن للمرء أن يحب جميع الناس في الوقت نفسه، ولا يخسر شيئًا. لكنّه ينبهنا إلى ضرورة أن يكون الحب سليمًا، لأن صاحب الحب المريض سيعلم حبًّا مريضًا مثل حبه.
والمحب الحقيقي في رأيه يريد محبوبه أن يكون نفسه ويسعد بتطوره ونجاحه. لأن الحب، مثل التربية، عملية قيادة المحب أو المربّي بلطف، ليعود الشخص إلى نفسه.
  
 مدرسة الحيوانات
 لكي يوضح مشكلة التعليم التقليدي، كان بوسكاليا يروي حكاية مدرسة الحيوانات التي - كما قال - يعترف بها المعلمون ويضحكون عليها، ولكن لا أحد يبادر بفعل شيء. أما أبطال الحكاية فهم مجموعة من الحيوانات بينهم أرنب وعصفور وسمكة وسنجاب، قرروا جميعًا تأسيس مدرسة.
وعندما جلسوا لوضع المناهج، أصر الأرنب على أن يكون المنهج جريًا، ورأى العصفور أن يكون الطيران هو المنهج، بينما أكدت السمكة ضرورة منهج السباحة، وطالب السنجاب بمنهج تسلّق الشجرة، وهكذا أصر كل حيوان على ما يتقنه. وكنوع من الحل الوسط، اتفق الجميع على وجود مقرر في كل مهارة للجميع. 
ووفقًا لذلك، حقق الأرانب درجة ممتازة في مادة الجري، بينما سقطت وتكسرت عندما حاولت الطيران. وهكذا كانت الحال مع الحيوانات الأخرى التي أدى فشلها في أداء المهمات الصعبة بالنسبة إليها إلى خسارة التميز، واستحالة التقدم، مما يطرح أسئلة مهمة حول التفرد والتميز، ومدى ضرورة أن يتعلم جميع الطلاب المواد نفسها. 
كان بوسكاليا يقول لجمهوره إن أصعب معركة يمكن أن يخوضها الإنسان هي معركة أن يكون نفسه. وينتقد معلّمي الرسم الذين يرسمون الشجرة على السبورة، ثم يطلبون من تلاميذهم أن يرسموا مثلها. ويعتبرون من يقترب من رسم المعلم هو الممتاز، لكن لا أحد تعلّم كيف يتأمل الشجرة ويراها ويشمها ويتظلل بظلالها، ويستمع لأصوات الرياح وهي تداعبها.
  
الحب لا ينمو وحده
من نصائح بوسكاليا لكل شخص أن يجعل نفسه أجمل وأطيب وأروع ما في العالم، لأن نفسه كل ما يملك، ويمكن بعد ذلك العيش بصورة مختلفة؛ فهو يدعو إلى العودة للذات وحبها واحترامها أولاً، حتى يصبح العطاء ممكنًا. 
ويرى أن الكره ليس نقيضًا للحب، بل اللامبالاة. ويؤكد أن من مشكلات الحب أن نعتقد أننا محبون مثاليون، ولهذا لا نفعل شيئًا سوى انتظار ازدهار حبنا مع الوقت، كما تزدهر زهور الربيع؛ لكن الحب لا ينمو وحده، بل يحتاج منا الأمر إلى الكثير من الجهد والصبر والمعرفة والاتجاهات الإيجابية. 
فالحب يتملص منّا ويتغير إذا لم نكن على وعي ونتغير معه لتبقى أبواب الخبرة ونوافذها مفتوحة دائمًا على دهشة حياة الحب وسحرها. 
وعلينا أن نؤمن بأننا نعيش في عالم صغير ومرتبط ببعضه، ولهذا يؤثر فعل الحب على كل شخص وكل شيء. وأن حقيقة الحب لا تتجلى إلا عندما نمنح الفرح من دون تردد أو تفكير في كسب. 
لقد بات التعامل بحب والتوجيه بحب - سواء في الحياة العامة، أو في السياقات التربوية - من المهارات الضرورية لصناعة مستقبل أفضل؛ لأن الأشخاص السعداء عادة ما يكونون أكثر انفتاحًا وشجاعة، وأكثر استعدادًا للمساعدة والتعاون، مقارنة بالأشخاص المكتئبين.
والمجتمعات السعيدة أكثر تماسكًا وأقل تمركزًا حول الذات وأقل مادية من المجتمعات غير السعيدة. ولتحقيق ذلك لابد من تعزيز نقاط القوة، وإشاعة التفهم والتقدير وتحقيق التوازن بين الاهتمامات ومتطلبات الحياة العامة والتعليمية، وفقًا للفروق الفردية، وفي النهاية، ينبغي ألا يبكي أحد وحده >