التنبيهات والحقيقة... مقالات إضافية حول الفلسفة والديمقراطية

 التنبيهات والحقيقة... مقالات إضافية حول الفلسفة والديمقراطية

يطالعنا كتاب ناصيف نصار الأخير «التنبيهات والحقيقة... مقالات إضافية حول الفلسفة والديمقراطية»، الصادر حديثًا عن مركز دراسات الوحدة العربية، ليشكّل استكمالًا لمسار فكريّ مديد، وقد أراد المؤلف من خلاله الإضاءة على المبادئ الأساسية العامة للديمقراطية بوصفها الاسم الأصح، حتى إشعار آخر، للسياسة الراشدة والحكم العادل.
ما من شك في أن الفيلسوف نصار علامة فارقة في الإنتاج الفلسفي العربي منذ نصف قرن أو يزيد.
وتأتي في مقدّمة العناصر التي رسمت تلك العلامة الفارقة بصماتُه في تعميق الوعي بالأسباب الّتي تعرقل ما دعاه هو - على سبيل التخيل الحضاري -  «النهضة العربية الثانية».

إذا كان نصار قد وضع كتابه النظري الكبير بعنوان «منطق السلطة» ليجعل منه وسيلة منهجية لتحسين أوضاعنا، في سياق مشروع فلسفي، فلأن الكتب الّتي سبقته كانت تمهيدات له، كما أن هذا الكتاب الجديد يشكّل أحدّ التيجان الّتي ترصّع بوارقُها مرجعيّته الفكرية على المدَيَيْن؛ العربي والأوربي المعاصريْن.
يَعتبر نصار أنّ ما فعله في سياق رحلته الفلسفية الجادّة يتجاوز مستوى الطرح الأيديولوجي للمفاهيم والرؤى ومستوى الاختيار بين القطيعة مع التراث وبين الانتظام فيه وتحديثه، وفقًا لتَسَمُّر بعض الدارسين على نظرتهم النمطية إلى نتاجه. فما تقدمه الفلسفة لإصلاح السياسة، بما هي أنظمة ومؤسسات وممارسات تقليدية قائمة بصورة عامة على مبدأ الاستبداد، يذهب إلى ما هو أبعد مما فعلته أيديولوجية التحرر الوطني والإصلاح السياسي مع الكواكبي وأقرانه واللاحقين.
فالذي يطّلع على كتاب نصار، الصادر أولًا عن دار الطليعة عام 1994، ثم عن مركز دراسات الوحدة العربيّة عام 2016 بعنوان «الفكر الواقعي عند ابن خلدون»، يستقرئ الاتجاه العريض الذي وضع نصار مشروعه الفلسفي في إطاره، ومفاده أنه يتعين على العقل الفلسفي العربي أن يرتفع من الواقعية السوسيولوجية إلى الاعتبار الفلسفي للدولة الحديثة، حتى ولو أدى ذلك إلى احتواء مفهوم الدولة في نظرية أوسع هي نظرية السلطة. وهذا التّتبُّع الموضوعي لمؤلفاته المتكاملة ينبئنا أن جديده وقديمه مشدودان إلى رؤية واحدة متطورة.

تسييس الحقيقة
في مقالة له بعنوان «مدينة الله»، يقول المطران المفكر جورج خضر: «المشكلة أننا لم نمرّ حقيقة بالفكر الديمقراطي، لأننا تاريخيًا لم نعرف عصر الأنوار الذي أنتج هذا الفكر». أما نصار فيعتبر أن مسألة الانتقال إلى الديمقراطية ليست مجرد تطور خارجي نحوها، وإنما هي بالمعنى الاختباري طوْرٌ من أطوار التحول فيها وبها، أي في تعلّمها وممارستها.
كما يجزم بأن سياسة الحقيقة محكومة بلعبة المصالح، وقلّما تكون الحقيقة فيها مطلبًا قائمًا بذاته ولِذاته، الأمر الذي يفتح الباب لعملية خطيرة ينبغي تفكيكها وتداركها، ألا وهي عملية تسييس الحقيقة. ويلخّص نصار هذه المعادلة الخطيرة بالقول: هكذا تجتمع في سياسة الحقيقة فلسفة السياسة وفلسفة الحقيقة، لكنْ من دون تأليف بينهما، لأن فيلسوف الحقيقة يرى سياسة الحقيقة وعينُه على المعرفة، وفيلسوف السياسة يرى سياسة الحقيقة وعينُه على المصلحة.
هذه العملية التفكيكية لكل من البنْية الديمقراطية وبنْية المصالح المستبدة أوصلت نصار إلى الاعتقاد بأن النظام الديمقراطي يقتضي، من داخله، قطيعة مع جميع أشكال الاستبداد بالحقيقة وما أكثرها!
فالحُكم في النظام الديمقراطي ليس محصَّنًا ضد نزعة تطويع الحقيقة وفقًا لما يناسب مصلحة الحاكم وأهدافه، أو وفقًا لمصلحة المعارضة وأهدافها، وصولًا إلى الكذب والتضليل. لكن هذا النظام السياسي يبدو، في المنظور التاريخي المقارن، حاضنًا لانقلاب كبير في سياسة الحقيقة بالنسبة إلى ما سبقها من عصور الاستبداد بالحقيقة.

جدلية المصلحة
وأصل هذا «الانقلاب» كامن في التناقض بين مبادئ النظام الديمقراطي ومبادئ النظام الاستبدادي، فركائز النظام الديمقراطي ترجع إلى ثلاث: الحرية الفردية، والمساواة بين المواطنين، والسيادة الشعبية، من دون أن نُغفل كونَ التفسيرات في شأن هذه المبادئ متعددة وأحيانًا متناقضة.
وإذا كانت الديمقراطية تستبطن احترام الإرادة الشعبية، فإن هذا لا يعني أن إرادة الشعب مطلقة، فالشعب يريد بحسب ما يرى، يقول الفيلسوف نصار. وما يراه الشعب محكوم بجدلية المصلحة والفكر. 
وما من ريب في أن تفكير الشعب بالدولة الليبرالية يختلف عن تفكير القطيع وعن تفكير القبيلة، لأن مكونات الشعب الأوّلية أفراد عقلاء، أحرار ومتساوون. أما المساواة فهي الحق لجميع الناس في الحرية والكرامة وفيما يلزم عنها من حقوق وواجبات. لكن نصار يميّز بين الحق في المعرفة من جهة وبين بناء المعرفة وتحصيلها من جهة أخرى.
من هنا كانت دعوته إلى مراجعة بعض الشعارات الرائجة، وفي مقدمتها شعار «ديمقراطية المعرفة». أما حصيلة التجربة في الحداثة الديمقراطية فمؤدّاها أن حرية الفكر تشمل ثلاث حريات؛ حرية السؤال والبحث، وحرية الاعتقاد والرأي، وحرية التعبير والنشر.
إن الديمقراطية، بتعميمها حرية الفكر بين المواطنين، تفتح عصرًا جديدًا في تاريخ الحقيقة. إلا أن حرية السؤال والبحث هي الأجدر بالاهتمام، لأنها مكمن القوة والجدّة وباعث التنافس والتقدم، ومصدر الشكوك والإشكاليات، وفاتح الآمال والآفاق. ويكثّف نصار مقولة ذات جذر سقراطي؛ إذْ يقول إن تاريخ الفكر هو تاريخ أسئلته قبل أن يكون تاريخ أجوبته.

استقلال وحياد
بعد ذلك، يؤكد المؤلف على قضيتين؛ أُولاهما أن ماهية الديمقراطية تقتضي حياد الدولة المبدئي بالنسبة إلى الدين، ولا تقتضي حياد المجتمع وأفراده بالنسبة إلى الدين، لأن الدولة ليست المجتمع بكلّيته، وما يصح على الدولة لا يصح بالضرورة على المجتمع وأفراده.
وثانيتهما أن الدين الذي لا يقبل مبدأ حياد الدولة في المسألة الدينية، لا يمكنه أن يحترم المبادئ التكوينية للديمقراطية. 
وبعد شرح معمّق للاعتبارات الملازمة، يستنتج نصار أن الموقف الطبيعي والمنطقي للدولة من الحقائق اللاهوتية هو موقف الاستقلال والحياد، وترْك المذاهب المتعلقة بها، في الدين الواحد أو في الأديان المتعارضة، للسلطات المعنيّة بها. على أن الحياد في هذا السياق لا يعني الخصومة والاستبعاد، كما أنه لا يعني الانحياز والتخالف، ولا يدفع مطلقًا نحو اللامبالاة... فالشعب في الديمقراطية لا ينظر إلى نفسه من خلال الانتماء الديني، بل من خلال وجوده المادي والثقافي.
أما القسم المتعلق بالديمقراطية والاستنارة بالفلسفة، فيستهله المؤلف بالتأكيد على فكرة واضحة هي قدرة هذا الحكم العادل على رعاية حرية الفكر وإبداعه، وأن تاريخ الديمقراطية الحديثة يكشف أن الفلسفة ليست موضوعًا رئيسيًا بين موضوعات سياسة الحقيقة فيها وحسب، وإنما هي الفاعلية النظرية التي أسهمت بقوة في تكوينها ومواكبتها.
وإن الديمقراطية، باعتبارها رؤية جديدة للإنسان وللسياسة، تستمد روحها ومبادئها من الفلسفة السياسية.

 نظريات متماسكة
يوضح نصار أن الأدوار الّتي يتعيّن على الفلسفة أن تقوم بها في الديمقراطية هي أربعة أدوار: سياسي وأبستمولوجي (معرفي) وأخلاقي وميتافيزيقي. لكن لا بد للقوى المنخرطة في عمليات الانتقال إلى الديمقراطية من تأسيس برامجها العملية على نظريات فلسفية متماسكة حول شتى الحقائق التجريبية أو المعيارية، التي تدخل في بناء أنظمة الديمقراطية. وليس المطلوب أن تخترع هذه النظريات ما ليس في الحسبان، بل أن تبني المداميك التي تجعل الشعب يتحرر من سيطرة التراث على عقول أفراده وفئاته.
ولعل تركيز نصار على هذا الدور الأبستمولوجي عائد إلى الفائدة الكامنة في تعطيل إمكانات التصادم عندما يجري تجاوز الحدود. ولا يتردد المؤلف في تعريف الأبستمولوجيا بأنها فلسفة الحدود بين أنماط التفكير. فمتى ساد الاعتراف المتبادل بالمحدودية قياسًا إلى الحقيقة الكاملة، ساد الاحترام المتبادل بين المواطنين، وسهلتْ بالتالي محاصرة المسائل الخلافية، كمسألة الإجهاض، أو عقوبة الإعدام، أو الموقف من نظرية التطور، أو حرية رأس المال المادي، أو دونية المرأة، أو تحسين النسل، أو منع الحجاب، أو مثيلاتها من المسائل.
ويعتبر مؤلف كتاب «التنبيهات والحقيقة» أن تاريخ حرية الفكر الفاعلة في تقدّم الحضارة البشرية هو تاريخها في الحداثة الأوربية التي امتدت كظاهرة ثقافية هائلة الطموح على المعمورة جمعاء. يعني ذلك، قطْعًا، أن تراث الحداثة الأوربية فيما يخص حرية التفكير والاعتقاد هو تراث للبشرية جمعاء، وإن كانت الذاكرة لا تتعامل مع أحداثه التفصيلية على النحو نفسه في الحرارة والبرودة، تبعًا لدرجة ابتعاد صاحب الذاكرة عن تلك الأحداث وآثارها، وتبعًا لنوعية حاجته إلى استحضارها والاعتبار بها.
من ذلك على سبيل المثال الكوجيتو الديكارتي (1637) الذي يعّمق نصار للقارئ حفريته المعرفية حتى الإشباع.

حدث فاصل
فالكوجيتو كان حدثًا فاصلًا ومنعطفًا شاملًا لا بمعنى أنه كان جديدًا كل الجّدة، بل بمعنى أنه كان تأسيسًا وإعلانًا بأن عصرًا جديدًا في تاريخ الفكر البشري قد انطلق، ولا شيء يستطيع إيقافه. 
ففي الكوجيتو تتلاقى تأثيراتُ تفجيراتٍ حضارية - نهضوية - تنويرية أمست عنوانًا لمرحلة كاملة من تاريخ الحداثة الأوربية هي مرحلة التأسيس والانطلاق والانفتاح على اللامحدود. يقول نصار: «ليس الأهم هو عظمة الكوجيتو، بل مسؤوليته. أنا أفكر إذًا أن مسؤول، لا عن كوني مفكرًا، بل عما أفعله بكوني مفكرًا. ومسؤوليتي دائمة بدوام كوني مفكرًا... حرية التفكير في منطق الكوجيتو هي، أولًا، حركة تحرُّر للفكر من كل سلطة معرفية تفرض نفسها فرضًا عليه، وترجعه إلى موقف التلقي والتسليم بحقيقتها. 
وهي ثانيًا اضطلاع بمسؤولية الفكر عن بلوغه الحقيقة. الكوجيتو لا يقول إنه هو الحقيقة كلها، بل يقول إنه هو الطرف المسؤول في الإنسان عن تدبير شأن الحقيقة».
يتحرك نصار، بعد ذلك، إلى تبيان اختراق النقد لعصر الأنوار من أوله إلى آخره.
وقد أصبح النقد في تلك المرحلة العنوان الدافع لحرية التفكير. فالمسألة في رأيه ليست مسألة قطيعة معرفية بقدر ما هي مسألة تغيّر في المرتبة. وقد أدّت فلسفة كانط الدور الانتقالي في هذا التغيّر، كما أدّت الثورة الفرنسية دور الربط الوثيق بين النقد والتغيير الفعلي للنظام القائم، ومتى انطلقنا من كانط فإننا نجد أن نقده لبنى العقل والمعرفة العلمية والمعرفية الميتافيزيقية، باسم العقل والإخلاص للحقيقة، قد مهّد الطريق لنوع آخر من النقد تناوَل المجتمع الحديث لا العلم الحديث وحده، وذلك باسم العدل والعلم معًا. ويتعمَّد نصار عدم إغفال دور كل من هيغل وفيورباخ لذلك النوع القاسي من النقد الحديث.

فارق حاسم
ثم يُفْرد نصار في كتابه الجديد قسمًا آخر لماهية الفلسفة وضرورتها، منتقلًا من خصوصية القول في ماهية الفلسفة وفي الفارق الحاسم بين القول بماهيتها والقول بماهيات العلم والفن والدين، باعتباره فارقًا كامنًا في المرجعيَّة، مشيرًا إلى أن كانط جعل النقد صفة ملازمة للعقلانية الفلسفية.
يَحْسُن بنا أن نشير إلى حوار آسِر للفيلسوف نصار جرى مع مجلة «يتفكّرون» عام 2017، لكنه لم يُنشر في حينه، إلا أن نص الحوار منشور في الكتاب الذي نعرض له، تحت عنوان «توضيحات على هامش السيرة»، أي سيرة نصار وتطوره الفلسفي. 
ففي ذلك الحوار يُبيِّن نصَّار، بعد محاولة النقد الفلسفي التي قام بها لظاهرة الطائفية في لبنان، وبعد المناقشات العديدة المتناقضة التي أثارتها تلك المحاولة، يُبيّن أن دراسة الشرط السياسي والشرط التاريخي في وجود الإنسان، وهي عماد المشروع الّذي عكف على بلورته وتنفيذه، لا يمكنها أن تتحقق على مقتضى الكونية الفلسفية إلا إذا تخلّصتْ من منطق الصراع بين المذاهب السياسية المرتبطة بالخصوصيات الجماعية التاريخية، وارتفعت بموضوعها إلى مستوى الإنسان بكلّيته النوعية، دونما نظر في البداية، إلى كيفية تعاملها مع الأفلاطونية أو الأرسطية أو الرّوسّوية أو الهيغلية أو المكيافيلية أو الخلدونية. 
وأعلن نصار، في منتهى الوضوح، أن ذلك كان منطلق انكبابه على دراسة الأدبيات السوسيولوجية الّتي تناولت تلك المذاهب تحت مصطلح الأيديولوجية من دون أي اتفاق فيما بينها على تعريفه. وقد أوصله بحثه إلى صياغة تعريف تركيبي للأيديولوجية يربطها ربطًا عضويًّا بالتعبير والدفاع عن وجود جماعة تاريخية معيّنة، وعن مصالحها وتطلعاتها.

ضغوط هائلة
على أن نصّارًا يجزم في خاتمة كتابه بأن الأسباب التي دعته إلى الاهتمام بفلسفة السلطة هي نفسها ما دعاه إلى الاهتمام لاحقًا بفلسفة الحرية. وقد ظهر له بعد تبلور مشروعه للاستقلال الفلسفي أن المدار الرئيسي الجامع للنظر الفلسفي في الإنسان هو مدار الفعل. فالإنسان كائن يفعل، بصرف النَّظر عمّا إذا كان فعله مختلفًا عن أفعال جميع الكائنات في العالم أم لا. فما معنى الإنسان بوصفه كائنًا، وبوصفه فاعلًا، وتاليًا بوصفه كائنًا فاعلًا؟
تلك أسئلة اشتغل عليها المؤلِّف طويلًا وما زال، لأن السلطة والحرية مترابطتان ومتقاطعتان. لكن المشكلة الكبرى التي يواجهها العرب، على صعيد بناء الديمقراطية كنظام اجتماعي - سياسي - معياري، هي أنه يجب على الشعوب العربية أن تبني في زمن قصير، وتحت ضغوط هائلة من الداخل والخارج، مثيل ما بناه الغرب الحديث لنفسه على مدى قرون.
فتاريخ المجتمعات الغربية، منذ أوائل القرن السادس عشر حتى أيامنا، فيما يخصّ السلطة والحرية، هو التاريخ الذي يمتلك أهم المفاتيح المؤدية إلى تفوّقها وقيادتها للعالم، من دون أن يعني ذلك سلامة كل ما استخلصَتْه من بناءاتها حول السلطة أو حول الحرية. لذلك تنطرح في ربوعنا نظريات الاقتباس واختصار المراحل، ويدفع اليأس أو الشعور بالانهزام أحيانًا إلى استدعاء أمجاد الماضي، تعويضًا عن تاريخ ما زال موضع تمجيد، أو تشاؤمًا من حاضر لا يبدو فجره وشيكًا، ولا حتى بعيدًا >