ملامح الحداثة المعاصرة

ملامح الحداثة المعاصرة

تعيش المجتمعات المسلمة على وقع عديد من التحولات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، ولعلها في ذلك لا تختلف عن بقية مناطق العالم. إذ إن ما يميز  عالمنا المعاصر  هو التحول والتغير والانتقال، وليس الثباث والجمود. بيد أن ما استحثّنا على الكتابة في هذا الموضوع، هو التحول العميق الذي طال منظومة القيم الثقافية والدينية بالمنطقة، خصوصًا ونحن نعلم أن «الدين في التجربة الإسلامية يتميز بكونه متغيرًا مستقلاً، ولا يمكن اعتباره متغيرًا من المتغيرات كالاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي، مثلما هي الحال في الأنساق المعرفية الأخرى. وذلك لأن الدين في تلك الأنساق كان عنصرًا مكتسبًا أضيف إلى وجود المجتمع في إحدى مراحل تطوره. 

أما في الخبرة العربية، فيلاحظ أن الدين كان عامل إنشاء لهذا الكيان، إذ ارتبطت نشأة الكيان الاجتماعي بدعوة دينية، كانت نتيجتها نشأة كيان سياسي أوجد وحدة فكرية ثقافية بين مكونات المجتمع العربي القائم الآن. ومن ثم فالدين ليس عنصرًا أو متغيرًا من المتغيرات يمكن فصله، كالمتغير الاقتصادي مثلاً، وإنما هو القاطع المستعرض لجميع هذه المتغيرات، فهو بمنزلة عمود أفقي تقوم عليه أعمدة رأسية هي المتغيرات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فيعطيها مضمونها وماهيتها بدرجة أو بأخرى» (نصر عارف، 1998). 
وعلى الرغم من حضور الدين في المجتمعات المسلمة، ودوره في بناء بقية الأنساق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فإن واقع التحول الذي عرفته التجربة التاريخية والراهنة للمجتمعات المسلمة، بدأ يشير إلى مجموعة من المفارقات: 
أولًا: ضعف أو غياب أو فقدان الإجماع حول المرجعيات الدينية الكبرى التي تؤطر المجتمع المسلم، وخصوصًا المرجعية الدينية، ولكي نفهم بعضًا من هذه التحولات الدينية التي تؤثر بشكل كبير في منظومة القيم عند الأفراد والجماعات، نشير إلى ما حصل في العقدين الأخيرين من القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة، حيث إن أزمة الحداثة، كما تحدث عنها، كل من بيرغر ولوكمان، والتي لا يمكن تفسيرها من خلال ما توصل إليه كارل ماركس، عندما تحدث عن مفهوم الاغتراب «Aliénation»، أو في ما طرحه من قبل دوركهايم في مفهوم «الأنومي»، أو حتى من خلال العلمنة الصلبة التي حدثت بسبب تراجع دور المؤسسات الدينية في إنتاج القيم المجتمعية (مثل حالة بعض المجتمعات الأوربية)، بل إن سبب «الأزمة» هو في تعددية القيم الدينية، أو تعدد المرجعيات، وتنازع الفاعلين حول المرجعية المولدة للمعنى؛ فالأفراد ليس لديهم إشباع على مستوى تناسقية القيم الدينية، وأن القيم العامة لا تجد طريقها للتطبيق بشكل موحد وملائم في جميع مناحي الحياة المجتمعية (جرموني، 2015، مؤمنون بلا حدود). وبالتالي يمكن الحديث عن ضياع المرجعيات، وأنه لا توجد حقيقة موحدة للجميع. أو يمكن الحديث عما أطلق عليه شخصيًا بـ«العلمنة الهادئة» والتي لا تعني قطيعة مع الدين بشكل كلي، بل إنها تشير إلى تفاوض مرن بين الدين والحداثة من جهة وبين الدين والدولة من جهة أخرى، وبين المجتمع والأفراد من جهة ثالثة. 

تحديث طوعي
ثانيًا: بروز موجة من التدين يمكن أن نطلق عليها «التدين الفردي»، فرغم أن الدين حاضر في مخيال ووجدان المجتمعات المسلمة، فإن المؤكد أنه وقع له تحول من جراء موجات التحديث الطوعي أو «القسري» التي عرفتها هذه المجتمعات، والتي فتحت المجال الواسع، لبروز أشكال من التعاطي الديني لم تكن مسبوقة على مستوى المنطقة العربية - الإسلامية، إذ إن الطفرة التربوية شكلت مجالًا لتملك العديد من الفئات، وخصوصا الشباب والنساء لجزء من المعرفة، وخصوصًا المعرفة الدينية، حيث تمت منافسة المؤسسات التقليدية الرسمية وغيرها (حركات الإسلام السياسي) في إنتاج وإعادة إنتاج المعرفة الدينية. وهكذا أصبحنا أمام جيل من الشباب والنساء ينتج معارف ومبادئ وقيماً دينية تعبر عن تطلعاته وعن نظرته للكون (World View) بلغة ماكس فيبر. وإذا ما أردنا أن نبسط بعض نتائج الأبحاث الميدانية التي أنجزت في المنطقة، والتي تساعدنا على فهم هذا التوجه، يمكن الإشارة إلى بعض الدراسات والأبحاث التي تناولت إشكالية تأثير العولمة على طبيعة التدين في العالم، نجد أنّ بعض الباحثين (أولفي روا، جيل كبيل،... وغيرهما)، وبمستويات مختلفة يعبّرون عن كون العولمة، كفكر ومنظومة قيم ومشروع حداثي، ساهم في إحداث مجموعة من القطائع والتصدعات في الخصوصيات الثقافية لعديد من المجتمعات، لاسيما الإسلامية منها تحديدًا، حيث خلقت موجات التحديث القسري أو المفكر فيه مجموعة من المظاهر المؤرقة التي تؤشر إلى وجود «أزمة هويّة» عند غالبية أبناء العالم الإسلامي، ففي الوقت الذي ينحو خطاب العولمة إلى سحق كلّ الخصوصيات الثقافية والدينية والقيمية، مرّة باسم التحرر ومرّة باسم التحديث، ومرّة باسم القيم الكونية، فإننا نعثر على ردود فعل عنيفة أحيانًا تدعو إلى التعلق بالقيم الخصوصيّة إلى حد التقوقع والدوغمائية، وفي أحيان كثيرة نعثر على خطاب توفيقي تلفيقي «البريكولاج» بلغة ليفي سيتروس. ومفاد هذا الخطاب الثاني هو أنّ المسلم يمكنه أن يعيش في هذا العالم المعولم، لكن مع الاحتفاظ بقيمه وبدينه وبثقافته. في هذا الصدد يمكن الرجوع إلى الاستقصاء الكبير حول «من يتحدث باسم الإسلام»، لجون اسبيزيتو، وداليا مجاهد، 2009، إذ يبين بلغة الأرقام والمعطيات نماذج من هذه الإجابات التي تتبنى خطابًا توفيقيًا بين العولمة/ الحداثة المعاصرة من جهة، وبين الدين من جهة أخرى» (جرموني، مؤمنون بلا حدود، 2015). ولعل أهم ما يمكن الانتباه إليه في هذا التحليل المتواضع، هو بروز حالات من التدين في العالم الإسلامي، شكلت شبه قطيعة في نمط التدين السابق، ولعل أبرزها على الإطلاق: حالة التدين الفردي. 
بطبيعة الحال، لا يمكن الجزم بنوع من الحدية في استخلاص أهم التوجهات الجديدة التي برزت عند المجتمعات المسلمة المعاصرة، لكن حسبنا أن نشير إلى بعض منها، والذي يمثل ــ في اعتقادنا ــ أهم ملمح من ملامح التحول في المنظومة الدينية بالمنطقة، هذا مع التذكير بأننا نعترف بأن هناك ملامح أخرى عدة تستحق التوضيح والتحليل، لعل من بينها وأكبرها، التحول نحو الردكلة والتطرف الدينيين، اللذين أصبحا يشكّلان معضلة المعضلات في الآونة الأخيرة. لكننا نعتقد بالمقابل، أن هناك العديد من الباحثين والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية والمنظمات الدولية والإقليمية والمحلية، التي تتولى مباشرة هذا الموضوع، بيد أن هناك «ضعفًا» في التعاطي مع الوجه الآخر من هذه التحولات، وهو الذي أشرنا إليه، بمفهوم «العلمنة الهادئة»، لذلك سنحاول أن نقدم بعضًا من أوجهها ومظاهرها الأكثر بروزًا... فكيف ذلك؟

ملمحان بارزان
من الناحية المنهجية، يصعب حصر كل التوجهات، فذلك ما تنوء عنه هذه المحاولة المحدودة في الزمان والمكان، لكننا سنحاول أن نقدم للقارئ ملمحين بارزين بقوة في الآونة الأخيرة: الأول مرتبط بحرية المعتقد، والثاني بانفجار المسألة الجنسية في المجتمعات المسلمة.
ففيما يخص حرية المعتقد، لا شك في أن جدلية هذه العلاقة شكلت على الدوام محور حدب ونقاش وتقاطب في جميع الدول، وقد ظهر ذلك في عدة تجارب للمجتمعات المسلمة، سواء بشكل علني (المغرب نموذجًا، أو بشكل ضمني وكامن، المملكة العربية السعودية)، خصوصًا عند إطلاق ورش التعديلات الدستورية الأخيرة التي انطلقت مع ما عرف بـ «الربيع العربي». ونحن نعتقد أن الأمر لن يتوقف بمجرد تغيير القوانين أو الدساتير، بل إن ذلك سيبقى خاضعًا لسياقات وحيثيات وعوامل عدة، لعل من أهمها دور الإعلام في تحريك المعارك والنقاشات والصراعات حتى، فإن ذلك ما يؤشر في نظرنا إلى وجود تحولات عميقة في الخريطة الدينية بالمجتمعات المسلمة، قد لا ينتبه إليها بالشكل المطلوب. ولهذا يمكن أن نقرأ مثلًا في العديد من الأبحاث والدراسات التي تنجز بين الفينة والأخرى، توجهًا نحو تعددية دينية تعبر عن ذاتها، باستلهام أشكال جديدة من التدين والاعتقاد والممارسة. كالبوذية أو المسيحية، أو البهائية أو غيرها من الأديان أو حتى «اللاأديان» إذا صح هذا المفهوم، لأنه لا يوجد شخص من دون دين. فالإنسان كائن ديني بامتياز «homo religiosus».

تحولات عميقة
أما المستوى الثاني من هذه التحولات التي أطلقنا عليها «العلمنة الهادئة»، فهي المتعلقة بالمسألة الجنسية. فالأكيد أن فئة الشباب - بشكل خاص - تعيش على وقع تحولات عميقة، لعل من بين مؤشراتها الكبرى، تضخم المسألة الجنسية، وكيفية يتم تدبيرها من طرف المجتمع، ولهذا يمكن القول أننا بدأنا نلاحظ انفجارًا جنسيًا، يؤشر على وجود مفارقة بين المثال والواقع. فالجيل الشبابي الحالي، الذي عايش ظروفًا أقل ما يقال عنها أنها تثير الغرائز، فالإعلام والإنترنت وأشكال الموضة الحديثة وتقنيات التواصل السريع، سرعت من حضور الهواجس الجنسية أكثر من الأجيال السابقة. هذا في الوقت الذي يعرف فيه هذا الجيل إعادة لمنظومة قيم جديدة ولمجموعة من المؤسسات والمرجعيات والتقاليد، وعلى رأسها مؤسسات الأسرة والدين والمدرسة، بل وحتى الإعلام. وقد يتولد عن ذلك، بروز ثقافة جديدة، تقول ــ نحن الشباب ــ لدينا هواجس ورغبات واستيهامات، ونريد أن نعيش في وطن يقبل بنا، ويحمينا ويقر بالفصل بين الحريات الفردية والحريات الجماعية، وإن قوانين البلد (القانون الجنائي مثلاً)، بل وحتى التقاليد الدينية والثقافية والتراثية عليها أن تتغير في اتجاه المصالحة مع الذات، لا جلدها والتحقير من شأنها. 
إن هذا التوجه البارز- والذي لا يستثني مجتمعًا مسلمًا من المجتمعات -، يذهب في اتجاه القول بأن على الدولة، المؤسسات الدينية، الأسر، المدرسة، «رجال الدين»، والمجتمع برمته، أن يتحول التساهل مع بعض الممارسات الفردية. بل أكثر من ذلك، إننا نقرأ في هذا التوجه العام، ملمحًا إلى تغيير نسقية القيم الروحية بالمجتمعات المعاصرة، والتي تعني الفصل الجزئي بين الدين والدولة، بما يسمح للجميع بالعيش في مجتمع يتسع للجميع، بدلًا من حالة «النفاق» الاجتماعي أو الباتولوجيا التي يعيشها اليوم عديد من المجتمعات المحيطة.
ختامًا، يمكن القول إننا - في المجتمعات المسلمة ــ دخلنا مرحلة جديدة في علاقتنا بالمكون الديني والثقافي، عنوانها العريض هو التحول العميق الذي غير الكثير من المسلمات الجاهزة التي لا زالت تعتمل عند البعض. ولعل من بينها وجود حالة من التفاوض مع المكون الديني، والتي سميناها بـ«العلمنة الهادئة»، والتي لن تكون سوى مقدمة لعلمنة كلية ستطال المجتمعات المسلمة برمتها. هذا مع التذكير أن ملامح أخرى ستبرز في الساحة، وهي المقاومة الشديدة لهذه التوجهات التي ستتخذ منها حركات الإسلام السياسي، سندًا لتبرير دفاعها عن «القيم الدينية» وبناء مشروعيتها من جديد. أو من خلال استمرار حالتي التطرف و«الردكلة» اللتين تحدثنا عنهما واللتين ستستمران في البروز والظهور، نظرًا لحيثيات مرتبطة أساسًا بدمقرطة الحقل الديني، وتوسيع مجالاته على كل فئات المجتمع >