فيكتور هوجو... كيف يسهم الكاتب في إصلاح القانون والمجتمع؟

فيكتور هوجو...  كيف يسهم الكاتب في إصلاح القانون والمجتمع؟

لعب الأدباء والروائيون الكبار في القرنين الماضيين دورًا طليعيًا في معالجة وتصحيح الأخطاء والعيوب الاجتماعية، ومحاربة التقاليد والأعراف الخاطئة، والارتقاء ببلدانهم وتصحيح مسار شعوبهم والشعوب الأخرى. والأدباء الكبار الذين يسبقون مجتمعهم وعيًا وفكرًا، يحملون راية التنوير  ويسلّطون الأضواء الكاشفة على عيوب المجتمع ومثالبه، ويسهمون في مكافحة مظاهر إذلال الإنسان وتحقيق حريته ومواجهة التقاليد والسياسات السائدة. والنماذج كثيرة ومتعددة، من الأديب الإنجليزي تشارلز ديكنز  الذي عالج آلام المجتمع البريطاني مع بداية انطلاق الثورة الصناعية، وليو تولستوي في معالجاته المستفيضة للمواضيع الإنسانية الكبرى في روسيا القيصرية، وصولا إلى الكتّاب الأمريكيين الذين ناهضوا العنصرية والرقّ في مجتمعهم لأكثر من قرنين من الزمان.

في هذا السياق، تأتي رواية الكاتب الفرنسي الكبير فيكتور هوجو، «اليوم الأخير لمحكومٍ بالإعدام»، التي تناولت إحدى القضايا الإشكالية الكبرى في زمانه، وهي «حكم الإعدام»، الذي يبقى حتى الآن موضوعًا إنسانيًا شائكًا، في كثير من بلدان العالم. وهي العقوبة التي لا تنتهي بإنهاء حياةٍ بشرية، وإنّما تجر وراءها مآسي ومعاناةً لأطراف أخرى. والمفارقة التي يقدّمها هوجو هي أن آلة الإعدام (المقصلة) اخترعها طبيب فرنسي، رغم وجود الرصاص الذي يمثّل طريقةً أسهل وأسرع وأقل ألمًا وفظاعةً لتنفيذ الأحكام.

ثلاث يتيمات
لم يذكر هوجو اسم بطل روايته، ولم يشر إلى جريمته إلا في منتصف الربع الأخير من روايته، وإنّما ركّز على أنه إنسانٌ من دم ولحم، له مشاعر وأحاسيس، وله عائلة وقرابات، وإعدامه لا يقتصر على شخصه وإنما ستطال تبعاته أشخاصًا آخرين، فهو يعني «إعدام ثلاث يتيمات معه: أمه العجوز، وزوجته الشابة، وطفلته البريئة».
تبنّى الروائي والشاعر الكبير قضية مناهضة أحكام الإعدام، التي كانت تتم بصورة تعسفية، ودون مراعاة لأي حقوق للمتهمين، أو احترام لكرامتهم أو إنسانيتهم أثناء الحجز، فضلًا عن مراعاة المتضررين الآخرين من وراء إعدامهم. وهو يتقمص شخصية الضحية، ويعيش دوره، وينقل إلينا أحاسيسه وأفكاره وهواجسه الداخلية التي تعذّبه وهو ينتظر أسابيع طويلة يوم تنفيذ الحكم. فيكتب على لسانه: «انتهيت الآن من كتابة وصيتي! ما فائدة ذلك؟ لقد حُكم عليّ بدفع تعويض لن يكون كل ما أمتلكه كافيًا لسداده. في الواقع فإن المقصلة باهظة الثمن».
ويغوص هوجو في التفاصيل الموجعة: «إنني أترك بعد موتي أمًا وزوجةً وطفلة! طفلة صغيرة في الثالثة من عمرها، حلوةٌ وردية اللون هزيلة، عيناها واسعتان سوداوان وشعرها طويلٌ كستنائي اللون. كان عمرها سنتين وشهرًا عندما رأيتها لآخر مرة. وهكذا سوف يكون بعد موتي ثلاث نساء، واحدة منهن بغير ابن، والثانية بغير زوج، والثالثة بغير أب، ثلاث يتيمات. ثلاث أرامل باسم القانون. إني أرضى أن أعاقَب عقابًا عادلًا، لكن هؤلاء البريئات ماذا جنَيْن؟ إن هذا لا يهم! إنهم يفضحونهن ويدمّرون حياتهن». 
لم يكن المحكوم عليه بالإعدام يقلق من مصير أمه العجوز المسكينة، فهي في الرابعة والستين، وتوقّع أن تموت من أثر الصدمة. كما لم يكن أمر زوجته يبعث في نفسه الأسى كثيرًا، فهي معتلة الصحة ضعيفة الروح، وسوف تموت هي الأخرى إلا إذا أصابها مسٌّ من الجنون، حيث «يقولون إن الجنون يطيل العمر، لكن عقلها لن يتعذّب عندئذٍ على الأقل! ومن ثم فإنها سوف تنام وتكون كأنها في عداد الموتى». أما ما كان يعذبه حقًا، فهو طفلته الصغيرة الهزيلة الجميلة ذات الشعر الكستنائي الطويل: «طفلتي، صغيرتي ماري، المسكينة التي تضحك وتلعب وتغنّي في هذه الساعة، ولا تفكّر في شيء البتة». 

طفلة حلوة كستنائية الشعر
من المشاهد المؤثرة التي رسمها الكاتب بريشته، هو مخاطبته لطفلته، حيث يستعيد صورتها في الساعات الأخيرة له في الحياة، ويتخيّلها أمامه فيناجيها ويناغيها ويبثها شكواه. أما الصورة التي ستبقى عالقةً في مخيّلة القارئ طويلًا، فهي حين تحقّق له اللقاء بطفلته، وكان ذلك في منتصف الليل، وقبل ساعتين من موعد التنفيذ، حيث يأتون بها إليه ليودّعها. كانت تصطحبها خادمتها، ولم تحضر زوجته، فوقفت الخادمة في الزاوية تراقب المشهد وتبكي. الطفلة لم تتعرّف عليه لفراقها إياه قبل عام، حيث تغيّر شكله، وشحب وجهه، وطالت لحيته، وبسبب ملابسه الرثة أيضًا في السجن.
كان يأمل أن يسمعَ منها كلمة «بابا» مرةً واحدةً فقط، قبل أن يأخذوا منه عمره، لكنها خاطبته بكلمة «سيد»، كما تخاطب الغريب. لقد عجزت عن التعرف عليه، وهو في تلك الحالة البائسة بتلك الزنزانة، في ذلك الليل البهيم. سألها: «ألم تعرفينني يا ماري؟»، فترد متفاجِئةً: «آه! إنني لا أعرفك حقًا». وعندما أخبرها أنه أبوها، أجابت: لقد مات! وفي تلك اللحظة الصعبة التي انقطع فيها آخر أمل له بالتعلّق بآخر غصنٍ يربطه بالحياة، سلّم الطفلة البريئة للخادمة وقال: خذيها من هنا. 
بعد هذا اللقاء العاصف الحزين مع طفلته، تهالك على مقعده مغتمًا مكروبًا يائسًا، وقال: «هذا هو آخر عصب من أوتار قلبي قد انقطع، وصرت جاهزًا لما سيفعلونه بي على الفور». 

مرافعة ضد حكم الإعدام
إن ما قدّمه هوجو في روايته هذه، يعتبر مرافعةً رفيعةً ضد حكم الإعدام، وكان يأمل في إيقافها، خصوصًا مع التوسّع في تطبيقها في تلك الحقبة من التاريخ الفرنسي: النصف الأول من القرن التاسع عشر. وكان التساهل في تطبيقها على أيدي قضاةٍ قساةٍ عتاة، لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلًا، حيث تُطبّق على جرائم السرقة أو الحرق أو حتى تهريب بضاعة من أجل التهرّب من دفع الضريبة. 
لم تكن الجريمة هي التي تهمّ هوجو في مرافعته بالدرجة الأولى، وإنّما يهمّه العقاب الذي تتسع دائرته إلى تدمير حياة الأبرياء، ولذلك فإن أول إشارةٍ واضحةٍ إلى الجريمة ترد في الربع الأخير من الرواية: «كنت أستجمع ذكرياتي واستعدت جريمتي للمرة الثانية بهلع، لقد كنت أكثر ندمًا قبل أن يصدر الحكم عليّ، وبين ذلك العهد وبين الحاضر نهرٌ من الدم. دم الرجل الآخر ودمي أنا. هذا العالم المقيت الذي بدأ بجريمة وانتهى بالمقصلة». ويصف ذلك الاضطراب الذي يعصف بذهنه: «ألمٌ عنيفٌ في رأسي، وبرودةٌ في كليتي، وجبيني ملتهب، وكلما وقفت أو انحنيت بدا لي أن هناك سائلًا يموج في دماغي ويضرب مخي في غلاف جمجمتي». ويشير إلى مبلغ اليأس الذي يبلغه الضحية في الخلاص من ربقة الحياة، فهو يعدّ ما بقي منها بالدقائق والساعات: «سأشفى بعد ساعتين وخمسة وأربعين دقيقة، وهو موعد تنفيذ الحكم». 
وظل حتى الدقائق الأخيرة يأمل بحدوث معجزة، تنقذه من المقصلة، بأن يصل العفو عنه في اللحظة الأخيرة كما يحدث أحيانًا... ولكن «آه! ياللتعساء. يبدو لي أنهم يصعدون السلم. إنها الساعة الرابعة!

تعرية الجمهور
لم يقف هوجو عند مهاجمة حكم الإعدام باعتباره عقوبة عنيفة وغير إنسانية، وإنما تصدّى للجمهور، الذي يشارك بجهله و«حشريته» في استمرار هذه الانتهاكات وتقبّلها، بل والمشاركة فيها دون أدنى شعور أو استنكار. فهو يصف الرعاع الذين يحتشدون أمام بوابة السجن أو في الساحة العامة مهللًا مصفرًا... «ها هو الشعب الرهيب ينبح، تحت نافذتي، وينتظرني ويضحك». 
كان هوجو يحارب على مستويين، المستوى الحكومي: حيث ينتقد ويفضح أداء المؤسسات الرسمية من قضاء وسجون وحراس؛ والمستوى الشعبي: حيث يطرب الشعب لتنفيذ الأحكام القاسية ويغنّي أمام مناظر السجناء المستباحي الحقوق. حتى أصحاب الخمارات بالقرب من السجن، كانوا يؤجّرون المناضد والمقاعد والمنصّات والعربات لهم، حيث كان كل شيء مزدحمًا بالمتفرّجين، وكان بائعو الدماء البشرية يصيحون بملء أفواههم: مَنْ ذا الذي يريد مكانًا؟ أمام هذا الشعور العام المتدنّي البليد، يصيح هوجو على لسان المحكوم بالإعدام: «تملّكني غضبٌ على هذا الشعب، وددت لو أصرخ في الناس: من منكم يريد مكاني»؟، وهو يتقدّم بين صفوفهم: «غدوت لا أرى ولا أسمع شيئًا، أواه من كل تلك الأصوات»، «وتلك الرؤوس التي تطل من النوافذ والأبواب وشبابيك الحوانيت، وفوق أعمدة النور. كل هؤلاء المتفرجين القساة النهمين... إن كل هذه الأنظار التي تحدّق إليك شيء لا يمكن تحمله».
إنها عملية توعية وإيقاظ للضمير العام المتبلد، ومحاولة خلق رأي عام من أجل قضايا عادلة، مثل مناهضة أحكام الإعدام واستسهال النطق بها على أفواه القضاة وسهولة التلاعب بالقانون، وإذلال السجناء الذين تتم معاملتهم بوحشية وقسوة واستهتار، دون مراعاة أنهم بشر يتألمون، حيث يصف معاناتهم أثناء نقلهم بالعربات مقيّدين، وهطول المطر عليهم وتركهم شبه عراة لساعات وهم ينتفضون من لسعات البرد.
لا شك في أن هذا المنظر كان مألوفًا في باريس بداية القرن التاسع عشر، فلم يجد من يستنكره أو يستهجنه، أو يدينه ويطالب بتغييره. بل إن الكاتب استبق الرواية بنشر مسرحية بعنوان «ملهاة في معرض ملهاة»، تتكلّم عن القصة ذاتها، تكشف الوضع العام الذي لم يكن يتقبل أفكار الكاتب، ونشرها دون أن يضع عليها اسمه إلا في الطبعة الثالثة. وكان الوضع بحاجة إلى كاتب شاعر روائي ينبض قلبه إنسانيةً، يعيد صياغة هذا الواقع من جديد، ليكشف للفرنسيين مقدار القبح الذي يعيشونه ويألفونه ولا يشعرون بمدى فداحته وبشاعته، تمهيدًا لتغييره إلى واقع أكثر كرامةً وإنسانيةً واحترامًا للبشر >