عن راهنية الأسطورة قراءة في فكر مرسيا إلياد
ظل التعامل مع الأسطورة بوصفها مفهومًا مقترنًا بمعاني الزيف والكذب، أو بما هو خرافي وهمي أو لا عقلي ولا يستند إلى أساس من الواقع أو التاريخ، ولم يكن نقد الأسطورة مرتبطًا بالتصورات الدينية فحسب (لاقتران الأسطورة غالبًا بالرؤى الوثنية)، وإنما كانت موضع نقد عقلي منذ بواكير الخطاب الفلسفي اليوناني، حيث كان أتباع المدرسة الأيونية من أمثال أنكسيمندريس وأكسينوفان أول من سخر من الأسطورة وشرع في نقدها رغم حضور بعض الرؤى ذات الأصل الأسطوري في المتن الفلسفي الأفلاطوني، لقد قام الإغريق بإفراغ الميثوس تدريجيًا من كل قيمة ميتافيزيقية أو عقلية، فقد أصبحت دلالة «ميثوس» هي نقيض «اللوغوس» (العقل)، كما ستصبح نقيضًا للـ«هستوريا» (التاريخ)، وانتهت الميثوس للدلالة على كل ما هو ليس حقيقيًا.
استمر الرفض الفلسفي للأسطورة ليتدعم بالموقف الوضعي في القرن التاسع عشر، الذي اعتبر الميثولوجيا شكلاً بدائيًا من الوعي الإنساني في طريقه إلى الانقراض، ولم تتم إعادة الاعتبار للأسطورة باعتبارها موضوعًا للدراسة العلمية إلا في القرن العشرين عندما أولى بعض علماء الأنثروبولوجيا والباحثين في التاريخ العام للأديان أهمية خاصة للخطاب الأسطوري، ومن أهم الباحثين الذين اشتغلوا على الأسطورة نذكر مرسيا إلياد (1907 ــ 1986)، الذي قدم قراءات جديدة ومختلفة لدلالات الأسطورة، ففي الفصل الأول من كتابه «أساطير وأحلام وأسرار» أكد أن الأساطير والرموز الجمعية ما فتئت تفعل فعلها في المجتمعات الحديثة وإن كان حضورها لا يقارن بما كان عليه تأثير الأسطورة في الأزمان الماضية، معتبرًا أن «ما يصيب المجتمعات الحديثة من ضيق وقلق وما تواجهه من أزمات إنما يعود إلى غياب أسطورة خاصة بها»، وأن المجتمعات الغربية الحديثة في أزمة منذ القطيعة التي حصلت بينها وبين المسيحية ما جعلها تبحث عن أسطورة وعن ينبوع روحي جديد يرد لها قواها الإبداعية.
دلالة الأسطورة
عُرّفت الأسطورة على أنها خطاب أي نظام دلالي له قواعده ومقاصده، فهي تتماثل مع نظام اللغة، وقد اعتبرها ابن منظور في لسان العرب مشتقة من السطر وجمعه أسطر وأسطار وأساطير، فالأساطير هي الأحاديث التي لها نظام خاص بها وهو قول يتوافق إلى حد ما مع البحث السيميولوجي المعاصر الذي يعتبر الأسطورة نظامًا دالاً.
وفي محاولته لتعريفها يقر إلياد أنه من الصعب تقديم تعريف يستوفي المفهوم ويرضي المختصين، وعلى كل فإنه من الصعب تقديم تعريف مكتمل ونهائي يشمل كل وظائف وأشكال الأسطـــــورة، «إذ هي واقعــــة ثقافيــــة معــــقـــدة للغاية»، لينتهي إلى القول: «التعريف الذي يبدو لي أقل التعريفات نقصًا هو التعريف التالي: الأسطورة تروي تاريخًا مقدسًا... وهي دائمًا سرد لحكاية خلق»، فهي تفسّر كيف ظهرت الأشياء، فترجعها إلى قوى مفارقة هي شخصيات رمزية، فما يسم الأساطير هو الأسلوب القصصي بشكل عام. إذًا تُعنى الأسطورة أساسًا بخطاب البدايات «عندما تحكي على نحو مجازي ورمزي كيف حدثت الواقعة.. ولماذا؟»، كما يقول روجيه جارودي، فهي في النهاية رؤية للعالم تمنحه معنى ودلالة وتضع بشكل أو بآخر نموذجًا عمليًا يصف الطريقة الأجدى والأمثل التي ينبغي أن يسلك وفقها الإنسان، فهي تقدم الأساس المثالي للسلوك الإنساني، لهذا تلعب الآلهة وأنصاف الآلهة الأدوار الرئيسية في الأسطورة ويصبح سلوكها مرجعًا لسلوك البشر. فالأسطورة تتميّز بشموليتها، أي أنها تتعلق بكل جزئيات الحياة والموت، إذ تتعرض لبداية خلق الكون ونهايته وتضبط أدق تفاصيل الحياة (المعاش، والمهارات، والحرف، والحياة العائلية، والحرب والسلم، والفن، والطب...).
وظائف الأسطورة
يؤكد مرسيا إلياد «أن الوظيفة الأساسية للأسطورة هي الكشف عن النماذج المثالية لكل الطقوس ولكل النشاطات البشرية الدالة»، وهو ما يعني أن بنية التفكير الأسطوري تظل فاعلة بوصفها شكلًا من أشكال الخطاب الإنساني الذي يقدم رؤية مكتملة للعالم.
ومثلما يشكّل الدين والعلم والفن رؤى للعالم مستمرة الحضور والفاعلية، فإن الأسطورة بدورها تتخطى ظروف نشأتها التاريخية لتتخفى بأشكال تعبيرية مختلفة ومتفاوتة التأثير وبصور لاواعية لترافق أشكال الممارسة الإنسانية في شتى مناحيها.
فالإنسان ليس كائنًا عقلانيًا صرفًا، فقد أثبتت الأنثروبولوجيا البنيوية (كلود ليفي ستروس) والدراسات النفسية (التحليل النفسي) أن البحث في الجوانب الأسطورية للإنسان يعبر بشكل أكثر دقة عن الجوانب الخفية للكائن البشري، بوصفه كائنًا متعدد الأبعاد. ورغم سعي الفكر الوضعي إلى وأد الأسطورة من خلال حديثه عن قانون الحالات الثلاث، الذي يعتبر التاريخ الإنساني قد مر بالمرحلة الأسطورية الدينية أثناء طفولة البشرية ليمر بعدها إلى المرحلة الميتافيزيقية، وأنه يعيش حاليًا مرحلة نضج البشرية، حيث يسود الفكر الوضعي الذي يعتمد العلم كأداة تفسيرية واحدة للعالم، فإن الممارسة اليومية للإنسان لازالت تحتفظ ببنية التفكير الأسطوري، فالإنسان المعاصر غير الديني «ينحدر من سلالة الإنسان الديني، وهو صنيعته، أراد ذلك أم لم يرد، وقد تكوّن انطلاقا من أوضاع اتخذها أسلافه» كما يقول مرسيا إلياد.
فالإنسان المعاصر وإن لم يعد مؤمنًا بالأساطير في صيغها المعروفة قديمًا وبأنصاف الآلهة وأعمالهم الخارقة، لكن حاجته إلى أساطير جديدة ظلت مستمرة وبأشكال مختلفة، وهو أمر اضطلعت السينما والأدب والإشهار والرياضة والنظريات السياسية بتلبية هذه الحاجة ومدّه بقداسات جديدة.
إن فهم حضور الأسطورة في الزمن المعاصر يوجب إدراك طبيعة البنية التي تقوم عليها بغض النظر عن طبيعة التصورات التي تقدمها (على أهميتها لدارسي التاريخ والأنثروبولوجيا وعلماء الاجتماع)، فجوهر الأسطورة مرتبط أساسًا بمعنى القداسة.
فالمجتمعات المعاصرة رغم ميلها إلى نفي المقدس في قراءتها للزمان والمكان وعلاقتها بالطبيعة، باعتبار أن الإنسان المعاصر هو كائن تاريخي أولًا وأساسًا، فإن هذه المجتمعات الحديثة تعيش على أساطير وقداسات تتخفى وراء مظاهر علمية أو ممارسات يومية، أو في الألعاب وأدوات الترفيه، فالأساطير بقيت حية بعد أن خضعت لعملية علمنة (sécularisation): «لقد أسهمت الأساطير في صنعنا بما نحن عليه اليوم، إنها تشكل إذن جزءًا من تاريخنا المعاصر».
أساطير شائعة
إن الإنسان المعاصر بحسب مرسيا إلياد بقدر محاولته التحرر من هيمنة خطاب القداسة والتخلص من الأسطورة في رؤاه المختلفة، ظل خاضعًا بصورة ثانوية لأنماط من التفكير الأسطوري في أسسه الكبرى والتي يمكن عرض أهمها على النحو التالي:
ــ أسطورة العود الأبدي: حيث تحتل فكرة الدور (الزمن الدائري) مكانة مهمة عند الإنسان سواء كان «بدائيًا» أم معاصرًا، فالدور يعني «العود» إلى نقطة الانطلاق والتكرار، والأساطير جميعًا حسب إلياد تستند إلى التصور الأنطولوجي نفسه، فالكائن لا يكتسب وجودًا حقيقيًا إلا إذا قلّد أو اقتدى بالمثال، وهو لا يحس أنه يحيا فعليًا إلا عند اقتدائه بمثال أسمى، فهو عندما يحرث ويبذر ويحصد ويتناسل ويحارب ويعالج ويبني أو حتى في لحظات اللهو والتفاخر بالأزياء والمتاع، إنما يكرر أعمالًا وحركات حسب مثال أول ضبطته آلهة في بداية الخليقة، «ولا يصير الإنسان إنسانًا حقيقيًا إلا بالتوافق مع ما يتعلمه من الأساطير ومحاكاته للآلهة»، وإذا كان الإنسان المعاصر قد نزع عن مثله طابع القداسة فإنه يقتدي برموز الكرة وأبطال السينما والشخصيات الوطنية ومبدعي تقليعات الأزياء.
ــ أسطورة الفوضى ونهاية العالم: وتجد امتدادها في التصورات التي تتحدث عن الكوارث الكونية الكبرى بداية من فكرة الطوفان ووصولاً إلى نظرية القيامة التي تقضي على النوع البشري كله، ولا تخلو الأساطير البشرية جميعًا من مثل هذه التصورات القيامية والكوارثية، التي تجد أصلها في خطيئة الإنسان، نتيجة مخالفته العود الأبدي، وتمرده على النظام الذي وضعته الآلهة في بداية الخلق، ولا يخلو الوجود الإنساني المعاصر من هيمنة هذه النظريات الكوارثية التي تمتد من تحذيرات أنصار البيئة من الكارثة نتيجة المس بالتوازن البيئي وانتهاء بالكتابات الأدبية والأفلام السينمائية التي تستند إلى مثل هذه الرؤية ذات المنشأ الأسطوري.
ــ أسطورة العصر الذهبي: أو اليوتوبيا بأشكالها المختلفة وتفيد أن الإنسان سيصل مستقبلاً إلى عصر ذهبي تنتفي منه كل أشكال التفاوت الاجتماعي، حيث يندثر الظلم ويسود الرخاء وينال كل البشر نصيبًا مجزيًا من الخيرات بعيدًا عن الحروب والصراعات، ويعتبر إلياد أن الكثير من التصورات السياسية الحديثة مثل «مدينة الشمس» عند كامبانيلا، أو «أطلانطس الجديدة» فرنسيس بيكون، أو شيوعية ماركس، إنما هي امتداد لهذا التصور بعد أن تم نزع غلافه الأسطوري عنه.
إن هذه الأبعاد الكبرى للأسطورة كما تحدّث عنها إلياد لا تقترن بما يسميه البعض وعيًا بدائيًا، وإنما تحضر في تعبيرات إنسانية مختلفة لدى من يسميه إلياد بالإنسان التاريخي بوصفه امتدادا للإنسان البدائي، فالإنسان المعاصر الذي سعى إلى التحرر من ماضيه إنما هو في النهاية نتاج لهذا الماضي حتى وإن حاول النفي أو إنكار حضور البنية الأسطورية في طرق تمثّله للعالم ووعيه به.
أساطير معاصرة
يذهب مرسيا إلياد إلى التأكيد أن للأسطورة حضورًا مركزيًا في أشكال الوعي الإنساني المعاصرة، ويقدم أمثلة على هذا التأثير الضمني من خلال نماذج مختلفة:
الشيوعية: بعيدًا عن الجانب الفلسفي للماركسية والأساس النظري الاجتماعي/ الاقتصادي، الذي تستند إليه يؤكد إلياد أنها تستعيد من حيث البنية أنماطًا للتفكير الأسطوري، خاصة تلك المتعلقة بالمصير والنهاية والدور الإنقاذي للبطل «الذي يضطلع به العادل والمصطفى، والقديس والبريء، والمبشّر وتسمّيه الشيوعية: «البروليتاريا». بل إن ما بشّر به ماركس في بيانه الشيوعي من مجيء عالم جديد ومجتمع بلا طبقات وزوال التوترات التاريخية «يجد له السابقة الأكثر صوابًا في أسطورة العصر الذهبي التي تميّز بحسب شعوب كثيرة بداية ونهاية التاريخ». إنها أيديولوجيا خلاصية لا تختلف كثيرا عما تبشر به الأساطير وكثير من الرؤى الدينية فصراع البروليتـــاريا ضد الاستـغـلال والهيمنة الطبقية التي تتوج بانتصارها النهائي «يمكننا بسهولة أن نقارنه بالنزاع بين المسيح والمسيح الكاذب الدجال، والمتبوع بالظفر النهائي للمسيح الحقيقي».
الاحتفال بالأعياد: تحضر الأسطورة في الممارسة اليومية للبشر مهما اختلفت انتماءاتهم الحضارية، يستوي في ذلك الإنسان المتدين وغير المتدين، ففي الاحتفال بالأعياد الدينية أو الوطنية، أو حتى في المسرّات العائلية عند قدوم رأس السنة أو عند ولادة طفل جديد في العائلة أو بناء بيت أو حتى الاستقرار في بيت جديد «كلها تكشف عن الحاجة إلى بداية مطلقة يحس بها المرء إحساسًا غامضًا، وإلى أن يبدأ حياة جديدة، أي إلى أن ينبعث انبعاثًا شاملاً»، إنها شكل من أشكال الاستعادة الخفية لأسطورة التكرار الدوري للخلق أو أسطورة «العود الأبدي».
الأدب والسينما: يحفل الإبداع الإنساني بأشكاله المعاصرة بحضور قوي للأسطورة سواء من خلال استعادة صبغتها الحكائية أم من خلال حضور بنيتها في التعامل مع مفاهيم الزمان والمكان والخير والشر والبطل ونقيضه المتوحش، فالسينما هي مصنع الأحلام «تستخدم صيغًا أسطورية لا حصر لها: الصراع بين البطل والـــــوحــش، الأشكال والـصور النموذجية: فتاة الشاشة، البطل، المشاهد البطولية»، وكل هذا يحيل إلى استئناف للخطاب الأسطوري واستلهامه بأشكال مختلفة، وبالمثل فإن الأدب يحل محل الرواية الشفوية في الأسطورة ويتضمن البعد الأهم في المخيال الأسطوري، وهو ما يسميه مرسيا إلياد «الخروج من الزمان»، فالرواية ومهما تعددت مضامينها القصصية «تنقل الإنسان الحديث خارج ديمومته الشخصية وتدمجه في إيقاعات أخرى، تجعله يحيا في تاريخ آخر» وهذا بالضبط ما تقدمه الأسطورة في جانبها الحكائي وصورها العجائبية.
إن الخلاصة التي يصل إليها مرسيا إلياد تكشف عن جملة من النقاط الأساسية، أهمها أن الأسطورة ليست شكلاً متخلفًا من الوعي البشري، بل إنها شكل مختلف له بنيته ومنطقه الداخلي الخاص، وأن الإنسان المعاصر اللاّ ديني ورغم رفضه للمقدس لم يتحرر من أسباب السلوك الديني ولا من مذاهب اللاهوت والأسطوريات حتى وإن بدا من الصعب استشفاف حضور الأسطورة في سلوك الإنسان الحديث، فإن الأكيد حسب إلياد «أن عملية سلخ القداسة عن الوجود الإنساني، أكثر من مرة، قد آلت إلى أشكال هجينة من السحر المنحط والتدين اللفظي» >