د. لطيف زيتوني: التطرف مرضٌ عقلي قبل أن يكون تفكيرًا منحرفًا

د. لطيف زيتوني: التطرف مرضٌ عقلي قبل أن يكون تفكيرًا منحرفًا

لطيف زيتوني أكاديمي وناقد مختصّ بالسرديات، شارك في حركة النقد بأبحاث وكتب، بدءًا من كتابه «حركة الترجمة في عصر النهضة» (1994)، ثم «سيمياء الرحلة» الذي صدر باللغة الفرنسية (1997)، ثمّ «معجم مصطلحات نقد الرواية» (2002)، ثم «الرواية العربية، البنية وتحوّلات السرد» (2012)، وصولاً إلى الكتاب الأخير «الرواية والقيَم» (2018) الذي عالج مسألة الروائي والرواية من منظور جديد هو المسؤولية. من هذه الخلفية أردت أن أبدأ حواري معه، وأن أطرح عليه هذه التساؤلات. 

< هل تشكّلت في عصر النهضة بنية نقدية يمكن اعتبارها منطلقًا إلى النقد العربي الحديث؟  
- لا شك في ذلك، فقد عرف عصر النهضة اتجاهين في النقد الأدبي؛ الأول اختار إحياء القديم، وكان النقد فيه جزءًا من عملية ثقافية واسعة تعيد وصل الثقافة العربية بماضيها البعيد الزاهر؛ والثاني، بل التالي، اختار التجديد، وبدأ مع احتكاك العرب بالثقافة الغربية، وتجلّى في مصر خصوصًا باستعانة الجامعة المصرية في مطلع القرن العشرين بمجموعة من كبار المستشرقين (نلينو، وبروكلمان، وجيب،...) الذين اعتمدوا في تدريس طلابهم مناهج نقدية متكاملة ومختلفة كل الاختلاف عن النقد اللغوي والبلاغي الذي طبع النقد العربي القديم. واليوم يعتمد العرب، كمعظم الشعوب في الواقع، على المناهج النقدية الغربية، مع اجتهادات فردية تمليها شخصية كل ناقد وثقافته.

حالة عالمية
 هل هذا يعني أن ما أصاب الشعر في الشرق هو صدى لما حصل في الغرب، وأن تراجع الشعر أمام الرواية ليس حدثًا عربيًا، بل هو حالة عالمية؟
- بالتأكيد، فقد واكب الشعر العربي تطور الشعر الغربي في نصوصه ومفاهيمه من خلال المدارس الشعرية الرومانسية والواقعية والرمزية والسريالية. ثم واكب هذا التطور من خلال طروحات الحداثة الشعرية. لهذا انتهى إلى ما انتهى إليه الشعر في الغرب: تراجع اهتمام القراء به، غياب الطلب على الشعراء في وسائل الإعلام، وضعف إقبال الناشرين عليه.
ويكفي أن نقارن موقع الشاعر اليوم في المجال الثقافي والاجتماعي بالموقع الذي كان يحتلّه في الماضي القريب، لندرك مدى غياب الشاعر والشعر عن الفضاء الثقافي اليوم في أوربا وفي البلاد العربية التي تتصدر الحداثة الثقافية. 
فبقدر ما كان الشعر سجلاً لحساسية الناس وثورتهم وعواطفهم كان له عندهم المحل الأول. لكن الفنون جميعًا، الشعر والموسيقى والرسم والنحت، اتجهت بعيدًا عن الناس، أي اختارت الاكتفاء بالنخبة، وتحولت صناعتها من التعبير إلى مغامرة التأليف ولعبة الأدوات، وكثُر الحديث في الشعر عن الغموض والقصيدة البيضاء. اليوم تحصد هذه الفنون ما زرعته. واليوم يحاول كثير من الشعراء إعادة الصلة بالناس، والعودة من المغامرة إلى التأليف، ومن الغموض إلى شبه الوضوح، لكن هذا الأمر يحتاج إلى وقت.  

 حركة ناشطة 
  لكن الرواية أيضًا اتجهت بعيدًا، خصوصًا مع ما سمّي «الرواية الجديدة». فكيف استطاعت أن تحيد عن الطريق المسدود الذي دخلت فيه سائر الفنون؟ 
- لو عدنا إلى الرواية في أوربا خلال النصف الأول من القرن الماضي، وتحديدًا إلى الثلث الأول منه، لوجدنا حركة ناشطة منصبّة خصوصًا على تطوير الشكل الروائي، لكن النتائج الكارثية التي أسفرت عنها الحرب العالمية الثانية شكّلت صدمة هزّت كل المسلّمات، وخلقت جوًّا من النقد الجذري للأفكار السائدة. هذه المرحلة التي امتدت إلى بداية ثمانينيات القرن الماضي هي مرحلة الشك الذي أدى إلى ما سمّي «أزمة الرواية».
وصار البحث عن مفهوم جديد للرواية الهمّ الرئيسي لدى النقاد، وكان منظّرو ما سُمي بـ «الرواية الجديدة» (ألان روب غرييه، جان ريكاردو) أكثرهم جذرية في هذا البحث. فقد رفضوا الحكايات البسيطة المنطقية، وصبّوا شكّهم على الشخصيات، وقدّموا روايات مضطربة المقاييس، وحوّلوا اللغة إلى مغامرة، وغيّروا في رؤية القارئ للعالم.
لكن «الرواية الجديدة» لم تحتلّ المجال الروائي كله، فتمكنت الرواية الواقعية من الاستمرار بعدما بدّلت الكثير من أساليبها، كتكسير الزمن وتفكيك الشخصية وتنويع الحبكة، واستعمال منظورات جديدة، إلخ. وهذا ما سمح للرواية عموما بأن تنجو من المأزق الذي وقعت فيه سائر الفنون.

 حنين عميق
هذه التغييرات التي أصابت الرواية، ألا تتطلب من النقاد عملاً أكبر؟ هل تعتبر أنّ تقصير النقد الأدبي، اليوم، عن مواكبة الرواية العربية في مسيرة تجددها، ناجم عن قصور في تمثّل النقّاد العرب للمصطلحات النقدية الحديثة؟ ألا تندرج تجربتك في «معجم مصطلحات نقد الرواية» في صلب هذا الأمر؟ 
- حين نتحدث عن النقاد، علينا أن نميّز بين أصناف مختلفة منهم. فهناك المنظّرون والأكاديميون والإعلاميون، ولكل صنف منهجه ومادته وقراؤه. بالنسبة إلى الصنف الأول، دعني أروي لك حدثًا حقيقيًّا ومعبّرًا. في عام 1989 طرحت المجلة الأدبية الفرنسية (الخمستعشرية الأدبية) على نحو 20 كاتبًا سؤالاً حول مستقبل الأدب، فعبّروا جميعًا عن سعادتهم لانتهاء زمن الإرهاب النقدي ولغياب أعلام الفكر، لكنّهم عبّروا عن حنين عميق لزمن النظرية الحية التي أخرجت الرواية من سباتها. هذا الالتباس الظاهر بين الحنين إلى زمن النظرية الأدبية والانعتاق منه يعود إلى تبنّي أصحاب النظرية البنيوية، خصوصًا رولان بارت وجيرار جينيت، للرواية الجديدة بعدما وجدوا فيها ما يحتاجون إليه: رواية مغلقة على نفسها، مقطوعة الصلة بأي مرجع، وتسير وفق نظامها الداخلي.
إن تبنّي أصحاب النقد الجديد للرواية الجديدة أعطاها دفعًا قويًّا جعلها تستغني عن القارئ التقليدي، وتطرح شعارًا جديدًا هو أن الرواية هي التي تصنع قارئها. أما النقاد الأكاديميون فقد تابعوا النظريات ونشروا كثيرًا من الأبحاث عنها، وواكبوا الروايات التي جدّدت نفسها وأدخلت تغييرات حقيقية على أسلوبها وبنائها، وكتبوا عنها وعن تقنياتها الجديدة، لكنهم نشروا أبحاثهم في مجلات أكاديمية لا يتابعها القرّاء غير المتخصصين. أما النقّاد الصحافيون فهم يعيشون تحت ضغط السرعة، ولا يتمكنون في الغالب من تقديم نقد يروي عطش القارئ المهتم.  
نعم، إن مسألة تمثّل المصطلحات الحديثة هي مشكلة حقيقية في النقد العربي، نلمسها في أوراق المشاركين في الندوات وفي كتابات كثير من النقاد الأكاديميين والصحافيين على السواء. 
ومسألة المصطلح ليست في لفظه بل في مفهومه، لأن المفهوم غالبًا ما يكون جزءًا من منظومة نقدية. والمصطلحات في النقد كالمصطلحات في أي علم هي مفاهيم وأدوات معًا، وما لم نتمثل المفهوم جيدًا، لن نفلح في استخدام الأداة. لقد كان هذا بالفعل سببًا لتأليفي «معجم مصطلحات نقد الرواية»، وأن انتشار هذا الكتاب بين يدي النقاد والأكاديميين واعتماده في كثير من الجامعات العربية دليل على الحاجة إليه وعلى الرغبة في تحصيل هذه المفاهيم بصورة دقيقة.   
        
4 درجات
في كتابك الأخير «الرواية والقيم» عرضتَ لفكرة التزام الكاتب، ماذا عن الروائي غير الملتزم؟
- إن الرواية عمل فني واجتماعي معًا، لأنها نتاج كاتب تشكّلت ذاكرته وخبراته ولغته وأفكاره كلها من وجوده الاجتماعي، وهي تتوجّه إلى قراء هم في صلب المجتمع، وتعالج موضوعات متصلة بالإنسان، فردًا أو جماعة. لهذا لا يمكن فصلها عن مجتمعها وقيمه وتطلعاته وحاجاته. أما الالتزام فمسألة أخرى، لأنه خيار لا ضرورة، ولأن فيه درجات تمتد من الالتزام العقائدي الصارم إلى الالتزام الإنساني العام؛ وفيه تلاوين كثيرة لكثرة المنطلقات الفكرية والسياسية التي توجّه حمَلة القلم، ولتضاربها أحيانًا، وتغيّرها مع الزمن.
إن مواقف الكتّاب على 4 درجات: فمنهم من يلتزم بصوته فيعبّر عن موقفه من خلال المناظرات والخطب والمناقشات، لكنه يتجنب الالتزام في رواياته؛ ومنهم من يلتزم بقلمه فيعبّر عن موقفه من خلال رواياته، لكنه يمتنع عن أي صوت اجتماعي أو إعلامي؛ ومنهم من يلتزم بصوته وقلمه ويعبّر عن التزامه بكل وسيلة تتاح له؛ ومنهم أخيرًا من لا يلتزم لا بصوته ولا بقلمه. 
الكاتب غير الملتزم هو كاتب غير موجود، لأن الإنسان إن لم يلتزم بعقيدة أو بقيم عامة أو بقيم شخصية، فهو على الأقل ملتزم بعدم الالتزام، أي بنظرة عدمية إلى الحياة والعالم، لأن الالتزام يحتاج إلى موضوع، أي أننا نلتزم - أو لا نلتزم - بأمر ما. 
في كتابي الأخير تحدثت عن الروائي الملتزم بالقيم الإنسانية، تلك التي تحمي مستقبل كل إنسان، مع علمي بأن هناك روائيين ملتزمين فئويًا لا إنسانيًّا. فمن هؤلاء من هو ملتزم دينيًا، ولا يعترف بالحق إلا لمن يشبهه من المؤمنين؛ ومنهم مَن هو ملتزم سياسيًّا لا يرى خيرًا في أي رأي يختلف عن رأيه، أو في أي مبدأ سياسي غير مبدئه؛ ومنهم من هو ملتزم اقتصاديًّا لا تهمّه سوى مصالح طبقته، ومنهم من هو ملتزم قوميًّا، ينظر بعين العداء إلى كل أقلية في بلاده، وبعين الريبة إلى كل الشعوب. وقد دفع العرب ضريبة باهظة عن هذا التزمّت. 
إن في كل فئة من هذه الفئات روائيين يكتبون الرواية وفق التزامهم الفئوي المتنكر للقيم الإنسانية الإيجابية الشاملة. يمكننا إذن أن نستنتج أن الالتزام ليس واحدًا، ولا يخضع لمعايير واحدة، وليس إنسانيًا دائمًا... والرواية كذلك. 
لكنّ الرواية التي يكتبها روائيون مثقفون ليست رواية فئوية، بل إنسانية، لأن غايتها خير الإنسان وإصلاح العالم، ولأنها كالمرآة تكشف لتصحّح. كل رواية تقدم شيئًا إلى قرائها، وإن لم تحمل رسالة. الرواية الملتزمة تؤدي مهمة وتحمل رسالة في وقت واحد. وهي تؤدي مهمتها من خلال موضوعها وخياراتها والمصائر الناجمة عن هذه الخيارات، ومن خلال حوارات شخصياتها ومنطقها وفضاءات حياتها وطرق عيشها، إلخ. 
فتأثيرها متعدد، وغير ظاهر في أغلب الأحيان، لأنها كلاعب الخفة تجذب نظرك إلى ناحية، في حين أن التأثير الحقيقي يتم في الناحية الأخرى. أما أبعادها ودلالاتها وبراعة صناعتها وسحر فنها فيستشف القارئ بعضها، لكنّ أسرارها تبقى طيّ نفسها، محجوبة عن القارئ وعن الكاتب معًا. وهذه الأسرار هي جوهر عمل الناقد. 
          
نظرة فلسفية
قلت إن كل روائي ملتزم، ولو بالعدمية. ما رأيك بالروايات الملتزمة بالشر كالتي كتبها - مثلاً - الماركي دو ساد في فرنسا، الذي اعتبر الشر حافزًا للكتابة، وكيف تفهم تركيز جورج باتاي على ارتباط الشر بالأدب في كتابه «الشر والأدب»؟ 
- لابد أولاً من التمييز بين روايات الرجلين. كتبَ جورج باتاي رواية الشر من خلال نظرة فلسفية عبّر عنها بوضوح في كتابه «الأدب والشر»، ومفادها أن الخير والشر متناقضان ومتلازمان، وأن الشر ليس سوى انتهاك للنظام الاجتماعي من خلال قطيعة متعمدة مع المحرّمات، تتجلّى في الأدب من خلال التعبير عن الرغبة في الحرية والشغف وتجاوز الحدود، وأن الشر يعمل ضمن المقدّس والمجهول ولذة الحاضر التي تحركها المواجهة مع الموت المحتوم. وهذا الموقف الفلسفي لا ينفي القيم، بل يستحضرها من خلال انتهاك المحرّمات التي تجمّدها وتمنع تطوّرها. 
أما دو ساد فقد كتب الرواية كرجل «سادي» (بالمناسبة؛ كلمة ساديّة مشتقّة من اسمه)، ينظر إلى الآخر (المرأة) كوسيلة للذّة، ولا يجد لذته إلا بممارسة القسوة الشديدة والتعذيب، وهو يبرر موقفه بأنه ينسجم مع منطق الطبيعة، فالطبيعة قاتلة ومدمرة، والتدمير هو وسيلتها إلى التجدد. لذا لا عجب في أنْ يرتكب في حياته، كما في رواياته، كل هذه الأفعال المنفّرة، ولا عجب أيضًا أن يمضي جانبًا كبيرًا من حياته بين السجن والمستشفى العقلي. وإن وَجدَ دو ساد في الستينيات من تبرّع بإعادة الاعتبار إليه، فلأن الستينيات كانت مرحلة ثورة فكرية ضد المحرّمات والسائد من الأوضاع والتقاليد. روايات دو ساد تحمل قيمة واحدة يستنتجها القارئ بنفسه، وهي أن التطرف مرضٌ عقلي قبل أن يكون تفكيرًا منحرفًا وسلوكًا مدمرًا.

تجربة واقعية
 هل يعني تركيزك على دور الرواية الاجتماعي، بل السياسي، أنه أهم من أدوار الوسائط الأخرى كالكتاب المدرسي، والمسلسل التلفزيوني، ووسائل التواصل الإلكترونية اليوم؟
- ليست المسألة مسألة مفاضلة بين الوسائط، بل مسألة تلقّ. الكتاب المدرسي موجّه إلى فئة محددة عمريًّا، ويتأثر بسنّ التلميذ ودور المعلم الذي يشرح النصّ، ويشكل النصّ المقروء جزءًا مما يتلقاه التلميذ الذي يقرأ ليتعلم القراءة لا للاطلاع والفهم. أما المسلسل التلفزيوني فيتوجّه غالبا إلى الطبقات الشعبية ويقدّم المألوف الذي يريحها ولا يزعج السلطة في آن. بقيت وسائل التواصل الاجتماعي كـ “فيسبوك” و”تويتر” وغيرها، وهي مصممة في الأساس للتواصل بين الأصدقاء الحقيقيين والافتراضيين، ومع أن تأثيرها كبير في تحريك المشاعر، إلا أنه تأثير عابر بسبب تزاحم المواد على صفحاتها. لهذا لا بد من النظر إلى الرواية بعين مختلفة، فهي ليست كتابًا مفروضًا على القارئ، ولا حكاية مرئية مسليّة، ولا كلامًا وصورًا تسير مسرعة على متصفحنا، بل عمل نقتنيه باختيارنا ونبحث فيه عما يشغل فكرنا ويتجاوب مع مشاعرنا، ويكشف أمامنا تجارب الناس في مجتمعنا. 
والرواية الراقية تقدم تجربة واقعية أقرب إلى المعقول من الرواية الشعبية والمسلسل التلفزيوني، ففائدتها بسبب ذلك أعمق وأجدى. وهي ليست محكومة بسرعة توالي الأحداث كالمسلسل، بل بإمكانها أن تتمهل في تحليل الظروف والنفسيات والأسباب والنتائج. وهي، أخيرًا، أكثر الفنون استيعابًا للأفكار، لهذا لجأ إليها كثير من الفلاسفة المعاصرين مثل جان بول سارتر وغابرييل مارسيل، لأنها تمنح الأفكار حياة وتجسّمها في شخصيات تعيش وتتألم وتفرح وتبكي وتشكو وتجادل. 
وبإمكان الرواية أن تقدم شخصياتها في كل الأوضاع والظروف، وأن تحمّلها مختلف الأفكار والمشاعر والصفات النفسية. لكل ذلك تعتبر الرواية نوعًا أدبيًّا لا يضاهى. ولهذا تحتل اليوم بين فنون الأدب، بل بين أنواع الكتابة كلها، المكانة الأولى.

مكان مميز       
فيما عدا نجيب محفوظ، الذي ترك وراءه إرثًا روائيًّا يدلّ على أمكنة محددة في القاهرة، هل تجد أنّ الروائيين اللبنانيين والعرب أنشأوا، من خلال رواياتهم، عالمًا يمكن الإحالة إليه؟  
- مرّ الفضاء القصصي والروائي في لبنان بمراحل ثلاث: قامت الأولى على ثنائية الريف/ المدينة التي تنتصر فيها دائمًا قيم الريف. وتميزت الثانية بالسعي إلى شيطنة الريف، أي فضح ما فيه من ظلم وذكورية وخرافات ومظاهر.
أما المرحلة الثالثة فكانت مرحلة المدينة. وقد تتدرّج هذه المراحل في نتاج كاتب واحد مثل يوسف حبشي الأشقر. وهذا يعود إلى أن معظم كتّاب القصة كانوا من أبناء الريف الذين نزحوا إلى المدينة للعمل والإقامة، فلما طال زمنهم فيها صاروا من أبنائها. وتسري هذه الإقامة الطويلة على غير اللبنانيين ممن أقام في بيروت طويلًا أو ولد فيها. 
ويكفي أن نلقي نظرة على عناوين الروايات التي تحتوي على اسم بيروت - وهي تزيد على الثلاثين - لندرك هذه العلاقات المتنوعة بالمدينة والأدوار التي لعبتها بعض الأمكنة والشوارع البيروتية في نسيج النصوص. 
لكن مَن يُلقي نظرة على الروايات العربية عامة، يجد أن كثيرًا من الأمكنة الحميمة؛ سواء كانت عواصم أو مدنًا كبيرة أو قرى وبلدات، قد احتلت مكانًا مميزًا في الفضاء الروائي، لأن المكان هو خزّان الحوادث التي تملأ ذاكرة القصّاص، ومنه يستمد الخيال أبعاده البصرية، وفيه تتجمع الوجوه التي يركّب منها الروائي صور شخصياته.
وكثيرًا ما يتحكّم المكان باختيار الشخصيات وصفاتها وأفعالها وعلاقاتها. فحين اختار إبراهيم الكوني الصحراء فضاء لرواياته فرض على الرواية قيودًا هي تلك التي يفرضها واقع الصحراء. وحين اختار عبدالرحمن منيف قرية الطيبة المحاذية للصحراء فضاء لروايته، لم يكن بإمكانه أن يتحرر من سطوة المكان الذي غدا شخصية مهمة في الرواية. 
واختيار الكاتب فضاء روايته لا ينفصل عن ذاكرته، كما ذكرنا، لهذا لا تجد رواية لبنانية - مثلًا - تعتمد الصحراء فضاء لها، ولا رواية عربية تحاصر الثلوج شخصياتها، إلا إذا اختارت فضاء غريبًا عن بيئة مؤلفها. 

مسألة صعبة
من كتابك «حركة الترجمة» الذي درست فيه نشأة فنّي القصة والمسرح في الأدب العربي إلى كتابك «الرواية والقيم»، ماذا تريد أن تقول للقراء؟ ما المشروع الذي رسمته لنفسك؟
- لأن النقد يقوم على مفاهيم، والمفاهيم تقوم على مصطلحات، والمصطلحات قد تتفق صورها ويختلف مفهومها، كان مسألة صعبة لمن لا يعود إلى المصادر الأصلية بلغتها. مشكلة النقد العربي اليوم هو هذه الطفرة في الدراسات السردية المقطوعة الصلة بالمصادر الأصلية، أو التي لا تصل إلى المصادر، بل إلى ترجماتها العربية. ومع تقديري لجهود المؤسسات الجادة، وهي معروفة، فإنه لا أحد يجهل أن معظم الكتب المترجمة إلى العربية لا تتم على يد متخصصين في مجالها، لأن ضعف المردود المالي للكتاب المترجم لا يسمح للناشر بذلك.
ما أقوم به في كتبي وأبحاثي هو ضبط المفاهيم انطلاقًا من مصادرها، ثم مناقشتها بمقارنتها بما يقاربها وما يناقضها، ثم اختبارها بتطبيقها على نصوص عربية تختلف في خلفياتها ومناخها عن النصوص التي أنتجتها في الأصل. 
كل ذلك يمهّد عندي لغاية عُليا هي ترسيخ منهج علمي في البحث السردي من شأنه أن يساعد على التوصل إلى تصورات جديدة حقيقية منطلقة من الفضاء السردي العربي وقادرة على المساهمة في تطوير النظرية السردية.
ما أريد أن أقول للقرّاء هو أن النقد اليوم، سواء نقد الرواية أو الرسم أو الشعر أو غيرها من الفنون، يميل إلى أن يصبح علمًا، أو على الأقل أن يعتمد مناهج العلم، لهذا بات عليهم - لكي يماشوا تطور النقد، ويتذوقوا الرواية وسائر الفنون - أن يبذلوا بعض الجهد، وأن يقتربوا خطوة من مفاهيمها ومصطلحاتها، كي لا تتسع الهوة بينهم وبين الثقافة الحديثة .