د. عبدالواحد لؤلؤة: لا يوجد في «العربية» ناقد حقيقي منذ القرن الرابع الهجري

د. عبدالواحد لؤلؤة: لا يوجد في «العربية» ناقد حقيقي منذ القرن الرابع الهجري

لم يكن عنوان الكتاب النقدي الأول للدكتور عبدالواحد لؤلؤة «البحث عن معنى» (1973) بعيداً عن «شرط» التوجه النقدي الذي سيتخذه فيما يكتب بهذا المجال، بل سنجده توجّهاً يحكم معظم اختياراته حتى في الترجمة.
هناك دائماً ثلاثة عناصر تُشكّل/ أو يتشكل منها بحثه النقدي:
فهناك الموضوعية التي تحكم بحثه، وهناك الخيال الذي يبحث عن دوره في عملية «البناء الموضوعي» للنص/ أو العمل المقروء. وهناك التاريخية التي يكشف عنها، والتي يؤسس بها النص/ العمل المقروء من قبله وجوده الخاص. فهو، كما يؤكد، يبحث «عن «معنى» مع القارئ، لا عن «المعنى»، لأن «المعنى المعرَّف» ليس بحاجة إلى بحث، فقد يكون في النص أكثر من معنى واحد، أو قد لا يكون فيه أي معنى.  ومن هنا تكمن أهمية «الدراسة النقدية» وفق ما يرى.
إلى جانب هذا نجد «شخصية المعلم» بالغة الحضور في كتاباته هذه بما تفتح، عبر مسارات القول، من رؤية لعل هذا الحوار معه يجلو الجانب الأهم فيها.

  في الربع الأخير من سنوات القرن العشرين، قدمتَ مشروعك الكبير بترجمة «موسوعة المصطلح النقدي»، وفي الربع الأول، حيث ما نزال، من الألفية الثالثة شرعت في تقديم ترجماتك لأعمال شعرية للشعراء العرب المجددين إلى الإنجليزية، فأصدرت منها عدداً، وهناك ما هو قيد الصدور أو الترجمة. فهل من صلة يمكن أن نعقدها بين المشروعين، نقديًّا على الأقل؟
- نعم، ثمة صلة بين المشروعَين، تشبه الصلة بين وجهي العملة الواحدة. يعود الفضل في ظهور «موسوعة المصطلح النقدي» إلى الأديب الشاعر الراحل شفيق الكمالي، حينما كان وزيراً للثقافة والإعلام في أواسط سبعينيات القرن الماضي، فهو الذي طلب منّي شخصيًّا اختيار كتب أجنبية حديثة في النقد الأدبي وترجمتها إلى العربية، لتنشرها الوزارة. 
وقد وجدتُ سلسلة من الدراسات النقدية الأوربية تصدر عن جامعة مانشستر بأجزاء صغيرة تتراوح بين 70 و100 صفحة، وهي دراسات مركّزة يلحقها قائمة لمراجع في عدد من اللغات الأوربية. بدأتُ بترجمة ما كان قد صدر حتى ذلك الحين، الذي زاد على 40 جزءاً، فترجمتُ منها تباعاً، وصدر: المأساة، والرومانسيّة، والواقعية، والمجاز الذهني، واللامعقول… إلخ. 
وقد أكملتُ 16 جزءاً من هذه السلسلة حتى عام 1982 عندما غادرتُ العراق ولم يعُد هذا المشروع يلقى الدعم المعهود من وزارة الثقافة والإعلام. وما يزال أمامي أكثر من 30 جزءاً، وصدر من السلسلة أكثر من 30 جزءاً أخرى، وجميعها ينتظر مَن يدعم المشروع، الذي هو في طاقة وزارة ثقافة أو مؤسسة ثقافية ما، من دون الناشر التجاري الذي يصعب التعامل معه.
الوجه الثاني لهذه العملة هو بداية تقاعدي عن النشاط العام في 2012 عند إقامتي في كمبردج، إذ شرعتُ في ترجمة مختارات من الشعر العربي المعاصر لتقديمها إلى القارئ في العالم الناطق باللغة الإنجليزية. والهدف تثقيفيّ كذلك، شأنه شأن الغرض من ترجمة «موسوعة المصطلح النقدي»: في الأولى تثقيف القارئ العربي، وفي الثانية تثقيف القارئ الأجنبي. 

محاولة تثقيف
 ما الذي كنت تريد أن تجعل قارئك العربي عليه وأنت تقدم له «موسوعة المصطلح النقدي»؟
- لأقل إنها محاولة تثقيف القارئ العربي بما جرى ويجري في عالم الثقافة الأوربيّة بمجال النقد الأدبي. وكانت الاستجابة لصدور أجزاء الموسوعة تباعاً مشجّعة جداً، وفي عدد من المؤتمرات الأدبية التي كنتُ أُدعى إليها، كان كثيرٌ من الحاضرين يبادرني بالسؤال: «متى تصدر الأجزاء الجديدة من ترجمتك للموسوعة؟» وهذا ما كان يشجعني على الاستمرار وتقديم المزيد. 
ووفق رواية أستاذ من أحد الأقطار العربية، كان العدد الجديد من الموسوعة مطلب كثيرين من القراء بشكل متزايد. وقد استهديتُ إلى كتاب صدر بالإنجليزية في بداية ثمانينيات القرن الماضي، وهو تاريخ توقّف صدور الموسوعة.
والكتاب بعنوان «نظرية الأدب الحديثة» بقلم عدد من أساتذة الجامعات البريطانية. فوجدت أنه من المناسب جداً ترجمة هذا الكتاب ليشكّل استكمالًا لعناوين الموسوعة. والكتاب يضمّ 8 عناوين، هي الشكلانية الروسية، والألسنية الحديثة ولغة الأدب، والنقد الجديد الأنجلوـ أمريكي، والبنيوية وما بعدها، والقراءة والتأويل، والنقد في التحليل النفسي، ونظريات الأدب الماركسية، والنقد الأدبي النسوي.
وقد صدرت ترجمتي للأبحاث الأربعة الأولى في كتاب لي بعنوان «أوراق الخريف» (نشر رياض الرّيّس، لندن، 2008)، كما صدرت ترجمتي للأبحاث الأربعة الأخيرة في كتاب لي بعنوان «ألوان المغيب» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2009). وأحسب أنني بترجمتي هذه الأبحاث الثمانية قد شكّلتُ تكملة لأجزاء الموسوعة، على الأقل في الوقت الحاضر، وما يزال أمامي أكثر من 30 جزءاً تنتظر الترجمة عند توافر ناشر، غير ناشل.
 
مسألة مهمة
 ما الذي تروم أن تجعل القارئ الأجنبي عليه وأنت تقدّم له ترجماتك من الشعر العربي الجديد لأعلامه من الشعراء المجددين؟
- استكمالاً لما قلت: غرضي من تقديم ترجمات من الشعر العربي الجديد إلى الإنجليزية هو تثقيف القارئ الأجنبي بإظهار ما لدينا من إبداع في الشعر، إن كان في شكل القصيدة أو في الموضوعات التي تشغل بال الشاعر العربي الحديث. وهذه مسألة مهمة للتعريف بتراثنا على المستوى العالمي. فقد صدر لي كتاب ترجمة مختارات من شاعر المقاومة الفلسطيني الشهير سميح القاسم، وفازت هذه المختارات بجائزة جامعة أركنسو الأمريكية، ثم نشرتها جامعة سيراكيوز بولاية نيويورك. ثم صدر لي كتاب ترجمة مختارات من شعر عبدالرزاق عبدالواحد، أبرز شعراء الحداثة في الشعر العراقي والعربي.
ثم صدر لي كتاب مختارات من شعر مظفّر النوّاب، أبرز مَن تصدّى بالنقد الشديد لبعض الحكام العرب. وسيصدر قريباً كتاب مختارات من شعر بدر شاكر السيّاب، خير مَن استمر بطريق التجديد في الشعر العراقي المعاصر.
وسيصدر قريباً أيضاً كتاب مختارات من شعر نازك الملائكة، التي وضعت اللبنة الأولى في التجديد بالشعر العراقي والعربي المعاصر. وقد امتدّ أثرها في أعمال عدد كبير من شعراء البلاد العربية. ويتبع ذلك كتاب مختارات من شعر عبدالوهاب البيّاتي. وثمة مشروعات لمختارات من شعراء عرب آخرين.
 في اختياراتك مما ترجمت لشعراء التجديد، هؤلاء، في الشعر العربي، هل هناك ما يجمع بين هذه الأعمال من فكرة، أو جوهر أساس، تريد للقارئ الغربي أن يكون على معرفة به؟
- نعم، إن الذي يجمع بين هذه الأعمال هو فكرة التجديد، وجوهره الأساس تطوير الشعر العربي التراثي بعيداً عن التقليد والمحاكاة للشعر الغربي. بهذه الطريقة يكتشف القارئ الغربي الروح الأساس في الشعر العربي الذي قد يستهدي بحركات التطوير في الشعر الغربي من دون أن يقّلدها في الأساس. وهنا يكمن معنى الأصالة.

توثُّب نحو التجديد
ما الذي استوقفك، شعرياً، في أعمال من ترجمت لهم من هؤلاء الشعراء العرب المجددين؟
- الخط الأساس في أعمال مَن ترجمتُ لهم من الشعراء العرب المجددين هو هذا التوثّب نحو التجديد مع التعلّق الشديد بالشعر التراثي العربي. فمثلاً، تجديد نازك الملائكة في شكل القصيدة العربية لم يتخلَّ عن الوزن التراثي والقافية. هذا إلى جانب استمرارها، ومَن اقتفى خطاها، بشعر الشطرين التراثي والقافية الموحدة.
لكن النزوع إلى التجديد وتناول الموضوعات غير التراثية في الشعر هو ما يميّز الشعراء العرب المجددين، بدءاً من الخمسة الكبار من شعراء بغداد في خمسينيات القرن الماضي، وامتداداً إلى عدد من الشعراء في البلاد العربية الأخرى.

عرض لا فرض
 وماذا عن كتاباتك/ كتبك النقدية إذا ما أردنا وضعها في هذا السياق من الرؤية والنظر؟ 
- في كتاباتي النقدية، ألتزم بما سبق ذكره من محاولة إحاطة القارئ العربي علماً بما حدث من تطوّرات في الشعر والآداب الأجنبية. هذه محاولة في التثقيف، لا على سبيل الاستعلاء والإلزام، بل بغرض العرض والتفسير، من دون فرض أي رأي أو نظرية غربية على القارئ، بل عرض ما أعرف من النظريات النقدية في الغرب، وللقارئ أن يختار ما يشاء، قبولاً أو رفضاً. 
أنا أمارس الكتابات النقدية أحياناً، لكنني لست ناقداً بالمعنى الدقيق، لأنني لا أمتلك نظرية في النقد تختصّني من دون سواي، وأحسب ذلك ضرورياً لتسمية الناقد. وقد تسبّب لي هذا الرأي، الذي قدّمته مرةً في إحدى المقابلات، بشيء من الإحراج. 
فأنا لا أعتقد بوجود ناقد يستحــــــق الاسم في العربية منذ القرن الرابع الهجري. وأرى أن جميع مَن تصدّى للنقد في الكتابات العربية بالعصور الحديثة إنما يستند إلى نظريات النقد التراثية العربية أو إلى نظريات النقد الأورُبية الحديثة. بعض أولئك الكرام الكاتبين لا يعترف بمصادره، وبعضهم يشير إليها على استحياء. فأديب كاتب كبير، مثل طه حسين، لم يدّعِ أنه ناقد، ولو أنه أقام شهرته على كتابه الأول، «في الشعر الجاهلي».
ففي ذلك الكتاب، كان طه حسين يستند إلى نظرية ديكارت في الشكّ. فراح يشكّ بما وصل إلينا من الشعر الجاهلي، أو من الشعر العذري، وذلك بوضع تلك الأمثلة في سياقها التاريخي، والمقارنة بما صدر من شعراء آخرين في فترات موازية، أو مقارِبة. إلا أن طه حسين لم يدّعِ أنه صاحب نظرية الشكّ، ولا أنه ناقد بالمعنى الدقيق، ولو أن كتابه هذا (الذي أعاد إصداره بعنوان آخر: «في الأدب الجاهلي») يبقى دراسة نقدية منيرة للقارئ العربي.

إعانة القارئ العربي
يبدو أن ما كان يهمك في ما كتبت من دراسات وقدمت من قراءات نقدية هو ثقافة القارئ العربي. فإن كان، فعلى أي الأسس أقمت توجهك هذا؟
 - إن ثقافة القارئ هي ما يهمني في الأساس. وأحسب أن ما قدّمته من دراسات يقع في باب إعانة القارئ العربي، وبخاصة مَن لا يقرأ بلغات أجنبية، للنظر فيما لدى أدباء الغرب من آراء قد تفيد القارئ العربي في تناوله النقدي لما لدينا من تراث أدبي، أو أعمال معاصرة. 
 وما الذي ينقص ثقافة القارئ العربي اليوم، وفق ما ترى؟
- أرجو ألاّ أكون متجنّياً إن قلتُ إن ما ينقص ثقافة القارئ العربي، أحياناً، هو الاطّلاع على ما يُنشر في البلاد غير العربية من آداب ونظريات نقدية. والسبب في ذلك قلّة الكتب المترجمة من لغات أورُبية، وتقصير وزارات الثقافة والإعلام في بعض البلاد العربية في تقديم ودعم ترجمات من الآداب الأوربية. يُقال أحياناً في بعض الأوساط الإعلامية إن ما يُترجم في بلد مثل إسبانيا في سنة واحدة يعادل ما يُنشر في عدد من البلاد العربية مجتمعة، وهذا يبيّن أهمية الترجمة في تثقيف القارئ العربي اليوم.

حقبة تأسيس
 أنت عشت/ وعايشت حقبة التأسيس للحداثة العربية في الأدب، وفي الشعر بخاصة، فهل تجد أن هذه الحداثة اتخذت مسار التأسيس، أم سارت مسار التقليد للآخر الغربي؟
- بلى، أنا عايشتُ حقبة التأسيس للحداثة العربية في الشعر بخاصة. وكان كبار شعراء العربية المجددين في العراق من زملائي بدار المعلّمين العالية في بغداد الأربعينيات والخمسينيات. 
وكنتُ أتابع جميع ما ينشرون من شعر في تلك الأيام وما بعدها. أحسب أن تلك الحقبة كانت تأسيساً، وليس تقليداً للآخر الغربي. ففكرة «الشعر الحر»، كما عرضتها نازك الملائكة عام 1947، كانت قول الشيء الخطأ للسبب الصحيح. فالشاعرة أول مَن يعرف معنى «الشعر الحر» وهو الذي يخلو من الوزن والقافية، وليس ما كتبته الشاعرة إطلاقاً، لكنّ فكرة الحرية كانت هي البارزة في فترة الأربعينيات والخمسينيات بالعراق، مما أعطى التسمية مذاقاً خاصاً. 
لكن، ظهر من بعد ذلك عدد من الأدباء من أصحاب المواهب البارزة، ممّن كتب الشعر الحرّ بمعناه الدقيق، أي الذي يخلو من الوزن والقافية، تقليداً للشاعر الأمريكي والت وِتمَن، الذي نشر مجموعة من القصائد تحت عنوان «أوراق العشب» في عام 1850. من أولئك الأدباء جبرا إبراهيم جبرا الفلسطيني/ العراقي، وأنسي الحاج اللبناني، وتوفيق صايغ الفلسطيني /اللبناني. في هذه الأعمال الشيء الكثير من الإبداع وجمال التعبير، لكنها تقصّر عن الشعر بمعناه التراثي. والمؤسف أن عدداً من أصحاب المواهب الضعيفة قد كتب الكثير من هذا الكلام الذي تنشره بعض الصحف، ولا أحسب أن كثيراً منه يلقى اهتماماً من المثقّفين الجادّين.
 
لستُ عرّاباً للثقافة
  لو طُلب إليك أن تضع تخطيطاً لثقافة المستقبل العربي، فبماذا تبدأ؟
- أرجو ألاّ يُطلب إليَّ مثل هذا الطلب الثقيل، فأنا لستُ عرّاباً للثقافة، ولا لثقافة المستقبل العربي على الإطلاق. ولكن، قد أقترح، محض اقتراح، أن نبدأ بزيادة ترجمة الكتب الأجنبية إلى العربية لتشكّل زاداً دائماً للجادّين في النهل من ثقافة العالم. ذلك في رأيي يشكّل انفتاحاً على الآخر، ويُعين على إدراك حقيقة وضعنا الثقافي الحالي، والتشجيع على الإفادة مما لدى الآخرين.
 هل يمكن القول إن لحياتك التدريسية لمادة الأدب في جامعات عراقية وعربية أثرها/ وتأثيرها فيما اتخذت من توجّه نقدي؟ فأنت فيما كتبت تبدأ من «النص/ العمل» تكويناً ومضامين، لتصل إلى ما ينطوي عليه/ أو ينفتح عنه من «معنى» تريد لمتلقيك التواصل/ التفاعل معه؟
- طبعاً، هذا الكلام صحيح، لأن توجّهي في تدريس مادة الأدب كان دوماً عن طريق معالجة النص وتفسيره للطلاّب. لذلك كان توجّهي في الدراسات النقديّة هو التوجّه ذاته، فمعالجة النصّ هي الأساس في جميع دراساتي النقديّة .