كيف غيَّرت مجلة وجه الثقافة العربية الحديثة؟

كيف غيَّرت مجلة وجه الثقافة العربية الحديثة؟

أهم ما في مسيرة مجلة العربي طوال ستين عاماً، أنها، بالتقريب، المجلة الثقافية الأولى التي سارت على دربها عشرات من المجلات الأخرى التي يقبل عليها أفراد الأسرة الواحدة، فيجد كل منهم بين صفحاتها ما يطمح إليه، كما أنها المجلة التي قرأها الناس على مختلف ثقافاتهم في العالم العربي، وظلت على مسيرتها تتقدم مع الزمن، لكن خطها الرئيس التي تم وضعه مع العدد الأول ظل ثابتاً طوال هذه الأعوام.

 كشفت مسيرة «العربي» عن شيء بالغ الأهمية، من خلال الأساتذة الذين تولوا رئاسة تحريرها أنهم جميعاً صناع مجلات ثقافية قبل أن يكونوا من المثقفين الكبار، أو رؤساء تحرير، وهذا شيء بالغ الأهمية، فليس كل مثقف بالتالي هو صانع مجلة، وأيضا ليس كل رئيس تحرير صدر له قرار أن يتولى المسؤولية هو صانع مجلة، ومع الأسف فإن صناع المجلات الثقافية في العالم العربي قليلو العدد، وقد ظل أغلبهم يصنع المجلات، طوال فترة طويلة من حيواتهم، وتم اختيار هذه الأسماء لـ «العربي» بعناية شديدة للغاية؛ ابتداء من مؤسس المجلة الدكتور أحمد زكي، وهو عالم جليل، ومثقف موسوعي، وقارئ جيد لتاريخ الثقافة ومطبوعاتها، لذا أسس المجلة لتكون متفردة ليس لها شبيه، وقد وضع نصب عينيه أن تنافس المجلات السيارة إبان صدورها، ومنها مجلة «المختار» المعروفة باسم «رايدر داجست»، وأيضا المجلة الشهيرة «ناشيونال جيوغرافيك» الذائعة الصيت، وألا تكون صورة منسوخة من مجلة «الهلال» التي تولى رئاسة تحريرها لأكثر من عشر سنوات، قبل أن يتولى رئاسة تحرير مجلة العربي.
هناك مجموعة من المصطلحات يجب أن نفهمها جيدا بعيدا عما يدرسه الأكاديميون للطلاب، فلا أعتقد أن مصطلح «صانع مجلة» موجود في مناهج دراسة الصحافة في جامعاتنا خاصة ما يخص الصحافة الثقافية، وقد ظل د. أحمد زكي يتولى صنع «العربي» حتى وفاته، فتمت الاستعانة بالأستاذ أحمد بهاء الدين، ومن بعده بأساتذة جامعيين ومثقفين كبار من الكويت يعاونهم مثقفون عرب لهم وزنهم.
صناعة المجلة تتمثل في وضع هيكلها العام، بحيث تكون لها شخصية مميزة من ناحية القطع والتبويب، والكتَّاب الذين تتم الاستعانة بهم، والبحث عن أجيال جديدة من الكتَّاب والمثقفين بهدف تغذية المجلة بكل ما هو جديد في مختلف المعارف، وعمل توازن ملحوظ بين الأصالة والمعاصرة والرؤية المستقبلية.
 وهكذا ولدت المجلة بالمزيج الذي نعرفه، التزم به جميع من تولوا إدارة التحرير الذين جاءوا بعد الدكتور أحمد زكي، ويمكن أن نقول إنهم جميعا صاروا صناع مجلات ثقافية، ولم يخرج أي منهم عن الشخصية الرئيسة لـ «العربي» التي صدرت عام 1958، وفي هذا العام كانت الوحدة بين القطرين العربيين سورية ومصر، وانعكس ذلك على التوجه الثقافي العربي من المحيط إلى الخليج، وصار يتم النظر إلى الثقافة العربية كوحدة واحدة، ولم تكن المجلة أبداً محلية، بل هي عربية الروح والفكر، ولا أعتقد أن هناك مطبوعة عربية واحدة جاب محرروها تلك الأماكن القاصية والدانية من البيئة العربية والعالمية مثلما فعلت «العربي»، وسرعان ما وصلت المجلة إلى العربي المقيم في وطنه، أو المهاجر خارج الحدود، فصارت مجلة كل العرب أيا كانت الثقافة التي هاجروا إليها، كما صارت الواجهة لكل من يسعى للتعرف على الثقافة المعاصرة ممن يهتمون بثقافتنا القديمة والحديثة، هكذا تفوقت المجلة على قريناتها اللاتي سبقنها، أو التي استمرت في أداء رسالتها، ولعلها تميزت في المقام الأول بالتحقيقات المصورة التي جابت أنحاء العالم، ولم تكن هذه التحقيقات منقولة عن وكالات أنباء أو مطبوعات أخرى، بل إن الصورة ملتقطة بواسطة كاميرا يحملها محترف عربي، أما الكتابة نفسها فهي بأقلام المحررين الكبار الذين كانوا يتناوبون على الكتابة والسفر، وكان هناك في كل عدد أكثر من تحقيق مصور، وقد ساعد ذلك في ترسيخ صورة «العربي» لدى القارئ والباحث كما أشرنا.
كانت المسيرة ثقافية في المقام الأول، فالمجلة تعطي العلوم حقها  إلى جوار المعارف الأخرى، وأيضا الآداب الفنون، ولم تكن مجلة أدبية متخصصة، مثل كثير من المجلات التي راحت تصدر في الأوطان العربية الأخرى، ولذا فإن المجلة لم تخصص أعداداً خاصة بكامل صفحاتها كي تظل على قدرتها على التنوع، وذلك إلا قليلاً، في المناسبات الخاصة جداً، وقد ظلت المجلة على هويتها خاصة عند الأزمات، ومنها فترة غزو قوات صدام حسين الغاشمة على البلاد، حيث صدرت لبعض الوقت من القاهرة، وما لبثت أن عادت إلى قواعدها دون أن يحدث أي إحساس لدى القارئ بأن المجلة تعرضت لأكبر المحن.
 وأكاد أفخر أن علاقتي بالمجلة استمرت معها منذ 35 سنة، عاصرت فيها كافة رؤساء التحرير عدا الراحل العظيم الدكتور أحمد زكي، وقد ظللت أكتب عن أدباء العالم المعاصرين دون أن يتدخل أي رئيس تحرير فيما أكتب أو يتدخل لإضافة همزة، وذلك لقناعاتهم جميعا بمدى التعرف على الثقافة العالمية المعاصرة، مما يعكس دور المجلة وهدفها الذي كان يتحقق على أيدي المسؤولين عنها.
وهناك حكاية يجب أن يعرفها القارئ للتأكد من النهج الذي سارت عليه المجلة، ففي أحد أعداد النصف الثاني من عام 1981، كتب الأستاذ بهاء الدين مقالاً أشار فيه إلى أنهم في الأربعينيات كان هناك كتاب يتابعون الإصدارات الجدية ويكتبون عن أدباء عصرهم مثل جان بول سارتر، وألبير كامي، وأندريه جيد، وسومرست موم وهيمنجواي، وكان السؤال هو أن الجيل الحالي في تلك الآونة لا يتابع الأدباء المعاصرين، وسرعان ما كتبت إليه، وأرسلت مقالاً عن الأديب الفرنسي الشاب باتريك موديانو، الذي كان قد فاز في بلاده بجائزة جونكور، وحقق شعبية كبيرة، وهو الكاتب الذي فاز بجائزة نوبل في الأدب بعد ذلك باثنين وثلاثين عاماً، وجاءتني رسالة من المجلة أن المقال سوف ينشر في يناير 1982 مع توصية باستكمال الكتابة عن أدباء آخرين، فكتبت عن أبرز الأدباء في العالم آنذاك، ومنهم البريطاني أنتوني بيرجيس، والأمريكي الزنجي جيمس بولدوين، والألماني جونتر جراس، والكاتب الشيلي خوسيه دونوسو، وعندما ترك الأستاذ بهاء الدين المجلة ليعود إلى القاهرة استكملت الرحلة مع الدكتور محمد الرميحي، الذي تولي رئاسة التحرير لسنوات طويلة، ومازالت العلاقة مستمرة، تمثلت في قيام المجلة بنشر مقالي عن البريطاني كازو ايشيجورو في يناير الماضي.
 بالنسبة لي هناك فترة بالغة الأهمية حلت على مجلة العربي هي فترة الدكتور سليمان العسكري، فقد أحدث تطوراً على المستوى الثقافي في أنشطة المؤسسة، ليس فقط من خلال إصدار مجلات شهرية متخصصة بالغة الأهمية، ومنها التوسع في إصدار كتاب العربي الذي يعتمد على تجميع مقالات في موضوع ما، أو لكاتب له أهميته في تخصصه، وهكذا أضاف عناوين بالغة الأهمية للمكتبة الثقافية العربية، وصارت هناك إصدارات متخصصة تساير العصر، وتناسب خطة الحكومة الكويتية في التعامل مع المعرفة، بالإضافة إلى ما شهدته مجلة العربي الصغير من تطور وحضور، فإن مطبوعة جديدة ولدت لتؤكد أهمية الصحافة العلمية، وهي مجلة «العربي العلمي» التي لم تعمر طويلاً، كما أن المؤسسة الثقافية شهدت اتساعا من خلال مؤتمر ثقافي يعقد سنويا باسم ندوة العربي، كان يدعى إليه أبرز العلماء والمثقفين العرب، ومن أنحاء العالم، وما لبث أن توقف هذا النشاط الذي كان مبادرة متفردة لا مثيل لها، فتحولت المجلة من مجرد مطبوعة إلى مؤسسة ثقافية على المستويين المحلي والعربي، وقد ساعد ذلك في أن يعطي صورة صادقة أن الكويت تفتح صفحات مجلاتها لجميع الأقلام والتيارات، والطريف أن هذه التجربة توافقت مع أن الكويت هي بيت الاحتفاليات والإصدارات، فـ «العربي» تتمتع بما يسمى الثقافة الشعبية الأنيقة. «العربي»  التي ظلت بلا منافس، وذلك بالحرص على المزيد من الإصدارات الثقافية، والمهرجانات، والمعارض، لم تكن هناك منافسة بل تكامل وإضافة، فصارت المسيرة بالغة الأهمية بالنظر إلى الخليط الذي يقرأه القارئ في المجلة، فلا شك في أننا أمام زخم معرفي للتاريخ والحاضر.
  ولا شك في أن التاريخ الذي ينبض في صفحات العربي، يعطي صورة عن المستقبل إذا استمر الاستقرار في المنطقة بالوتيرة نفسها، وسوف تلعب المجلة دورها الذي يمثل أهمية  الثقافة في المجتمع العربي، في عصر التقنيات الحديثة، ففي الوقت الذي توقفت فيه المجلات العربية والعالمية المشابهة عــــدا الهلال القاهرية، فإن هذا يعني أن المجلة والمؤسسة التي تمثلها باقية لتساهم في صناعة الإنسان العصري الذي يرى أن الحل يتمثل في الثقافة المستنيرة، وسوف تكون المجلة مفخرة دائما  لأجيال من المبدعين الكتاب والقراء، لأن ستين عاما ليس أبدا بالعمر الهيِّن، وسوف يمر القرن الأول على المجلة، وهي تحقق هدفها الأسمى الذي صدرت من أجله■