عبدالعزيز حمودة - آرت بيرمان

عبدالعزيز حمودة - آرت بيرمان

صدر كتاب عبدالعزيز حمودة «المرايا المحدبة: من البنيوية إلى التفكيك» في أبريل 1998. والحق أني قرأته فور  وصوله إلي، وكعادتي في كل كتاب أهتم وأختلف مع صاحبه اختلافاً جذريًّا، كان علي أن أقرأ الكتاب قراءة فاحصة مدققة، وأراجع النص على مصادره التي تشير إليها هوامشه.
ولحسن الحظ كان جلّها في مكتبتي الخاصة، ما عدا كتاب واحد لم أره أو أعرفه في آخر فصل دراسي قمت فيه بالتدريس بجامعة هارفارد سنة 1977.

كان عنوان الكتاب لافتاً ودالاً وهو «From the New Criticism to Deconstruction» صادر عن مطبعة جامعة إلينوي. والكتاب كتبه أستاذ جامعي أمريكي هو Art Bernan، أستاذ اللغة والأدب والاتصال في معهد روشستر للتكنولوجيا. وكان الكتاب نتيجة منحة من معهد روشستر للتكنولوجيا. وما إن عاودت جامعة هارفـارد دعوتي إليها عام 2001، حتى كان الحصول على كتاب بيرمان في صدر قائمة الكتب التي أردت الحصول عليها. وبالفعل حصلتُ على الكتاب وعدت إلى مسكني متلهفاً لمعرفة ما فيه. وكانت المقدمة التي تشرح خطة الكتاب هي أول ما استوقفني، وأعادني إلى كتاب عبدالعزيز حمودة، فاكتشفت أن حمودة – رحمه الله - جعل من هذا الكتاب سنده الكلي، وعماده الأساسي في كتابه «المرايا المحدبة: من البنيوية إلى التفكيك». والصلة واضحة بين الكتابين إلى حد يكاد يفقأ العين، فكتاب بيرمان دراسة تقع في مجال نظريات الاستقبال، وهدفها الإجابة عن السؤال: كيف استقبل النقد الأدبي الأمريكي، النظريات الأوربية بما تعتمد عليه كل نظرية من أسس فلسفية؟
وكان أول ما قرأته في كتاب بيرمان هو مقدمته التي تتحدث عن الكتاب، من حيث هو دراسة تسعى إلى سبر أغوار كيفية استقبال البنيوية وما بعد البنيوية داخل النقد الأدبي الأمريكي. والاهتمام الأساسي في هذه الدراسة، هو تأكيد أنه بينما كانت هذه الحركات تسعى في البداية إلى أن تحقق - من المنظور الأمريكي - المبادئ الأساسية اللازمة لنظرية نقدية سليمة أو مقبولة، فإن الكتاب يثبت أن هذه النظرية في النهاية تقوم على أساس معرفي شامل، خصوصاً عند هؤلاء الذين يهتمون بالذات الفردية، وعلى نحو يتنافر مع مبادئ وأسس بعينها هي أن هذا المناخ للنظرية النقدية الأدبية الأمريكية الحديثة، شأنها شأن غيرها من النظريات في مجال الدراسات الأخرى 
هو - كما كان دائماً - متأثراً سلفاً بفرضيات النزعة التجريبية الفلسفية، تلك النزعة التي تحدد داخل المهاد الأنجلو أمريكي، أساس المعرفة الموضوعية، وحدود هذه المعرفة. والأجزاء الأولى من هذه الدراسة قائمة على افتراض أن تطور النقد الجديد في الولايات المتحدة، شأنه شأن الأجزاء الأخرى، تتعامل في السياق نفسه مع النقد الجديد، كما تتعامل بالطريقة نفسها مع سياق البنيوية وما بعد البنيوية. ومن ثم يعرض هذا الفصل النزعة التجريبية عند لوك وهوبز، وكلاهما أصبح ينظر إلى أفكارهما عن العقل بوصفها كينونة أو وجوداً نابعاً من الإدراك الحسي (الإحساس) والتأمل (الاستبطان). وقد أدت هذه النزعة الثنائية إلى تناقضات فلسفية، انتهت إلى نزعة الشك عند هيوم. والتيمة الأساسية هي أن ديناميكية هذه الحركة من النزعة التجريبية إلى نزعة الشك تتكرر دورياً، في تطور النظرية النقدية الأدبية الأنجلو أمريكية. إن المثال الملموس لهذه الحركة، بعد هيوم، هو استبدال رومانسية أواخر القرن الثامن عشر بالكلاسيكية الجديدة. ويتكرر النمط نفسه مرة أخرى في القرن العشرين. وتتأسس دعاوى المنهج العلمي على النزعة التجريبية، خصوصاً المعتقدات الخاصة بالذات الفردية، ففي البداية حدث تقبُّل ذلك بوصفه تحدياً، وهو الأمر الذي استمر إلى النهاية. وتكررت هذه الفاعلية الديناميكية، سواء في تطور النقد الجديد أو في التحول من البنيوية إلى ما بعد البنيوية. 
ويبدأ الفصل الثاني من الكتاب بمناقشة السُّبل التي تأسس بها النقد الجديد على أساس من نزعة تجريبية سيكولوجية في كتاب ريتشاردز «مبادئ النقد الأدبي» (1925)، مع إضافة تمييز بين الحقيقة العلمية والقول الشعري؛ حيث يزعم النقد أنه أصبح علميًّا شأنه في ذلك شأن المعرفة الخاصة بمضمونٍ، ليس هو في ذاته معرفة، وإنما هو تيمة لها عدد من التنويعات عند النقاد الجدد، مقننة في كتاب رينيه ويلك وأوستن وارين «نظرية الأدب» (1942). وابتداء من ت.إس. إليوت، مروراً بنقاد الثلاثينيات إلى الخمسينيات، فإن كلينث بروكس، وﺟون ﻛﺮو راﻧﺴـﻮم، وآلان تيت، وغيرهم من النقاد أبقوا على التمييز بين المعرفة العلمية والحقيقة الشعرية، فأصبح من المهم تأسيس الشرعية وإضفاؤها على وضع الشاعر والشعر، بطريقة لا تعتمد على المنهج التجريبي، حتى لو انتهى الأمر بهذا المنهج إلى فعل ذلك. وهو الأمر الذي لزم عنه تناقض، في هذا القرن، بين نزعة الشك التي هي تأكيد للنزعة التجريبية، تماماً كالتناقض بين مذهبَي هوبز، ولوك الذي أدى إلى نزعة الشك عند هيوم.
ويمضي الفصل في معالجة الكيفية التي تحرك بها النقد الجديد تدريجيًّا عبر سنوات، إلى إدماج الرومانسية في هذه الفرضيات النظرية، وكان ذلك يعني إدماج فكرة كولردج الذي هو - على الأقل - من وجهة النظر التي تبناها ريتشاردز في «مبادئ النقد»، وبروكس في «إناء متقن الصُّنع» (1947)، وﭽون كرو رانسوم، وآلان تيت وغيرهم من النقاد الذين حافظوا على التمييز بين المعرفة العلمية والقول الشعري، فأصبح من المهم تأسيس مبرر لوضع الشعر والشاعر بطريقة لا يشملها المنهج التجريبي، ذلك على الرغم من أن ذلك يستلزم منهجاً تجريبياً لإثباته.  
ويضيف الفصل إلى ذلك هدف إبراز كيف أن الرومانسية الجديدة كانت رد فعل على النزعة التجريبية التي بدأ بها النقد الجديد. وقد ارتبط ذلك بفهم النزعة التجريبية بوصفها إعلاء من شأن المعرفة العلمية والممارسة العلمية والتكنولوجية، من حيث تأثيرهما على السلوك الإنساني ومفهوم الذات الفردية من زاوية الحتمية السيكولوجية. ولم يكن واحد من هذين السياقين متفقاً مع التطور الإنساني لكل من الذات الفردية والإبداع المتضمن في الفكر الأنجلو أمريكي. 
أما الفصلان الثالث والرابع، فإنهما يستعرضان المبادئ الأربعة التي انبثقت في النظرية النقدية الأمريكية في ستينيات القرن العشرين، من حيث هي نموذج يحتذى. أولاً: من حيث ضرورة التحالف مع العلم التجريبي، وذلك لتبرير وجود علم اللغة بوصفه علماً. وثانياً: ضرورة السماح للنظرية النقدية بالحفاظ على الحرية الفردية والاستقلال الذاتي والنزعة الإبداعية، والنزعة الديكارتية على السواء، ومن ثم الكينونة الرومانسية للذات الفردية، وذلك على النقيض من مفهوم الذات الفردية في نزعة الحتمية العلمية. وثالثاً: أن النظرية النقدية يجب أن تضع في اعتبارها ما يجاوز اللغة الأدبية بل كل لغة. ورابعاً: ضرورة استعانة النظرية النقدية بما يدعم اليسار السياسي. ولفهم هذه التطورات أو نتيجة لها، ظهرت تنويعات من الحركات التي تخاطب الأمريكيين، وكانت الاستجابة المتعارضة لذلك، هي هيمنة العلم والتكنولوجيا وإنجازاتهما، على نحو ما تشير إليه هذه الدراسة في الفصل الرابع؛ حيث تتنوع كتابات الخمسينيات والستينيات، من خلال جـان بول سارتر الذي تم تصديره من فرنسا ليقدم اتجاهاً مضادًّا لنفس النزعة الوضعية التي تناقض النقد الجديد خلال تاريخه الخاص.
 ويناقش الفصل الثالث بوجه خاص النظرية النقدية الأدبية لتاريخ علم النفس في أمريكا، خصوصاً الصراع بين النزعة الاستبطانية والنزعة السلوكية. وأخيراً يؤرخ الفصل الرابع لنهضة دراسة علم اللغة، خاصة عند نعوم تشومسكي؛ حيث نجد نقاد الأدب الأمريكيين يسعون إلى تقوية أو دعم مفهوم الكيان الخلاق للذات داخل مناخ يسيطر عليه العلم والفلسفة، اللذان يتحديان ويقوِّضان مثل هذه المفاهيم.
 ومهما يكن من أمر، فقد ظلت النظرية النقدية في حاجة إلى إضفاء الشرعية العلمية عليها، وكان هذا هو دور كتاب توماس كون «بنية الثورات العلمية» (1962) الذي قدم نموذجاً ملائماً. ويجمع نورثروب فراي في كتابه «تشريح النقد» (1957) بين النزعة التجريبية في البحث والنظرة الإنسانية إلى الذات الفردية والحرية في آن. ومثله عالم اللغة نعوم تشومسكي الذي يقدم نسقاً علمياً في الوقت الذي يحاول فيه أن يبقِي على الذات الديكارتية التي يدافع عنها سارتر. 
أما الفصل الخامس، فإنه يركز على التحول إلى النظرية البنيوية والبُعد المعرفي الذي هو بمنزلة مهاد شامل للبنيوية وما بعدها على السواء. هذا المهاد هو الحتمية اللغوية، فاللغة لم تعد عنصراً تكوينياً سببياً لوجود الذات الفردية، وإنما تتحول إلى ظاهرة اجتماعية. ويستغل كلود ليفـي شتراوس وغيره، محاضرات فرديناند دي سوسير «محاضرات في اللغويات العامة» (1915) لخلق سيمولوجيا قائمة على النزعة التجريبية، فاللغة أصبح ينظر إليها بوصفها نسقاً متكاملاً من بنية تقوم على الاختلاف الصوتي، وليست تجمعاً لمصطلحات أو كلمات كل منها يتجاوب مع غيره في واقع موضوعي، وإنما بالأحرى تجمعاً لألفاظ (كلمات) يستجيب كل واحد منها إلى واقع موضوعي (أشياء). وذلك على نحو لا تغدو معه اللغة سوى علامات إشارية تجريبية مبنية دائماً على الاختلاف. ويعني ذلك أن الذات المُستخدَمة في اللغة هي نفسها التي تظل موجودة فيما بعد البنيوية، خصوصاً عندما تتحول إلى ذات حرة، أو ذات ديكارتية، أو وجودية، تنبع من مفهوم الذات الفردية عند كل من إدموند هوسرل ومارتن هايدجر.
ويحاول بيرمان أن يوضح – بمناقشة عمل فلاديمير بروب وكلود ليـفـي شتراوس، وجريماس، وكلود بريمون، ورولان بارت، وتزفيتان تودوروف، والشكليين الروس، ورومان ياكبسون - إظهار أن البنيوية وما بعدها عندما ظهرتا في أمريكا استُقبلا في مناخ كان النقد الأدبي فيه يبحث  عما يحفظ عليه فكرة الذات التي كان المفكرون الفرنسيون يفككونها. ورغم أن النظريات الفرنسية قد استُقبلت استقبالاً طيباً، بسبب أساسها العلمي المزعوم، وقابلية تفسير اللغة والتبرير السياسي لها، خصوصاً الارتقاء المستمر بها، بل حتى التضخيم في وصفها، فإن النظرية في أمريكا، خصوصاً من منظور الذات الفردية والنزعة التجريبية، اتجهت إلى نقيض ما قصدت إليه النظرية الأوربية. وهكذا بينما كانت تقنيات البنيوية تبدو مفيدة في البداية، فإن الفرديات المعرفية لم تكن تتناغم مع النقد الأنجلو أمريكي.
ويناقش الفصل السادس هذا الموضوع، مقدماً محاولة للإدماج بين النقائض، ويبرز الكيفية التي تم بها استقبال البنيوية الأوربية في الولايات المتحدة من خلال تَشابُهِها مع كتابات نقدية سابقة، مثل كتاب نورثروب فراي، الذي يُعدُّ سابقاً على البنيوية، والذى يُشبِّه البعض عمله فيه بعمل تشومسكي. ويَظهر الاستقبال الأمريكي للبنيوية من خلال كتابات روبرت شولز، وترنس هوكس، وفيليب بتيت. وعلى الرغم من التنافر بين هؤلاء، فإن كتاب كللر «شعرية البنيوية» (1975) هو أهم محاولة لخلق تركيب فلسفي متماسك للفكر البنيوي في النقد الأدبي. يضاف إلى ذلك أننا أشرنا إلى محاولة تيري إيجلتون لنقد البنيوية من وجهة نظر ماركسية، وهي وجهة النظر التي أكملها فريدريك جيمسون من وجهة نظر النزعة التاريخية الماركسية.

بين الدال والمدلول
أما الفصلان السابع والثامن، فكلاهما يُظهر الكيفية التي أسست عليها البنيوية من حيث التعرف على العلاقة بين الدال والمدلول في نظرية دي سوسير عن اللغة، وذلك على أساس أن هذه العلاقة هي أضعف ما في هذه النظرية، فالمدلول الذي يذكِّرنا بـ «الفكرة» عند لوك يمكن اختزاله في نظرية غير تمثيلية للغة، فلا يشير إلى شيء إلا دوال مضافة.
هذه العلاقة بين الدال والمدلول قد قطعها جـاك لاكان أو فَصلها في دراسته عن «الكتابة» (1966). هذا الانقطاع دعمه ميشيل فوكو بتحليله لانفصال اللغة عن غاياتها أو عن المحاكاة، وذلك في كتابه «نظام الأشياء» (1966) أما في عمل ديريدا خصوصاً الجراماطولوجيا (1967) وكتابه «هوامش الفلسفة» (1972) فإن المدلول يختفي تماماً.
وفيما يتعلق بـ «ما بعد البنيوية»، فإن جـاك لاكان ولوي ألتوسير يقدمان سيكولوجية اجتماعية، وهو ما يفعله فوكو في التاريخ. أما ديريدا - وهو بؤرة الفصل الثامن - فإنه يقدم نظرية معرفية كاملة، كما يقدم نظرية للتفكيك؛ حيث تتسع هوة المساحة بين الدال والمدلول، وهي الاستعارة الأساسية للناقد ما بعد البنيوي، فتتحول في النهاية إلى صدى وجودي أو أنطولوجـي، وذلك على نحو يكون معه استيفاء أي نوع من الحقيقة معدوماً تماماً، وهو الأمر الذي يقضي على أي أساس، سواء كان تجريبيًّا فلسفياً أو ميتافيزيقياً كانطياً مثالياً.
إن الذات تتأسس باللغة فيما وراء عدم لا نعرفه، ويدور النقاش المركزي عند ديريدا حول اقتناعه أن التشابه يقع ما بين الحركة من النزعة التجريبية عند لوك إلى نزعة الشك عند هيوم، والحركة ما بين النزعة التجريبية البنيوية إلى النزعة الشكية عند ديريدا فيما بعد البنيوية. ونزعة الشك هي المناخ الذي يمرح فيه النقد الأدبي الأمريكي الذي فتح الطريق إلى الفرار من النزعة التجريبية للنقد الجديد لكي يدمج النزعة الرومانسية - بالمثل - في نزعة الشك عند ديريدا، وذلك على نحو يساعد على قبول نقاد التفكيك الأمريكي بما يدعم الأفكار عن الذات والإبداع التي تتناسب مع نظريات المعرفة ما بعد البنيوية بتناقضاتها، تلك المتمثلة في عدم الانسجام الملحوظ بين المنتقدين للتفكيك الأمريكي عند كل من جوناثان كللر، وفنسنت ليتش، وفرانك لينتراخيا، وإدوارد سعيد.
ويمكن الحديث عن التفكيك في أمريكا من خلال عمل أربعة نقاد هم: ج. هيلز. ميللر، وبول دي مان، وجيفري هارتمان، وهارولد بلوم. وكل واحد من هؤلاء تناقش إنجازاته في الفصل التاسع. أما محاولة إدماج تحليل ديريدا، خصوصاً فيما يتصل بتشعباته عن الذاتية، فتحاول كتابات هؤلاء الأربعة الاعتدال فيه. والبداية هي مناقشة ميللر لشرح الرومانسية المتأخرة في «اختفاء الإله» (1963)، ثم التحول في مقالاته في السبعينيات على نحو حر خلاق نابع من إيمانٍ يرثه عن رومانسية إمرسون، وهو الأمر الذي نقوم بفحصه في الحديث عنه، خصوصاً في ضوء الفكرة المضادة لـديريدا عن «ادخار النص» التي تقدم التمثيل في اللغة، وسيكولوجية العملية الشعرية، على نحو مشابه لما عند ريتشاردز. أما نقد بلوم في كتابه «قلق التأثير» (1973)، و«خـــــارطــــة لإســـاءة الـــقـــراءة» (1975)، و«القبالة والنقد» (1975)، فكلها أعمال تثبت رفض الأساس المعرفي لما بعد البنيوية، فالذاتية مهيمنة على رفض بلوم لنظرية المعرفة عند ما بعد البنيوية؛ إذ تنبع الذاتية عند بلوم من فرويد؛ حيث يكون شعراء الرومانسية وإمرسون، أسمى من غيرهم، خصوصاً في استخدام فكرة اللاحتمية التي تشبه عنده التفكيك.
أما الفصل العاشر والأخير، فيطرح السؤال عما إذا كان التفاعل بين ما بعد البنيوية والنقد الأمريكي لم يُثِر انفصالاً بين النقد الجديد وما جاء بعده، فقد حاولتُ أن أوضِّح أن المنهجية النقدية ظلت باقية كما هي في الحقيقة، وأن قضية النزعة التجريبية وبدائلها قد تحوَّلت إلى إطار مستورد في ما بعد البنيوية على نحو ما أشرتُ، وأني أؤمن أن هناك استمرارية وليس انقطاعاً، رغم أن مفاهيم النقد الجديد عن موضوعية المعرفة والوحدة العضوية قد تهاوت، وتحتاج إلى إعادة بناء، ويمكن فهم ذلك من خلال سبر أغوار مقالات كتلك التي جمعها جوناثان آراك وروبرت كون ديفيز ورونالد شلايفر. ويتساءل الفصل العاشر أيضاً عن الكيفية التي تعدل بها ما بعد البنيوية في المهاد الذي رسمته، فانتقلت من تأثير إ. د. هيرش في نظرية الاستقبال أو في نظرية أفعال الكلام عند أوستن وسيرل، وغيرهما من المداخل النقدية الأقل أهمية.
ومن المنظور الشامل لهذا الكتاب، فإني أراه اختباراً لتَشرُّب محاولات متنوعة وتَمثلُّها وتحويلها وإدماج البنيوية وما بعدها لكي تصبح كل واحدة منها قابلة للتطبيق، بوصفها مناهج نقدية داخل المناخ النقدي الأنجلو أمريكي. وقد قصدت 
إلى ــ كما أتوقع ــ الكشف عن الكيفية التي عكستْ بها هذه المداخل، الحاجة الأساسية للمنظِّرين الأنجلو أمريكيين لتبرير النقد الأدبي بوصفه معرفة لفهم العلاقة بين اللغة الأدبية وأكثر من ذلك، استبقاء الكيان الخلاق للذات الفردية.
ما سبق هو ترجمة أولية (غير مُنقَّحة) لمقدمة كتاب آرت بيرمان، وما لفت انتباهي بعد أن فرغت من قراءته وعدتُ إلى قراءة كتاب حمودة ثانية، هو مدى الدَّين الكبير جدًّا الذي يدين به كتاب حمودة إلى كتاب بيرمان، وهو دَيْن لا يمكن أن تؤكده الاقتباسات المتناثرة على امتداد صفحات كتاب عبدالعزيز حمودة، ولا الاعتماد الكُلِّي على كتاب بيرمان في الحديث عن النظريات الفلسفية الأوربية التي تنتقل من هيوم إلى لوك إلى بيركلي إلى غيرهم من الفلاسفة. والصراع الذي دار بين الاتجاهات التجريبية المادية والاتجاهات المثالية، وهو صراع يتوقف عنده كتاب بيرمان طويلاً، كما يتوقف كذلك عند الأصول الفلسفية التي يعتمد عليها الأعلام الذين كتبوا في الدائرة التي تربط ما بين البنيوية وما بعدها، من أمثال فوكو على وجه التحديد، أو سارتر ودور وجوديته، أو تشومسكي ودور نظرياته اللغوية... إلخ.
ولولا مخافة إملال القارئ لذكرتُ له صفحات عديدة منقولة من كتاب بيرمان، خصوصاً فيما يتصل بالأساس الفلسفي الذي تعتمد عليه نظريات فوكو عن القوة والسلطة أو الأساس الفلسفي عند فلاسفة الظواهر الذي اعتمد عليه نقاد «ييل» الأربعة، لكني أشرتُ إلى ذلك إشارات في عدد من مقالات مجلة العربي التي كتبتُها بعد اكتشافي كتاب آرت بيرمان، ولا يزال رأيي أننا في حاجة كاملة إلى ترجمة هذا الكتاب ترجمة كاملة. أرجو أن يقوم بها أحد المهتمين بنظريات الاستقبال في المجال النقدي، فكتاب بيرمان نموذج متميز من النماذج القيِّمة في مجاله النوعي، إذ يتناول نظرية الاستقبال التي تكشف لنا عن الكيفية التي تتقبل بها ثقافة ما أفكار ثقافة مغايرة نوعاً ما، لكنها تشترك معها في الانتماء إلى الأصول الفلسفية نفسها، وذلك منذ بدايات النقد الجديد في الولايات المتحدة وإفادته مما سبق إليه نقاد القارة الأوربية في المجال نفسه، ولذلك يبدأ كتاب بيرمان من النقد الجديد باعتباره المرحلة الأولى لاستقبال النقد الأوربي بكل أسسه الفلسفية. ويمضي بنا في رحلة طويلة مُسهبة إلى أن يجاوز ما بعد التفكيك؛ حيث انداح التفكيك في سياقات النقد الأمريكي، خصوصاً بعد أن تولى النقاد الماركسيون من أمثال فريدريك جيمسون وغيره من نقاد اليسار الأمريكي الذي ينتسب إليه إدوارد سعيد بنقد تيارات ما بعد الحداثة واعتبارها المجلى الأخير لأعلى درجات الرأسمالية التي بدأت بسجن اللغة، وانتهت بتحول النقد إلى حكاية بلا بداية أو نهاية.
وما أكثر ما سألتُ نفسي سؤالاً مؤرِّقا عبر السنوات الماضية، ألم يكن من الأجدر لعبدالعزيز حمودة، وأكرم له بوصفه أستاذاً، أن يقدِّم دراسة لكيفية استقبال النقد الجديد ثم البنيوية ثم التفكيكية في العالم العربي، ويتأمل في حياد، يشبه حياد آرت بيرمان، التحولات أو حتى التشوهات التي مرت بها عملية الاستقبال على امتداد أُفق العالم العربي، من مشرقه إلى مغربه، وباختلاف نقاده الذين يَجمعون أحياناً بين الجد والهزل، أو بين الادعاء والأصالة؟ وظنِّي أن حمودة لم يفعل ذلك عمداً، فقد كتب كتابه من منظور أقرب إلى الذاتية، هو منظور تحقير «نادي نخبة النخبة» من الحداثيين العرب الذين لم يكن يعرف كتاباتهم معرفة دقيقة متقصية أو شاملة، سواء على مستوى التعاقب الديكاروني Diacronic أو المستوى الآني Syncronic، ولذلك لم يكن عنده سوى التهكم والسخرية من جهود باحثين أرَّقوا أنفسهم وأضنوا تفكيرهم لتقديم شيء جديد وأصيل لنقدهم العربي، وهو العمل الذي يستحقون عليه الشكر وليس السخرية أو التهكم. 
ومع الأسف، فإن هذا التهكم اقترن بتوسع بالغ الإسراف في النقل عن آرت بيرمان الذي هو بمنزلة الأصل في كتاب عبدالعزيز حمودة وغيره فروع، وأذكر أنني بعد أن طالعت كتاب بيرمان وضعتُ إلى جانبه كتاب حمودة، وقمتُ بمراجعة بين الاثنين لأكتشف مدى الدَّين البالغ الذي يدين به كتاب حمودة لكتاب بيرمان في عدد من الصفحات سرعان ما توقفت عن حصرها.
وأرجو أن يدفع كلامي أحد الباحثين الشباب لترجمته، أو - على الأقل - يصوغ على مثاله دراسة استقبالية جديدة للكيفيات التي استقبل بها العرب المحدثون الاتجاهات النقدية الغربية، حديثة أو معاصرة، سواء أكانت في أوربا أو الولايات المتحدة، واحدة واحدة، لنعرف مدى تأثير كل هذه الاتجاهات في ثقافتنا العربية، خصوصاً في المجالات النظرية والتطبيقية للنقد الأدبي الحديث والمعاصر. وذلك لكي نعرف الكيفيات التي تقبَّلت بها هذه الثقافة كل مذهب على حدة، والعمليات التأويلية التي تم بها تَمثُّل هذا المذهب أو ذاك، فضلاً عن العمليات الثقافية التي دفعت هذا المذهب إلى التأثير في الواقع النقدي العربي أكثر من غيره أو أقل، وهو أمر له دلالته على الأقل من منظور النقد الثقافي الذي يبحث عن أشكال العلاقة المتحولة بين الأنا والآخر■