مدخل إلى فلسفة الحرب عند شعراء الجاهلية

مدخل إلى فلسفة الحرب  عند شعراء الجاهلية

من المعلوم أن الشعر ديوان العرب، أَوْدَعَ فيه الشعراءُ آمالهم وآلامهم، وسجَّلوا من خلاله أفراحَهم وأتراحَهم، فكان وثيقةً عتيقةً، عصيَّةً على النسيان أو الفناء أو الانقراض.

من القضايا التي حَفَلَ بها الشعر العربي: ما يتعلق بشؤون «الحرب»، وما يَسبقها من أسبابٍ ومقدماتٍ، وما تنتهي إليه من مصائرَ ونهايات؛ فحياة الإنسان في كل عصوره وأطواره المختلفة تتخللها - لا ريب - أحقادٌ وعداواتٌ، وإِحَنٌ وخلافات، يكون السبيل إليها بالصلح تارة،  وبالحرب والسلاح تارات وتارات، وهي ظاهرة إنسانية قديمة يَرقَى تاريخها إلى بداية تاريخ الوجود الإنساني نفسه. 
وقد كان في خِضَم هذه المعارك للشعراء وأرباب البيان موقفٌ وكلمة، فمنهم من يَدفع بقومه إلى ساحات الوغَى والنِّزال؛ حِميةً لقومهم ودفاعًا عن أعراضهم وذِمارهم، أو اعتداءً وغصْباً؛ احتكاماً للقوة - والقوة وحدها - حسب الدوافع والدواعي، من دون التفكر في مآلات ما يفعلون، وما إليه يَرنون ويَصبون.
ومنهم من يَنأى بقومه عن ويْلات الحروب، وأضرار الهَرْج (شيوع القتل) وأنهار الدماء التي تسيل بالأباطح؛ رغبةً في تحقيق السَّلام للقبيلة، والحفاظ على رجالها مِنْ أنْ تستهلكهم الحروبُ التي قد تطُول وتطول، من دون بوادر 
لإنهائها - فرماح الحرب تخطئ أو تصيب-  وبخاصةٍ لو كانت بين فروع قبيلةٍ واحدة، أو أشقاءٍ، أو أبناء عمومة، أو غيرها من أنواع الرَّحِم والقرابة، فيؤثرون - في بعض الأحيان - الصفحَ والعفوَ، ويجْنحون إلى السماحة والغفران.
ويضرب لنا الفِندُ الزِّمَّاني (ت 92 ق.هـ) - وهو فارس «ربيعةَ» وسيدها - فاختار عدم الخوض في غمار حرب «البسوس»؛ كي لا يُقاتِل قوماً كانت بينه وبينهم قرابة، مؤثراً العفوَ والصَّفح على الطّعان والنّزال، فقال: 
صفحنا عن بني ذُهلٍ
وقلنـا القـومُ إخـوانُ
عسى الأيامُ أن يرجِعْـ
نَ قـوماً كالذي كانـوا
 غير أنه - لظروفٍ اقتضتها طبيعة المعارك وتقلباتها –  قد تبدَّلت الحال وتغيَّر الموقف، وأشْهرَ سيفَه، وخاض الحرب مع قومه، كالليث الغضبان، فالشرُّ - حسب رأيه - فيه نجاةٌ حين لا يجدي غيره، يقول:
فلَمَّـــــا صَـــرَّحَ الشَّــــــــر        
 فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيــــــانُ 
ولَـــــمْ يَبــــــَقَ سِوَى العُـــــدْ
وَانِ دِنَّـــــاهُمْ كَمَا دَانُوا 
مَشَيْنا مِشْيَــــــةَ اللَّــــيْـــــــثِ
غَـــــدَا واللَّيْثُ غَضْبَان
ثم يُفسر ذلك السعي وراء الثأر والتشفِّي: بأن الشرَّ لا بُدَّ منه إذا لم يُجْدِ الخير والإحسان، وهو بذلك – رغم حِلمه وكياسته – لم يستطع الانعتاق من أسْر الموروث القِبلي، وتقاليد الحياة السائدة في عصره، فيقول معللاً نزوله ميدان الوغى وساحة القتال:
وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْـــ
لِ لِلـــذِّلَّــــةِ إذْعَــانُ 
وَفِـي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِيــــنَ
لاَ يُنْــــــــجِيــكَ إِحْسَـــانُ
ويسير على الدرب ذاتِه الحارثُ بن عُبَاد اليَشْكُرِي (ت 50 ق. هـ تقريبًا) ، فقد كان يَكره الحرب وما يتصل بها، فاعتزل - في أول أَمْره - نيران الحرب المشتعلة بين «بكر وتغلب»  - التي طال أَمَدُها - فما إنْ بَلَغه قتْل «المهلهلُ» وبنو تغلب ولدَه «بُجيراً»، حتى قال: «إن ابني لأعظم قتيلٍ بركةً؛ إذ أصلح الله به بين ابنيْ وائلٍ»، أو قال: «نِعم القتيل قتيل أصلحَ بين ابنيْ وائل، وهدأتْ الحرب بينهم فيه، هو فداؤُهم».
 أراد الحارث  - وهو حَكِيم بَكْرٍ وسيدها– أن يضع حَداً لهذا الصراع القائم بين ابْنيْ وائل 
(بكر وتغلب)، حتى وإن كان الثمن فلْذة كبده وولده الحبيب، وما إن أُخبر بما قالَه «المهلهلُ» حين قَتَلَ «بجيراً»، في إذلال بُجيرٍ واحتقاره؛ فامتشق السيف واستلَّه من غِمْده، وأُجبر على خوض المعركة، وأَشعلَ وقودَ الحرب وأضرمَ نيرانها في غير تؤدةٍ أو هوادة، قائلًا: 
قَرِّبَا مَرْبطَ النَّعَامَةِ مِنَّي
لقحتْ حَرْبُ وَائِلٍ عن حِيــــــالِ
قَرِّبَا مَرْبطَ النَّعَامَةِ مِنَّي
إن قتل الكريم بالشِّسع غالي
قـــــرباها فإن كفى رهن
أن تــــــزول الجبال قبل الرجال
غير أنه احترس من أن يتحمل تَبِعات هذا النِّزال وتلك الموقعة، حتى قال تذكيراً واحتراساً: 
لمْ أَكُنْ من جُنَاتِها عَلِمَ اللهُ
وَإِني بِحَرِّهَا اليَوْمَ صَالِ
تجنَّب «الحارثُ» / فارسُ «النَّعامة» الحربَ أوّل أمرةٍ، ودعا إلى الصُّلح والسّلام، غير أنه لم يستطع غفران الإساءة المُرَّة التي كساه بها زعيمُ «تغلب» وقاتل ابنه؛ فأعمل السيف والقتل فيهم - حِميةً وثأراً لعِرضه وشرَفَه كعادة العرب - حتى نُصرتْ به بكرُ على تغلب، وأقسم ألا يكُفّ عن تغلب حتّى تُكلمه الأرضُ فيهم، فأدخلوا رجلًا في سردابٍ تحت الأرض، ومرَّ به الحارثُ، فأنشد الرجلُ:
أبا مُنذرٍ أفنيت فاستبقِ بعضَنا 
حَنَانيك بعضُ الشرِّ أهونُ مِن بعض
 فأَمسك عنهم وهدأتْ الحرب، وتمّ الصُّلح بين القبيلتين بعد أن ظلّتْ أعواماً ودهوراً تحصد الأرواح وتزهق الأنفُس، منٍ دون منافع أو فائدة لكِلاَ الحيَّيْن!
يتّضح من خلال النماذج التي عرضنا إليها: الإخلاص الشديد للقبيلة والخوف عليها، والاعتناء بها، وربط المصير بالمصير، وأبرز ما يمثل ذلك – أيضاً- دريد بن الصِّمة (ت 8 هـ) سيِّد بني جثم وفارسهم وقائدهم، وقد ناشد قومه الله والرحم أن يكفُّوا عن القتال -  وعلى رأسهم أخوه عبدالله الذي قُتل في هذه المعركة - وقدم لهم خلاصة تجاربه وحكمته أوّل أَمرِه، ثم ما لبث أن سار مع قومه في حِلّهم وتَرحالهم؛ ارتباطاً بالقبيلة، وتأكيداً على معاني الولاء والانتماء، وتأسيساً للنزعة القومية، والتعصب المُفضي – غالباً - إلى المَوَات والهلاك والردَّى، يقول:  
أَمَرْتُهُـمْ أمْرِي بمُنْعَرَج اللَــوى
فلم يستبينــوا الرُشْدَ إلاَ ضُحَا الغَــدِ
فقلــت لهم ظُنوا بألفَيْ مُدَجــجٍ
سَـــرَاتُهُـــمُ في الفارسي المسرَّدِ
فلــــــما عصوني كنـتُ منهم وقد أرى
غوايتهـم وأنني غَـــيــــْرُ مُهْتَدي
ومــا أنــا إلاّ من غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ
غَــــوَيْتُ وإن تَرْشُــــــدْ غَزِيــةُ أرْشُــدِ
وهو نموذج ضاربٌ بسهمٍ وافرٍ في التزام خطِّ سَيْر القبيلة، والشّفقة عليها، والسّير في رِكابها، حتى ولو كان ذلك الدّرب شاقاً وخطراً، وهذا أمرٌ لا يوافقه المنطق في كثير من جوانبه، وليس إيجابيًا بالكلية، لكنه يؤكد الإخلاص والتفاني، ويُرسخ «لفلسفة الشعراء المتمثلة في إخلاصهم الشديد للعشيرة، مهما كلّف الواحد منهم، ولو أودى ذلك بحياته»!

تحمل الديَّات من أجل الصلح
يَمدحُ زهيرٌ بن أبي سُلمى المُزني (ت 13 ق.هـ) -حَكيمُ الشعراء ورافعُ رايات العقل والرويّة في الشعر الجاهلي - هَرِمَ بن سِنان، والحارثَ بن عوف بن أبي حارثة، وهما من زعماء الإصلاح والدّاعين لحَقْن الدماء، وتحمّلا في ذلك ديَّات القتلى؛ تجنباً لاستمرار الحروب والتّطاحن بين «عبس وذبيان»، في حرب  «داحس والغبراء»، مما حَدَا بزهيرٍ أن يُخلّد ذِكْر السيدان - إعجاباً ومدحاً - في معلقته الشهيرة، والتي منها:
يَمِينًـا لَنِعْمَ السَّـيِّـــــدَانِ وُجِدْتُمَـــــــا
عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ سَحِيْلٍ وَمُبْـرَمِ
تَدَارَكْتُـمَا عَبْسًا وَذُبْيَانَ بَعْدَمَــــــا
تَفَـانَوْا وَدَقُّوا بَيْنَهُمْ عِطْرَ مَنْشَـمِ
وَقَدْ قُلْتُمَا إِنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ وَاسِعـا
بمَالٍ وَمَعْرُوفٍ مِنَ القَوْلِ نَسْلَـمِ
فَأَصْبَحْتُمَا مِنْهَا عَلَى خَيْرِ مَوْطِـنٍ
بَعِيـدَيْنِ فِيْهَا مِنْ عُقُوقٍ وَمَأْثَـمِ
عَظِيمَيْـنِ فِي عُلْيَا مَعَدٍّ هُدِيْتُمَـــــــا
وَمَنْ يَسْتَبِحْ كَنْزاً مِنَ المَجْدِ يَعْظُـمِ
ويُمْعن الشاعر الحكيم في رسم ملامح الحرب ونتائجها، مؤكداً أن أثرها واضحٌ لكل ذي عينين، وما هو بالحديث المظنون الذي يُشكّ في خبره؛ فأُوارُها لا يَهدأ، ورَحاها لا تتوقَّف، ونِتَاجُها شؤمٌ لا خير فيه، كأحمرِ «عادٍ» الذي جرَّ الهلاكَ على «ثمود»؛ بقتله ناقة نبي الله صالح -عليه السلام- يقول الشاعر: 
وَمَا الحَـرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُـمُ
وَمَا هُـوَ عَنْهَا بِالحَـدِيثِ المُرَجَّـم
مَــتَـى تَبْعَـثُوهَا تَبْعَـثُوهَا ذَمِيْمَـــــــةً
وَتَضْـــــرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُـوهَا فَتَضْـرَم
فَـــتَعْـرُكُـــكُمْ عَـــــــــرْكَ الرَّحَى بِثِفَالِهَا
وَتَــــــلْقَـحْ كِشَـافًا ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِـمِ
فتُنْتِـجْ لَكُــــــمْ غِلْمَان أَشْأَمَ كُلُّهُـــــــــــم
كَــــأَحْمَـرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِـعْ فَتَفْطِـمِ 
عَمَد الشاعر إلى المبالغة في تصوير آلة الحرب التي تأتي على أخضر القوم ويابِسهم؛ لعلَّهم يرجعون، وإلى أحلامِهم يحْتكمون، ويُدركون مآلهم والمستقبل الذي يرسمونه لذريتهم ونسْلهم؛ فيجْنحوا إلى الصلح والسلام - بعد حربٍ دامت أربعة عقود- فَيْسلموا بالسلام ويغنموا.

مَرْثَد الخير يدعو للسلام 
نجد مَرْثَد الخير بن يَنْكَف زعيم قومه يُهدي نصائحه وتجاربه في الحياة، ويعمل على وَأْد الإِحَن والضغائن التي تُسلم للقتال واستئصال الشّأفة، فضلا عن توريث كل ذلك للأجيال المتعاقبة، فيتصدّر الصلحَ بين سُبَيع بن الحارث ومِيثَم بن مُثوِّب، اللذين تنازعا الزعامة والشَّرف، فخشي مرثدُ أن يقعا في أُتون حربٍ طاحنة، فبعث إليهما؛ كي يُصلح بينهما، وقد أفاد من طاقات المنثور والمنظوم، فيقول:
«لا تُنْشِطُوا عُقُلَ الشَّوَارِد، ولا تُلْقِحُوا العُونَ القواعد، ولا تُؤَرِّثوا نيران الأحقاد، ففيها الْمَتْلَفَةُ المستأصِلَة، والجائحةُ والأليلَةُ، وَعَفُّوا بالْحِلْمِ أَبْلَادَ الكَلْمِ، وأَنيبوا إلى السبيل الأرشد، والمنهج الأقصد؛ فإن الحرب تُقْبِل بِزِبْرِجِ الغرور، وتُدبِر بالويل والثبور»، ثم قال:
ألا هل أتى الأقوامَ بذلي نصيحةً
حبوت بها منى سُبْيعا ومِيـثَمــا
وقلتُ اعلما أنَّ التدابرَ غــــــادرت
عواقبـُــه للذلِّ والقُــــــــلِّ جُرْهُمَـــــــا
فلا تقدحا زَنْد العُقــــــوق وأبقِيـــــا
على العزة القَعْساء أن تتهدَّمــــــــــــــا
ولا تجـــــنيا حربًا تَجرُّ عليكـــــــما
عــــــــواقبها يومًا من الشرِّ أشأَمَا 
يَعرف الأدباء دورهم جيداً – وهم لسان حال أمتهم – في إنارة دروبها التي فيها تسير، وصدِّ محاولات إشعال الحروب التي لا ينتُج عنها خير ولا فضيلة، فالحرب (العدوانية) - لا  ريب - مذمومة في طبيعة البشر (الأسوياء)، فلا يُعقل أن يرغب إنسانٌ في سفك دمٍ بغير حقه، والتعرض للأشلاء والدماء والخراب والدمار التي تُخلّفها الحرب، وغالباً ما لا يُدرَك هذا الأثر إلا بعد أن تضع الحرب أوزارها؛ فيغْتمّ القوم من كِلا الطرفين المتنازعَين، ويتمنون لو استَقبلوا من أمرهم ما استَدبروا: لجنحوا لصوت العقل والحكمة وغلّبوا السلامَ والأمان على الأسنَّة والرماح، وقد اصطلوا بنارها، فالحرب، كما يقول الراعي النميري مُحذِّراً: 
الباغي الحَرْب يَسْعَى نحْوَها تَرِعا
حتى إِذا ذاقَ منها جاحمًا بَرَدا
ولم يبالغ النميري في قوله؛ فمن المعلوم أن الناشطين الراغبين في الحرب يَهرعون إليها فرحين مُسرعين، لكنهم لا يدركون نتائج اختيارهم حتى يتذوقوا لهيبَها، فيُحجمون ويتراجعون وتَسكُن حفيظتُهم بعد أنْ كانت مُلتهبة غيظاً وحنقاً ورغبةً في الانتقام المذموم.  
ونتعرَّف أكثر على ملامح هذه الصورة التي تكون عليها الحرب في إقبالها وإدبارها، ومعرفة المراحل التي تمر بها، من خلال هذا الوصف التفصيليِّ الذي نجده عند «آكل المُرَّار» امرئ القيس بن حُجْر الكِنْدِيِّ، يقول:
الحَـــــرْبُ أوّلَ مَا تَكــــــونُ فتَيَّــــةً
تَبْدُو بِزِينَتِهَـــــا لِكُــــلّ جَهُـــــــولِ
حتى إذا استعرتْ وَشبَّ ضِرَامُهـــــا
عادتْ عَجوزاً غيرَ ذاتِ خليلِ
شَمــــــطاءُ جَــــــزّتْ رَأسَها وَتَنَكّرَتْ
مَكْرُوهَـــــــةً للشَّــــــمِّ والتّقْبِيـــــلِ
تأخذ الحربُ زخرفها وتتزيَّن، وتُقبل في صورة بهيجة تهفو إليها نفوسٌ وشخوص، لكن سرعان ما تَقلب لهم ظَهر المِجَن، وتَكشِف عنها الحجاب، فتتعرّى الحقيقةُ، ويبدو الخبيءُ، ويندم من انخدعوا ببريق ثغرها، وطِيب عبقها، ولات ساعة مندم! 
يبقى الشعرُ – في أحيان كثيرة - ساهراً على حراسة القيم والمبادئ، كما هو أيضاً - رفيقهم وصاحبهم في كل مناحي حياتهم وشتَّى شؤونهم، بإيجابيها وسلبياتها - فالشعر- كما يقول د. أيمن تعيلب: «ضرورة من ضرورات الوجود، قبل أن يكون ضرورة من ضرورات الشعر والجمال».

الصَّفح عن ذوي الرَّحم والقرابة 
أكثر ما يكون إيثار الصفح والعفو والتسامح مع الخصوم، عندما يكون الطرف الآخر ذا رَحَم أو قرابة، فيُدرك وليُّ الدم أنه بأخْذ ثأره يكون قد أُصيب بخسارة مُضاعفة، وهم مُركب، مما يكتسب بهما عاراً على عارٍ، ومذمَّةً على مذمَّة؛ بيْد أن عُصبته وقبيلته تنْتقص شيئاً فشيئاً، وهو ما لا يريده العربيُّ ذو النخوة والشرف، فيترك – في بعض الأحيان – هذا الحق ويتعالى – في كبرياء - على الجراح والقُروح التي لم تندمل بَعْد.
وخير ما يُمثِّل هذا: الشاعرُ الجاهلي الْحَارِث بن وَعلة الجَرْمِي عندما حرَّضتْه أختُه أميمة على أخذ ثأر أخيه من قومه، لكنه فَطِن إلى العواقب والمآلات؛ فهو أوّل الموتورين والمفجوعين إذا انتقم من قبيلته الذين - هم في الأساس – مصدرٌ رئيسٌ لشرَفه وعِزِّه ومكانته بين القبائل، يُسجِّل ذلك في شعرٍ خالد، يَقْطر سماحةً وعفوا:
 قَوْمِي هُمُ قَتَلوا أُمَيْمَ أَخِي
فإِذا رَمَيْتُ يُصِيبُني سَهْمِي
فَلَئِنْ عَفَوْتُ لأَعْفُوَنْ جَلَلاً
ولَئِنْ سَطَوْتُ لأُوهِنَنْ عَظْمِي
يُقرُّ الشاعر – في أسى وحسرة - بأن عفوَه هذا ليس بالأمر الهيِّن، لكنه التجلُّد والتعالي، فعادة النفس تهوى الانتقام، وبخاصة إذا كانت قادرة عليه؛ إرضاءً للذّات، ودفعاً للعار والشّنار!
وقريبٌ من ذلك حديث ذلك الأعرابي (قيل إنه: الأحنف بن قيس)، الذي قَتلَ أخوه ولدَه وفلذة كبده، فمُكِّن من أخيه؛ لكنه أَلقى السيفَ من يده، مترنماً بأبيات تدلُّ على نخوةٍ وشهامةٍ عربيةٍ أصيلة، وفلسفةٍ شاعريَّةٍ تأمليَّةٍ عميقة، يقول:
أقـولُ للنفس تَــــأسـاءً وتعزيةً
إِحْـدى يديَّ أصابـتْني ولـم تُــردِ
كـلاهما خـلـَفٌ من فقْد صاحـبه
هـــــذا أخــــي حين أدعوه، وذا وَلَدِي
 هذه دعوة عملية للحفاظ على وحدة القبيلة, مع عِظَم المصاب وشدِّة وقْعه على فؤاد صاحبه, من أن تَفنيها الحروب، ويَقضي عليها التّطاحن والتّطاعن والتدابر.
تلك الدعوات وصيحات التحذير التي أطلقها شعراء الأمة وأرباب الكلمة والبيان تؤكد - بما لا يدع مجالًا للشك - طبيعة الإنسان «السّوي» عموماً في نزوعه للسلام ، وتعظيم المشترك وحلِّ الخلافات عن طريق الحوار ونزع فتيل الحروب المشتعلة، أو التحذير منها قبل وقوعها (كما فعل مَرْثدُ الخير)؛ لما لهم من اطّلاعٍ على وقائعَ سالفة، وقراءة للواقع، وتنبؤٍ بالمستقبل، فلم يستسلِموا لتلك الدعوات، بل قاوموها – قدر الاستطاعة - شفقةً على قومهم من الضياع والاندثار ومخاطر الفناء والاستئصال.
تأتي هذه المبالغات في التحذير من عواقب الانجرار وراء شهوات النفس وإعمال السيف، والاحتكام للقوة والسواعد، في سبيل معرفة الفلسفة التي ترسًّخت في أذهان كثيرٍ من شعراء العرب في كلِّ عَصْرٍ ومِصْر؛ حتى إننا لنتفق مع من قال: إن الدعوة الى السِّلم والتراجع عن لغة الصوارم كانت «ظاهرة تَقدميَّة من ظواهر مجتمعنا العربي القديم، فهي ليست مجرد خواطر إنسانيّة عابرة، بل تَسْمو إلى أن تكون مبدأً حياتيًّا»، ويُؤكد - في الوقت ذاته -  وفْرة التسرُّع والطّيش والاندفاع نحو المُنازلة والمُنافرة والمُقارعة على أقلِّ الأسباب وأهونها. 
ولذلك كان المدحُ مُناسباً لكل من يَسعَى لوأد الفتن، وإطفاء نيران الأحقاد والضغائن والحروب؛ فكان «للفضائل الخُلقية حَيِّزٌ كبيرٌ في شعر المدح، فمَدحوا عدم الاعتداء على الأقارب واللاجئين، والزُّهد في الغنائم، والسّعي في الصُّلح بين المتخاصمين، وبذل الأموال؛ رغبةً في أن يسود السلام، وإجابة المستغيث، وتأمين الخائف، والوفاء بالعهد،....»، فصدق فيهم قول أشْجع:  
مَدَحْناهُم فلمْ نُدرِك بمدحٍ
مآثرَهم ولمْ نَتْرُك مَقالا
وهو ما ينبغي أن يَهتدي بهُداه أدباء كل عصرٍ، وأن يعرفوا دورهم المنوط بهم، والأمانة التي يحملونها، والعبء التوْعوي المُلقَى على أكتافهم، الذي لا ينبغي لهم أن يُهملوه من دون كثير اهتمام واعتناء؛ وتفكيرٍ ورويَّة، ونصحٍ وإرشاد، فيوجِّهوا الشِّراع نحو الوجهة الصحيحة، ويعيدوا فلسفة الحرب إلى رَدِّ العدوان، ورَدْع الخُوَّان، لا للطمعٍ أو الجشع، ولا للاختلاس أو الاستلاب، ولا للغصْب أو الابتزاز، وليعرفوا للحُكماء قَدْرهم، وليأخذوا على يدِ الأحمق والأَرْعن؛ فيتحقق – والحالة هذه -  التوازن المجتمعي، وتنْساب جداول السِّلم والأمان بين بَنِي البشر، وتُحقن الدماء المعصومة، وتُنكَّس رايات الشِّقاق والخصومة، فضلا عن إرفاد الأدب بشعرٍ أصيلٍ يُوثق للمراحل التاريخية التي يحياها الشعراء بما لها أو عليها؛ ليرسم صورة صادقة عن المجتمع والأمة - بكل طوائفها - لا تبيْد عبر الدهور والأزمان، أو يطويها الإغفال والنسيان■