الصورة القلمية في سردها الذاتي

الصورة القلمية  في سردها الذاتي

  الصورة السردية الذاتية، التي تجنح نحو الاعتراف المكثف، تبدو وافية ومتوافرة، إلى حد بعيد، تسكن في زوايا السرد الذاتي الحديث، وتتأرجح بين السطوع والخفوت، كما سكنت نظائر لها من قبل في سير القدماء، لدى أبي حيان التوحيدي (ت 414هـ)، وابن سينا (ت 428هـ)، وأبي حامد الغزالي (ت 505هـ)، وأسامة بن منقذ (ت 584هـ)، وابن حزم الأندلسي (ت 454هـ) وغيرهم.

   مهما تكن مساحة الاعتراف؛ فإن الأهمية في هذه الحالة لا ترتبط بالمساحة أو الاتساع الزمني بقدر ما ترتبط بالتأثير والضرورة، وربما كانت صورة اعترافية واحدة يقدمها الكاتب في سيرته أجدر بالعناية والدرس والتأمل من غيرها من الصور الاعتيادية والمتشابهة والمكرورة.
وليس هناك كبير اختلاف بين مفهومي الصورة الاعترافية، والصورة القلمية الذاتية من حيث البناء الفني، والاصطلاح الأخير كان متداولاً خلال القرن العشرين، والمصطلحان كلاهما ينتمي إلى كتابة الذات، ولهذا يمكن القول: إن الصورة الاعترافية كتابة ذاتية سردية، يقدم الكاتب من خلالها اعترافا يتصل بحياته الشخصية أو الفكرية أو النفسية أو العاطفية.
   وهذه الكتابة عادة ما تقتصر على جانب واحد أو جوانب قليلة من التجربة الشخصية، ولا تمثل جهدا مستمرا، له حجم السيرة الذاتية التي تهدف إلى إعادة بناء حياة إنسانية كاملة في نص واحد، وذلك وفقا لما ذهب إليه تيتز رووكي في دراسته المهمة في السيرة الذاتية العربية (في طفولتي، ص 84). وفي الصورة الاعترافية يحصل التطابق الأوتوبيوغرافي بين الكاتب والسارد والشخصية الرئيسة، بدرجة الحسم التي سعى إليها فيليب لوجون «التطابق إما أن يكون أو لا يكون»، ودرجة اعتقاده القوي بأن «مركز المجال الأوتوبيوغرافي هو الاعتراف».
   وحين تتبدى شخصية المؤلف صريحة، يبرز معها ضمير التكلم، والاسم الصريح، فلا متسع هناك للإيهام باستخدام اسم مستعار، أو «التقنع» بشخصية روائية، أو الاتكاء على ضمير الغائب، أو أن يكون السارد ساعياً نحو التماهي مع شخصية البطل بحيلة فنية، حين يشار إليه - على سبيل المثال - بكلمتي «صاحبنا» و«الصبي» كما في«الأيام» (الجزء الأول) لطه حسين، وبكلمة «صاحبنا» كما في «طفل من القرية» لسيد قطب، وقد أكّد الأخير الآصرة التي تربط كتابه بكتاب الأيام، في الإهداء الذي توجه به إلى طه حسين، فكان علامة سيرية على نوعها، يقول: «إنها يا سيدي أيام كأيامك، عاشها طفل من القرية، في بعضها من أيامك مشابه، وفي سائرها عنها اختلاف». ويبدو أن كلمة «صاحبنا» أضحت بدورها علامة سيرية أثيرة في أدب السيرة الذاتية العربية، نجدها في سيرة حديثة نسبياً، وهي «مشيناها خطى» للمؤرخ رؤوف عباس، الصادرة قبل عقد ونصف  العقد من الزمان.

البعد عن الاستطراد
تأتي الصورة الاعترافية مصحوبة بسمت خاص، من ملامحه التركيز، والتكثيف، والعناية بجانب واحد من حياة السارد، والحرص على الاقتصاد اللغوي، والبعد عن الاستطراد أو التحليل المستفيض، وهي في هذا تماثل «اللوحة السيرية الذاتية»، حين تتمايز عن السيرة الذاتية ذات البناء المتكامل، وفي هذه السبيل يقول حسام عقل: «إن محدودية المساحة في بنية اللوحات السيرية تفرض على المبدع جملة من المخططات، والاستراتيجيات الخاصة في تصور التصميم البنائي للنص من ناحية، وتفرض بالقدر ذاته حساسية جمالية خاصة في التعامل مع اللغة والتأتي لها، مفردات وتراكيب، من ناحية أخرى» (السيرة الذاتية في الأدب العربي، 106).
وفي حسباني أن تعبير «صورة اعترافية» أكثر وفاء بمقصود هذه السطور، وأقرب رحما بأدبية النص الاعترافي، وأسلوبه السردي، وبهذه الدلالة يستبعد المعنى التوثيقي الذي يستدعيه استخدام كلمات مثل «مذكرة» أو «يومية» أو «ذكرى»، ولا تبعد عن هذا الإطار كلمة «ترجمة»، خاصة حين تأتي عارية من الوصف بالذاتية، فهي تستدعي في كل الأحوال جملة من البيانات الشخصية التي يجتهد الكاتب في إيجازها.
إضافة إلى ذلك، تلتقي الصورة الاعترافية مع «البورتريه الشخصي» أو صورة الذات Self Portrait في جملة من سماته، فهو لا يتوقف عند الملامح الخارجية للشخصية، وإنما يسعى من خلاله الفنان إلى الإمساك بالملامح الداخلية أو الشعورية في لحظة ما من لحظات الشخصية المرسومة، وإن ظل «البورتريه» ألصق بفن الرسم - كما اللوحة - وقد انتقل المصطلح إلى فن التصوير منذ القرن التاسع عشر، ثم إلى الأدب، و«تتميز صورة الذات بصعوبتها، إذ ليس من السهل على الفنان، رساما كان أو مصورا أو كاتبا، أن يحصر ذاته في إطار، وأن ينظر إلى نفسه من زاوية محدودة»، كما أن صورة الذات «لا تتمّ في التدرج الزمني بل يغلب عليها التداعي والتدرج المنطقي، وأنها لا تقدم عملا منجزا بل تبقى مفتوحة للزيادة على مستوى عدد العناصر في كل نقطة. القاعدة الأساسية لتصوير الذات هي: لن أروي لكم ما فعلتُ (سيرة ذاتية) بل سأقول لكم مَن أنا (عرض للذات)، (معجم مصطلحات نقد الرواية، 118).

الحقيقة والمتخيل
   وعند التحليل الأخير، فإن الصورة الاعترافية لا تنفصل كثيرا عن السيرة الاعترافية، كلاهما خدم المسكوت عنه، والخفي من حياة الكاتب/ السارد/ الشخصية الرئيسة، وتهيمن الحقيقة على المتخيل - وإن كان فرضا نظريا- ومن هذا التمايز المضموني أو المحتوى الفكري الخاص، ينطلق الدرس النقدي، ويقارب انعكاس ذلك كله على أدبية النص.
ولا نود أن نغادر الفكرة دون تعضيد مثال، إن اللمحة الاعترافية التي يقدمها 
أبو حيان التوحيدي في الليلة الرابعة من «الإمتاع والمؤانسة» مبينة عن هوية، وهادية في هذه السبيل. 
يُسأل أبو حيان عن الوزير الصاحب 
بن عباد (ت. 385هـ) فيقول: «إني رجل مظلوم من جهته، وعاتب عليه في معاملتي، وشديد الغيظ لحرماني، وإن وصفته أربيت منتصفا، وانتصفت منه مسرفا، فلو كنت معتدل الحال بين الرضا والغضب، أو عاريا منهما جملة، كان الوصف أصدق، والصدق به أخلق؛ على أني عملت رسالة في أخلاقه وأخلاق ابن العميد أودعتها نفسي الغزير، ولفظي الطويل والقصير، وهي في المسودة، ولا جسارة لي على تحريرها، فإن جانبه مهيب، ولمكره دبيب، وقد قال الشاعر:
إلى أن يغيب المرء يرجى ويتقى
ولا يعلم الإنسان ما في المغيب
تهدينا هذه اللمحة إلى أمور:
أولها: حين ألّف أبو حيان كتابه الذي اختصّ فيه الوزيرين ابن عباد وابن العميد بالمثالب، وأسهب في لؤم أخلاقهما، وهو كتاب «أخلاق الوزيرين» تملكه الجزع والخوف، فأخفى المسوّدة زمنا، إلى أن طلب منه الوزير أبو عبدالله العارض تحرير الكتاب، مانحاً إياه «الضمان ألا يراها إنسان، ولا يدور بذكرها لسان».
ثانيها: الوجهة الفكرية لفيلسوف الأدباء لم تكن موضوعية أو منصفة في بعض كتاباته، وأن الحكم على الآخرين مرهون بالحالة النفسية «الرضا والغضب» للكاتب، وأن عملية الكتابة ذاتها تُرتهن أحيانا كثيرة ببحث «سيكولوجية الإبداع»، وهي نقطة الاعتراف المركزية، فلو كان «معتدل الحال» ملتزما بالحقيقة «كان الوصف أصدق، والصدق به أخلق».
ثالثها: تنطوي إعادة قراءة مؤلفات الكاتب في ضوء اعترافاته وسيرته الذاتية على فائدة أساسية للسيرة، يطلق عليها مصطفى سويف «مهمة الكشف عن جذور الإبداع»، وبهذه الفائدة ينضبط التلقي - إن جاز التعبير - ويمثل النص السيري في هذه الحالة إحدى مرجعيات القراءة الفاعلة.
ومن الاحتراز الواجب، الإلماح إلى أن التعريف الصادق بالنفس لا يعني الركون إلى العيوب أو الزهو بها مثلا، دون محاولة التجاوز والتخطي، ورصد سبل السيطرة عليها، أو السعي نحو الاعتدال، وهذا المنحى يراه خليفة التونسي مفيدا وضروريا لأخذ العبرة التي تبعث في الناس التفاؤل، وطلب السلامة من نقائص المعترفين، يقول: «على أن القِحَة (قلة الحياء) والاستهتار، والتمادي في التهتك والفجور أن يعرض الإنسان نقائصه وخطاياه في معرض المباهاة والفخار، أو حبا فيما يسمى الصراحة، بينما هو لا يقصد من وراء ذكرها التغلب عليها، والكشف عن عواقبها الوخيمة، وأن تكون عبرة له أو عبرة لغيره».
وتجاوز الأخطاء مطلب قيمي إنساني، لا يجور على مطالب الفن عند البارعين، فكما لا ينبغي أن يستحيل الاعتراف موعظة مباشرة وتقريرا، فليس من المرغوب أبدا أن يكون صحيفة للفضائح يتخطفها الناس، وما أحسب أن هذا المطلب القيمي تنفرد به ثقافة دون ثقافة، يقول كارليل: «الإنسان مطبوع على الخطأ، ولكن الأغبياء مطبوعون على التمسك بالخطأ»■