الروائي حسين رحيم: لا يعنيني شكل الفكرة بل قوة عمقها وأصالتها

الروائي حسين رحيم: لا يعنيني شكل الفكرة بل قوة عمقها وأصالتها

 في لحظة عابرة من الزمن خيمت أفكار خاطئة على بلادنا، ولدت شعوراً عند البعض بأن هناك غيبوبة ثقافية، بل وانتصارا لتلك الأفكار التي انعكست سلباً على مجتمعنا في هذه اللحظة الحرجة يحتاج المجتمع إلى المثقفين والكتاب ليعيدوا الناس إلى المسار الصحيح الذي ينورهم ويدافع عن قيم التنوع وقبول الآخر شريكاً في عملية التفاعل الإنساني، بعيداً عن التطرف والأفكار الهدامة، التي خلفت المآسي لبلادنا من دون التفريط بأصالتنا وحضارتنا وديننا وقيمنا الاجتماعية. كاتبنا أحد الذين دافعوا عن خيار التعايش والتنوع الثقافي، وهو ابن مدينة الموصل الجريحة التي خرجت من تجربة عاشتها على مدى ثلاث سنوات ونصف السنة ،  فكان معه هذا الحوار:  

• كلما كان الكاتب صادقاً في نقل ما حوله أو ما يتخيله يشعر القارئ بأنه انعكاس للواقع، فيقول أورهان باموق «الأدب هو موهبة أن نحكي حكايتنا الخاصة كما لو كانت تخص آخرين وأن نحكي حكايات الآخرين كما لو كانت حكايتنا».
- نعم... من هناك، من منطقة القارئ، يبدأ الإبداع حين يلبس الروائي رداء ذائقة قارئه ويتلبس قلبه، عندها يشعر القارئ بأنه المقصود بهذا الأمر... إنها الروح الإنسانية الخالصة التي يستطيع المبدع تقشيرها من القشور الاجتماعية الآنية كي تصل إلى الجميع بنفس القوة والصدق المعرفي اللذين كان يعيشهما الروائي لحظة الكتابة، وأورهان باموق حكواتي بارع وحقيقي وكان صادقاً في تقديم حكايته الخاصة بروح عالمية.
• قمت بتجربة أنواع متعددة من الكتابة الأدبية (المسرح، الشعر، القصة، الرواية) أين تجد نفسك بينها؟
- أنا رجل تجريبي، حين أكتب أجد نفسي معجوناً بالحرف الذي ألوي ذراعيه وأجعله مطواعاً لي لأصنع جماليات الَكلِم حين ينبجس من عمق الفؤاد، فالرواية عندي هم وفكرة وجرح أحياناً، هي فضائي الإنساني الكبير وملعبي الخطير أصنع فيه عوالمي الخرافية وشخصياتي المجنونة بالبحث والقلق، فأنا لست راوياً لأيّما حدث على الأرض، لأنني صانع خرافات أسير على أرض قلقة يرعبها هذا الوجود العظيم للكون، الذي يعيش الولادة والموت لحظة بلحظة، لذلك فهذا الصراع أو التنافر ما بين الزمن والخلود هو سحري الخاص الذي يحرك شخصيات رواياتي وهواجسهم، فليس هناك بداية أو نهاية لأي شيء، إنه ذلك السيّال الكبير من زمن يختلط فيه الماضي بالحاضر والمستقبل معاً، وأعتقد أن هذا الأمر ينطبق على القصة أيضاً إلى حد ما... أما المسرح فهو حرفة أتمتع بكتابتها، فمسرحياتي هي شخصيات تصرخ بصمت في محورية دوارة عن الحق والخير والعدالة والمساواة، وفي هذا الأمر لا يعنيني شكل الفكرة بل قوة عمقها وأصالتها. لكن الشعر محطة تختلف، إنها متعة الإحساس بالوجود الجمالي لكل الأشياء، هذه المحطة حين أكون عندها أتجرد من وجودي المادي وأتلبس شكلاً من أشكال الطبيعة العظيمة وأتحرك فيها بحرية الفراشات وطلاقة أريج الزهرة البرية وأترنم بموسيقى الجداول وخريرها الأبدي، فروحي هناك دائماً طلقة، نزقة، مجنونة بسمفونية الريح والعشق والنساء والأنهار والأماكن المعتمة والزهرة البرية على قمة الجبل، والطيور، تلك الكائنات التي يحبها الله.
• القصة حينما تكون في أفضل حالاتها يتجاوز تأثيرها مسألة القدرة المحضة على الإقناع، فالسرديات التي تقول لنا ما ينبغي أن نكونه هي القصص الأقوى على البقاء، فهي التي توسع من منظورنا العقلي والأخلاقي من دون أن تطالبنا بتحقيق معيار معين، فهي تقدم لنا بديلاً آسراً لطريقتنا في النظر إلى العالم.
 - نعم، هكذا الأمر أحياناً حين تكون القصة حفارة لدروب نيسمية يدخلها القارئ وحده بغية الوصول إلى مرتبة العرفان، وهي لطالما نادى بها الفلاسفة والمفكرون بأنها تضعه أمام مرآة روحه التي نسيها في غمرة انشغاله بأمور الدنيا اليومية، وهي عودة للروح لتجدّد عينيها برؤية مغايرة للعالم، فالحزن في القصة غيره في الحياة، وكذلك الفرح، لأنها تتكلم عن المسكوت عنه والممحو من مشاعرنا ورؤانا في حياتنا... حين كتبت قصة «الذي هو أنا أكثر مني» وقبلاً كانت باسم «حقيبتي الصفراء التي»، قرأها صديقي الشاعر رعد فاضل وقال لي لقد بكيت وبعد 17 عاماً قرأتها القاصّة العراقية الكبيرة بثينة الناصري وقالت لقد أبكتني قصتك، وبعدها قرأها شاب تعجبني كتاباته وقال لي لقد أبكتني أستاذ... ما معنى البكاء هنا سوى أنهم شعروا بأنهم داخل هذه القصة التي قالت ما كانوا يرغبون بقوله أو يكونونه دون أن يعرف أي منهم وقت البكاء؟ فالدموع هنا صدق مؤجل دائماً من زمن بعيد... هذا ما كنت أحاوله منذ بواكير قصصي «صبي الأحلام» وحتى «آخر ما تبقى من مواليده» أن يرى القارئ بعيني العالم أكثر جمالاً وأعمق حزناً.
• يعطي جون برين في كتابه «كتابة الرواية» كثيراً من التوجيهات للكاتب، منها تخصيص وقت محدد في كل أسبوع للكتابة، وأن يقوم الكاتب بالكتابة ثم يعود ليراجع ما كتبه بعد إتمام العمل بصورة كاملة... مع التطور التقني هل يمكن أن تصلح هذه النصائح للكاتب؟ ما رأيك بذلك وهل هناك طقوس خاصة بك للكتابة الروائية تختلف عن بقية أنواع الكتابة؟
- الرواية لا تصنعها النصائح وليس هناك من قواعد وشروط لكتابتها لسبب بسيط، أن لكل رواية قواعدها وشروطها ومناخها ومزاج كتابتها، لذلك يستطيع أي شخص أن يكتب رواية في أي وقت، وأغلب من يكتبها تراهم يتحدثون عن تجاربهم الشخصية في الكتابة، لذلك تتباين الآراء والطروحات في هذا. وأنا عادة أستيقظ فجراً وهو وقت كتابتي المفضل وأجلس وأمامي مجموعة من الأوراق وأقلام من نوعية جيدة وأسمع شيئاً ما و... أكتب. لكن هذا لا يمنع من مزاجية تحرك نواجذ حروفي وتوقفني لزمن قد يطول وقد يقصر، لأن الرواية تعيش معي خارج زمن الكتابة وهو ما يجعلني أعيد كتابة الرواية لأكثر من مرة، فأنا رجل قلق بطبعي مشبع بشك حاذق لا يرحم، يجعلني أراجع ما أكتب أكثر من مرة كتلميذ خائب، وحين أنتهي من كتابة رواية طبعاً بعد زمن ليس بالقصير («القران العاشر», بقيت عندي أكثر من 15 سنة وصدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2007... و«أبناء السيدة حياة»، أكثر من 3 سنوات وصدرت عن دار نشر ليندا عام 2009).

 • قرأت مقولة تقول إن العراق في هذه السنوات يشهد انفجاراً روائياً، وآخر يقول إن عام 2017 هو عام الرواية في العراق، ما رأيك بصحة هذا الكلام؟
- الرواية لا تزدهر إلا في مناخ ثقافي مناسب سمته الواضحة الأمن والطمأنينة ويديمها قارئ حصيف... من أين يأتي قارئ الرواية هذا في مجتمع قائم على التقلبات السياسية والحروب والجوع وذلك منذ ثمانينيات القرن الماضي؟ وكيف تنشط ثقافة القراءة ويعد الأمان ترفاً بنظر المواطن؟ كيف تصنع قارئاً والمجتمع يفتقر إلى أبسط شروط الثقافة؟ فالثقافة لا تبنيها الحروب ولا الحكومات الفاسدة. من أين يأتي الروائي وقرّاء الرواية أقل نسبة من كتابها؟ نعم الآن هناك من يكتب  الرواية لكن في ذهنه الجائزة وما تمنحه من شهرة ومال شأنه شأن لاعب الكرة أو المغني. هذه الجوائز هي التي أبعدت الرواية عن مسارها الحقيقي ولم تقدم لنا حتى الآن روائياً بمستوى عبدالرحمن منيف أو محمد خضير أو عبدالخالق الركابي، فالروايات العظيمة ظهرت في زمن كان القارئ يبحث فيه رواية تمتعه... الآن الروائي هو من يبحث عن قارئ حصيف يحترم الحرف.

• الموصل كمكان كانت حاضرة دائماً في أعمالك، هل كان هذا وفاءً لمكان النشأة أم لسبب آخر؟
- الموصل مدينة (كوزموبوليتانية)* النزعة وهي حضور معلق في ذهني لا يملك شكلاً محدداً. أحياناً أراها في البناء الجص والحجر... تلك البيوت الخاتلة في الأزقة الملتوية والتي تقع بين الخمسين والمئة متر مساحة، وتشكل متاهة أزقتها، ربما لأني قضيت معظم طفولتي فيها وكانت نسيج مخيالي الأول أزقتها الضيقة بجدرانها العالية وأبوابها المنخفضة، وتلك الروائح المميزة فيها ووجوه ساكنيها وهم يسيرون ببطء تمنح ذلك الإحساس بالأمان بأنهم مازالوا داخل بيوتهم لم يخرجوا منها بعد، وأخرى أراها في معالمها... الجسر العتيق/ أبوابها/ قلعة باشطابية. وقد تكلمت عن مكانية الموصل في أكثر من نص شعري وقصصي وروائي.

• بمن تأثرت من الكُتَّاب العرب والأجانب؟ وما النصائح التي تعطيها للكتاب الشباب؟ وما الروايات العالمية والعربية والعراقية التي تنصحهم  بقراءتها؟
 - المبدع الحقيقي لا يمكن أن يكون نسخة لآخر أو ظلاً لكاتب، وأنا طالب في الدراسة المتوسطة قرأت كل ما وقع تحت يدي من أعمال روائية عالمية، ثم انتقلت بعدها إلى الروايات العراقية والعربية، ولم يكن يخطر ببالي الكتابة، لكنني كنت أحلم بأن أكون روائياً. توقفت عند أسماء كبيرة... ديستويفسكي، كافكا، بروست، فوكنر، فرجينيا وولف وستندال، وآخرين، لكنني كنت متأثراً بالشعر أكثر... الشعر الفرنسي رامبو؟ بودلي؟ لوتريامونت؟ سان جون بيرس. كنت أقضي الساعات وأنا أقرأ وأعيش ما أقرأه كأي فتى حالم بيوتوبيا له وحده، لكن لم أتأثر بأي منهم بل تعلمت منهم رواياتهم ومن أبطالهم الممسوسين وأشعارهم، فعلى الكاتب الشاب أن يكون قارئاً جيداً وانتقائياً قبل كل شيء، وألا يحلم بالشهرة، فهي أولى درجات الفشل، وعليه أن يعرف أن المبدع في عالمنا العربي في آخر القائمة دائماً ولا شيء من وراء الكتابة سوى الاغتراب عن المجتمع والجحود، فطبقة المثقفين هي طبقة مضطهدة مهما تغيرت الحكومات، وأن هناك منافسين له كثيرين من أنصاف المبدعين، لأن النشر الآن لم يعد عائقاً أبداً كما في زمننا... إنها مسألة نقود فقط.

 • في مقالة عنك بعنوان الواقعية السحرية في لعنة الحكواتي لصباح سليم، هل أنت راضٍ عن واقع النقد وإعداد الدراسات النقدية وخصوصاً أننا نملك أقساماً تعنى بالأدب في جميع الجامعات العراقية؟ 
- صباح سليم صديق من جيلي، بيننا معرفة قديمة، ويمتلك وعياً كبيراً بالنقد والفكر، وهو ذو عقلية نقدية رصينة، لأنه ناقد مثقف وكتب عني كلاماً جميلاً. في الحقيقة الواقع النقدي عندنا غير واضح الملامح والاتجاهات، فهناك الأكاديميون ولهم منهجهم الخاص القائم على المصطلح النقدي والتقيد بما درسوه للحصول على اللقب العلمي، لذلك فمنهجية النقد عندهم محكومة سلفاً بسبب افتقارهم إلى القراءة الشخصية قبل دخولهم الدراسة الأكاديمية وهم الأغلبية مع الأسف، لكن هناك أقلية منهم جاءوا من خلال إبداعهم الشخصي، فكان اللقب العلمي تتويجاً لثقافتهم وأعرف كثيراً منهم معرفة شخصية، لذلك نجد أن أغلب رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه تتناول أسماء بسيطة ومتواضعة وتتجنب تناول أسماء تمتاز باختلافها وعمقها، لكن هناك استثناءات قليلة هنا وهناك، وهو أمر لاعلاقة له بالإبداع، بل هناك عوامل أخرى ربما■


* يطلق مصطلح «الكوزموبوليتانية» على مدن وعواصم عالمية كباريس أو نيويورك، بل وأشخاص على مر التاريخ، للتعبير عن تعدد ثقافاتهم ومدى انفتاحهم على العالم