المتحف الإثنوغرافي شواهد عصر ثري بالفلكلور والتراث الشعبي

المتحف الإثنوغرافي شواهد عصر ثري بالفلكلور والتراث الشعبي

الإثنوغرافي، تعني بالعربية دراسة جغرافية لعادات وتقاليد مجموعة بشرية، وقد أطلقت على أحد الكنوز التاريخية الممثلة في متحف الجمعية الجغرافية المصرية، وهو بانوراما من الفلكلور التراثي الشعبي والتاريخي، الذي يضم داخل قاعاته زخماً من القطع الأصلية النادرة هي كل ما بقي، بعد أن تعرّض معظمها للانقراض، وبقيت هذه القطع شاهدة على عصر من التقاليد والعادات امتد ثلاثة قرون، وهي فترة كانت ثرية بالفلكلور والتراث الشعبي، لتصبح الجمعية ومتحفها ذا الـ 140 عاماً، أول جمعية جغرافية خارج أوربا والأميركتين، والتاسعة على مستوى العالم.

القدر وحده أنقذ هذه الثروة التاريخية من الدمار، حيث يقع مبناها العجوز خلف مجلس النواب المصري، مجاوراً لمبنى المجمع العلمي، وعندما تفجّرت ثورة يناير عام 2011، هاجم لصوص التظاهرات مبنى المجمع العلمي المجاور، وسرقوا معظم محتوياته، ثم أشعلوا النيران في المبنى لإخفاء معالم السرقة، ولأن الرياح في ذلك اليوم كانت قادمة من اتجاه الغرب، فإن ألسنة اللهب لم تتجه نحو الجمعية الجغرافية المجاورة، وكان ذلك تدخّلاً مذهلاً من القدر لإنقاذ هذا الكنز التاريخي.
وتدخّل القدر مرة أخرى لإنقاذها من الإفلاس، حيث إنها تعتمد مالياً على ما يدره وقف خيري مساحته 590 فداناً، أوقفته زوجة وزير الحربية في عهد الخديوي إسماعيل عام 1875، للإنفاق على الجمعية الجغرافية، وقد تعرضت منذ سنوات قليلة لعملية نصب كبيرة، عندما ادعى أحد الأشخاص أنه ابن صاحب هذه الأرض، معتمداً في ادعائه على مستندات مزورة، واستولى على الأرض، وعلى مدى 6 سنوات من التقاضي، تم اكتشاف التزوير على أساس أن زوج صاحبة الأرض كان عقيماً ولم يترك ذرية، وعادت الأرض إلى الجمعية.

 

زخرفة براندي

الرحلة شائقة للغاية داخل مبنى ومتحف الجمعية الجغرافية التي أنشأها الخديوي إسماعيل سنة 1875م، وعيّن الرحالة المشهور جورج شفا نيفورت رئيساً لها، وقد انتقلت إلى مقرها الحالي عام 1925، وهو مبنى تاريخي يقع داخل سور يضم عدداً من الأبنية الحكومية، من بينها مقر مجلس النواب المصري، ويتكون مبناها من طابقين وعدة أجنحة، وصالات للعرض، وترتفع قاعتها الرئيسة 10 أمتار، وسقفها محمول على 12 عموداً، قام بزخرفة سقفه براندي، الذي استخدم نماذجه من الزخرفة العربية في القرن الثاني عشر، وهي تتألف من أشكال هندسية زخرفية يغلب عليها اللون الأزرق الداكن.
وتشغل الطابق الأرضي للمبنى العريق قاعات المتحف «الإثنوغرافي» والمكتبة الكارتوجرافية، (وهي كلمة تعني علم الخرائط)، وخصص الطابق الثاني لقاعة كبرى للمحاضرات والمكتبة الرئيسة للجمعية.

 

محمل الكعبة

وعندما تتجول في أروقة الجمعية ومتحفها التاريخي وداخل قاعاتها الخمس، تذهلك مقتنياتها التي تمثّل فترة تاريخية ثرية بالفلكلور والتراث الشعبي، وتقابلك داخل القاعة الأولى قطعة أصلية من «محمل الكعبة المشرفة»، وهو من أهم مقتنيات المتحف، وكانت مصر ترسله محمولاً على الإبل إلى الحجاز، حاملاً كسوة الكعبة، التي كانت تصنع في القاهرة، مشغولة بخيوط من الذهب والفضة، ومطرزة بالصرمة والحرير، وزخارفها نباتية وهندسية غاية في الروعة، وكانت مصر ترسلها في موكب مهيب يمر في شوارع العاصمة قبل رحلته إلى الأرض المقدسة.
وكان عديد من الحجيج يفضلون الرحلة الشاقة مع هذا الموكب، والتي تستغرق ثلاثة أشهر سيراً على الأقدام، وكان الموكب الطويل يضم المحمل، وتخرج خلفه الجمال المحملة بالمياه وأمتعة الحجاج، ويليه الجند الذين يحرسون الموكب حتى الحجاز، ويتبعهم رجال الطرق الصوفية الذين يقرعون الطبل ويرفعون الرايات.
وبعد انتهاء فترة الحج، يعود المحمل بالكسوة القديمة، بعد إبدال «الجديدة» بها، ولأنها ظلت خلال عام بأكمله تغطي الكعبة المشرفة، فإنها تحمل عطر النبوة وبركتها، لذلك تقطّع إلى قطع صغيرة توزع على النبلاء والأمراء من الأسرة المالكة المصرية في ذلك الزمن، وعديد منهم كان يتبرك بهذه القطع بوضعها في مقابرهم.

 

التختروان ...أو الهودج

ويضم المتحف قطعاً فنية نادرة وأصلية شاهدة على عصر يبتعد عنا يوماً بعد يوم، فقد تغيّرت أدوات الحياة التي استخدمها الناس في حياتهم اليومية في ذلك الزمن البديع مع التطور، وأخذت تندثر لتحل محلها أدوات حديثة مغايرة تماماً.
وكما يشير المتحف إلى عشق المسلمين للسيرة النبوية خلال رحلتهم مع المحمل الشريف، فإن قاعات المتحف تموج أيضاً بمحتويات تؤكد كيف كان للمرأة وللزواج والأفراح من طقوس تعكس مدى أهمية هذا الحدث - الزفاف - في حياة الأسرة، حيث تضم القاعة الأولى تحفة نادرة هي الوحيدة الباقية من الزمن الجميل، يطلقون عليها «التختروان» أو «الهودج»، وتمثّل هذه القطعة بكل زخرفتها، كيف كان زفاف العروس في ذلك الزمن حدثاً جميلاً في تاريخ الأسرة، ويحتوي هذا التختروان من فنون الزخرفة، وتداخل العناصر القيّمة، مما يجعله قطعة فنية تراثية فريدة، تمثّل أمل كل فتاة في ركوبها خلال رحلة زفافها إلى بيت الزوجية.
وهذا التختروان المصنوع من الخشب الثمين، عبارة عن مقصورة لها بابان وستة شبابيك، محمول على عريشين طويلين يستعملان لحمل المقصورة بواسطة جملين، والمقصورة مصنوعة من خشب مسمط ومعشق تعشيقات جميلة ومزخرفة بتطعيمات من العاج والصدف، والشبابيك والمشربيات من الأرابيسك، وفي كل ركن من أركانه رأس للبيرق يعلوه هلال ونجمة.
هذه التحفة المخصصة لنقل العروس في زفافها كانت مستخدمة في القرون 17، 18، 19، ثم اندثرت وحلّ محلها زفاف العروس في السيارات.

 

الصابون الأحمر

على أن طقوس الزفاف التي كانت تمثّل درجة مهمة في تقاليد الأسرة في ذلك الزمن، كانت تبدأ بحمام الحريم، ويتصدر هذه القاعة «الصابون الأحمر»، وهو نوع من الصابون مضاف إليه مواد ملتهبة، تجعل وجه العروس محمرّاً ومنتفخاً، وهو من مظاهر الجمال والأنوثة في تلك الأيام، وبجواره فترينات تضم مكاحل لتزويق عيون العروس، وبعد الحمام تخرج العروس مرتدية قبقاباً من الخشب المطعم بالصدف، ومحاطاً بقطع نحاسية وشخاليل تحدث صوتاً خلال مشي العروس، وهو أيضاً من طقوس الفرح.
ولا تخلو القاعة من أنواع التمائم، و«خمسة وخميسة»، والخرز الأزرق، وكل أشكال وبدع التمائم التي تحفظ العروس من الحسد.

 

«كوشة» العروس

مازلنا في رحلة احتفالات الزواج، لنلتقي في قاعة الزفاف بقطعة تراثية أخرى يطلقون عليها «كوشتا العروس»، التي أصبحت معروفة
بـ «الكوشة»، إحداهما مخصصة لجلوس العروسين خلال مراسم الاحتفال بالزفاف، وهي مصنوعة من خشب الخرط المطعّم بالعاج والأبنوس، وكانت أم الخديوي إسماعيل قد أهدتها للمتحف، أما الكوشة المنفردة فهي مخصصة للعروس فقط، تجلس عليها قبل الزفاف بين أترابها من النساء، مصنوعة من خشب الخرط المطعّم بالعاج، وعليه زخارف ورسوم أزهار، ويلاحظ وجود درجين يخرجان من ذراعي الكرسي، وهما مخصصان «للنقوط» من الجنيهات الذهبية التي يعطيها أهل العروسين.
وتحتوي القاعة على أنواع من الصناديق التي كانت شائعة في ذلك الزمن لحفظ الملابس، وأخرى لحفظ الحلي والنقود والتي حلّ محلها الآن الدواليب.

 

النقرزان الإسكندراني

ومن طرائف المتحف تماثيل تمثّل الزار السوداني، وعروس المولد، وعلي لوز، وهو نوع من الحلوى يصنع من السكر والمكسرات، ويتم تناولها بملعقة خاصة، ويتصدر القاعة الوشم الذي كان يحرص عديد من الرجال والنساء على طبعه على جلودهم، ويقف وسط كل هؤلاء «النقرزان الإسكندراني»، وهو لاعب مدرب على الرقص حاملاً فوق أنفه عصا طويلة تحمل في قمتها فانوساً، ويتحرك راقصاً مع الموسيقى التي تصدح حوله، في مشهد يلتف حوله المارة ينتهي بجمع قروش من المشاهدين!

 

حب العزيز

ومن طرائف المتحف أيضاً بائع «حب العزيز»، وهو نبات في شكل الحمص، ولكن يدخله طعم السكر، ثم عدد من التماثيل التي تمثّل العمد والمشايخ والسقا حامل المياه، وكان يحمل قربة من الجلد يملأها بالماء النقي ويحملها إلى البيوت التي لا تصل إليها المياه النقية، وكذلك الأدوات الموسيقية، وأخرى لأدوات نقش كحك العيد وفطائر الأقباط (فطير الملاك).

 

التصوير الحجري

وقاعة أخرى تشمل 18 وشماً بأشكال مختلفة كانت ترسم على الذراع والصدر. ومجسم لبائع العرقسوس غاية في الإتقان، ولفت رئيس المتحف إلى قطعتين فريدتين من نوعهما – حسب وصفه - وهما نيجاتيف التصوير الحجري، وهو أحد أشكال التصوير القديمة قبل ظهور الفوتوغرافيا بشكلها المعروف، ويقال إنه مرسوم عليها صورة 
للإمام عليّ ].
أما القطعة الثانية فهي مخطوط يدوي نادر باللغة الفارسية القديمة، مازال محتواه مجهولاً، ويحتاج إلى من يأتي لينفض مخاليقه ويفسره حتى يتم التعرف على محتوياته.

 

عرض الدايوراما

داخل قاعة قناة السويس يشاهد الزوار بانوراما رائعة لقناة السويس أهدتها الشركة للمتحف عام 1930، وتتضمن أيضاً وثائق وصوراً وخرائط ومجسمات للقناة منذ حفرها حتى افتتاحها عام 1869، والمجسمات عددها ستة، عبارة عن دايوراما، أهمها دايوراما تمثّل مقدمة سفينة تجتاز قناة السويس من بورسعيد إلى السويس، ويحيط بمقدمتها من الناحيتين شريطان طويلان مرسوم عليهما مناظر الشاطئين والحياة فوقهما، وهذان الشريطان يتحركان بسرعة واحدة وفي غاية البطء، بحيث يبدو للمتفرج أن السفينة تتحرك، وأنه يشاهد الشاطئين المذكورين من خلالها في رحلة تستغرق 15 دقيقة، ومجسم آخر لحفل افتتاح القناة الأسطوري بوجود الإمبراطورة أوجيني، إمبراطورة فرنسا، وموجود بهذه القاعة مجموعات من الصور النادرة الملونة التي سجلت احتفالات افتتاح قناة السويس، التي استقدمت الحكومة المصرية يومها من أجل تسجيلها المصور الفرنسي الشهير ريو، ليرسم مراحل إنشاء القناة والحفلات التي أقيمت عند افتتاحها. وهي لوحات رائعة الجمال، حيث لم يكن متاحاً التصوير الفوتوغرافي في ذلك الوقت.

 

صندوق الدنيا

مازلنا في الطابق الأول للمتحف العجوز، وخلال الرحلة داخل التاريخ يلتقي الزائرون بمحتويات عدد من القاعات تمثّل أسلوب حياة كان سائداً على مر ثلاثة قرون من الزمن، في قاعة «الحي البلدي» تشهد مكونات المقهى وأجهزة التدخين من الشيشة والجوزة والنرجيلات والماشات ومفارم التمباك، والشيك والجيك، وهي من أدوات التدخين في العصرين المملوكي والعثماني، بجانب نماذج لدكاكين وحرف قديمة مثل مكوجي الرِّجل، وآلات عزف منها الناي والرّقّ والقانون والصاجات، مروراً بمجسمات للألعاب والملاهي الشعبية، ومنها صندوق السفيرة عزيزة، أو ما كان يعرف بصندوق الدنيا، الذي كان بمنزلة سينما صغيرة تجوب الحارات لجذب الأطفال لمشاهدة صور متحركة.

 

قاعة الدروع والرماح

ثم ننتقل إلى قاعة إفريقيا التي توضح عادات وتقاليد سكان وادي النيل والسودان، وتضم مجموعات أبرزها قسم الحراب، ويشمل 250 حربة، ومنها ما هو حبشي وصومالي، ومن قبائل الزائري والبقارة، وبعضها من جنوب السودان وأواسط إفريقيا.
وتعتبر هذه القاعة من أكثر القاعات سحراً وجمالاً، حيث زيّن بابها بنابين من عاج الفيل، وفي منتصف القاعة صندوق يحتوي على تمساح محنط، وتمتلئ حوائط القاعة بالدروع والرماح من قبائل كل أنحاء إفريقيا.
وللريف قاعة خاصة تجسّد جميع مظاهر الحياة الريفية المصرية، حيث يوجد بها مجموعات من الموازين والمكاييل والغرابيل وأدوات صناعة الحوض والقمار، والأفران وأبراج الحمام وخلايا النحل البلدي والكانون (موقد طهي الطعام).

 

أول خريطة للعالم

وبالانتقال إلى الطابق الثاني من المبنى، تتغير تماماً المعروضات لتحتل الخرائط دور البطولة في العرض داخل قاعاته، حيث تنفرد هذه القاعات بثروة نفيسة من خرائط الاكتشاف الجغرافية في إفريقيا وأعالي النيل لأشهر الرحالة والمكتشفين في ذلك الزمن، ويربو عددها على 12 ألفاً و500 خريطة، تغطي جميع دول العالم، وخرائط تاريخية للعالم العربي بالذات، بجناحيه الآسيوي والإفريقي.
ومن الخرائط الحائطية المهمة التي توجد في هذا الطابق خريطة العالِم الإدريسي، على لوحة واحدة، وهو عالِم جغرافيا عربي شهير، وقد صمم خريطة العالم على الطريقة العربية في ذلك الوقت عام 1154 – 549 هـ، حيث كان الجنوب في أعلى الخريطة والشمال في أسفلها، وكان قد أعدها للملك روجر الثاني ملك صقلية، واستغرق إعدادها 15 سنة، وتم إعداد نسخة منها على قرص من الفضة، وتعد أول خريطة للعالم المعروف آنذاك.

 

صورة نادرة

وتنتشر في الطابق الثاني رفوف تحمل 30 ألف كتاب من أندر الكتب، وبجانب الكتب تضم الجمعية 450 أطلس بين أطالس وطنية وإقليمية وعالمية، وبلغات مختلفة، أهمها أطلس الحملة الفرنسية لمصر والشام، الذي يضم 47 لوحة لمصر والشام من تأليف علماء الحملة، وتمت طباعته في باريس، كما توجد مجسمات لبعض الخرائط وعدد كبير من الصور الفوتوغرافية يزيد على 4 آلاف صورة نادرة، ترجع للقرنين التاسع عشر والعشرين، أما المجلدات فإنها تحتوي صوراً ورسومات لبعض الرحالة، ومنها ما هو توثيقي كمجلد جامع السلطان حسن بواسطة الفنان Max Herz عام 1902.
ويتصدر قاعة الخرائط لوحة زرقاء اللون مستطيلة طولها حوالي متر بخط الرقعة الجميل، كتبها أمير الخطاطين المصريين، ويدعى حسني، وهو والد الفنانة الراحلة سعاد حسني، تقول كلماتها:
«روى الحسن... عن أبي الحسن... عن جد الحسن... أن أحسن الحسن... الخُلق الحسن»■