التذوق التاريخي الخاطئ لرسائل تل العمارنة

التذوق التاريخي الخاطئ  لرسائل تل العمارنة

يتبادر إلى ذهن عديد منا شيئان عن مظاهر وبقايا أي حضارة قديمة، قد يطغيان على إدراك أي إنجازات أخرى، وهما ضخامة الحجر المنحوت وسحر الذهب المكفوت. حينها تنحصر آثار الحضارات بمختلف أزمانها وأماكنها بين مبانٍ شاسعة وأعمدة وتماثيل شاهقة، أو حليّ صنعت من الذهب والمعادن النفيسة.
كما يتجاهل ثـلة من مكتشفي الآثار بعض القطع العتيقة التي قد تظهر أمامهم ظناً أنها بلا شأن يُذكر، في حين يتبين بعدها أنها قد تفوق قيمة أشهر المكتشفات وأكثرها إبهاراً. والسبب هو الإخفاق في رؤية ودراسة وتذوّق الأثر تاريخياً، وإصدار التقييم بناء على المظهر لا الجوهر.

عندما نقرأ في تاريخ الدولة الحديثة بمصر القديمة، وتحديداً الأسرة الثامنة عشرة، التي حكمت البلاد حوالي 250 عاماً، بدءاً من عام 1550 قبل الميلاد تقريباً، نجد أنفسنا متوقفين طويلاً أمام سيرة الملك أخناتون، هذا الحاكم الحالم بتغيير الثوابت في مصر القديمة، والتي كانت سائدة لآلاف السنين، حيث اتخذ هذا الرجل قرارات ثورية عدة في عهده، أهمها إلغاء المعبودات بجميع أنواعها وأشكالها في مقاطعات البلاد، وسيادة معبود واحد أعطاه اسم «آتون»، وأعلن تغيير اسمه من أمنحتب الرابع، ومعناه «المعبود آمون مستقر» إلى أخناتون، ومعناه «المعبود آتون مسرور».
كما غيّر ونقل مكان عاصمة المُلك إلى موقع بكر، وتسمت المدينة باسم «أخت آتون»، ومعناه «أفق آتون»، وبعد أن كانت أسماء المعبودات مثل «رع» و«آمون» و«تحوت» و«حورس» تهز القلوب والعروش، وتقام من أجلها أكبر المعابد وأعظم الاحتفالات، أصبحت الآتونية هي الديانة الرسمية للبلاد.
وبعد أن كانت «منف» شمالاً و«طيبة» جنوباً هما مقرا الحكم العتيدين أغلب عصور مصر القديمة، ظهرت «أخت آتون» بمصر الوسطى، ونقل إليها الملك الجريء قصر الحكم بزوجته وبناته والكتبة والموظفين بعائلاتهم وسجلاتهم والصناع وورشهم، وحتى الجبانات.

أخناتون والإمبراطورية المصرية
ومع تغيّر السياسة الخارجية للحكم التي كانت سائدة قبله حتى عهد أبيه الملك أمنحتب الثالث، والتي كانت تنتهج أحد أساليب النفوذ الاستعماري على الممالك المجاورة، وهو الحكم الإمبراطوري بصورته المتوسطة، أي أنه كان هناك ارتباط دائم بين الدولة صاحبة السيادة والقوة (مصر) وبين الأقاليم التي تتبعها بنشر سلطانها عليها دون الاحتلال الشامل، ولكن بالخوف من التسلط عليها بالغزو، وعليه يتم وضع الحاميات في المدن الكبرى وتكون تحت إشراف ممثلين مباشرين من قِبَل الملك المصري. 
وكان هذا النظام سائداً أغلب فترة الأسرة الثامنة عشرة منذ الملك تحتمس الثالث حتى أمنحتب الثالث.
وحين جاء أخناتون وانشغل بانقلاباته الدينية والاجتماعية وحروبه الداخلية ضد المنتفعين من حال البلاد القديمة، خاصة فئة الكهنة الكبار الذين فقدوا سلطانهم وقوتهم وثرواتهم بين ليلة وضحاها، أفلت من يده الاهتمام بالسياسة الخارجية، خاصة اتصاله بالممالك الخاضعة للبلاد تحت لواء الإمبراطورية المصرية.
وهنا انخفضت درجة السيادة عليها للدرجة الدنيا، وأصبح كل ما يبتغيه الملك المصري هو تحصيل الضرائب والجزيات المستحقة، والتي كانت عُرضة للانقطاع، فكانت تحصّل بالتهديد أو الحل العسكري المحدود في بعض الأحيان.
لكن مع تراجع سطوة الإمبراطورية المصرية، وصل الأمر إلى عودة استقلال بعض تلك الممالك ورفضها لأي نفوذ خارجي، خاصة مع فترات القلاقل والنزاعات وضعف البلاط الملكي. وتم تبادل مراسلات دبلوماسية عديدة بين أمراء وحكام تلك المناطق والملوك المصريين، حوَت تلك الأحداث بنوع من التفصيل.
ولم تكن بداية هذا الضعف منذ عهد أخناتون، ولكنه ظهر في عهد أبيه - أمنحتب الثالث - أيضاً، حين غرق البيت الملكي في بحبوحة الثراء الفاحش، فدبت في نفوسهم ونفوس أتباعهم الرخاوة، وانطفأت شعلة البطولات الحربية والفتوحات، التي وصلت إلى قمة تأججها أيام الملك الفاتح، تحتمس الثالث، ولا أدل على ذلك من لوحة نادرة للملك أمنحتب الثالث بالمتحف البريطاني تظهره في أواخر عهده وقد بدا بجسد مترف واهن مترهل وأعين زائغة، وتصطف أمامه مختلف أنواع الفواكه والزهور، في حين نرى رمز المعبود «آتون» في صورة قرص الشمس جاثماً فوق رأسه، رغم آمونية هذا الملك للنخاع حتى وفاته، بدليل آثاره العظيمة للمعبود آمون، خاصة في الأقصر والنوبة جنوب مصر.
      
اكتشاف رسائل «تل العمارنة»
 في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي - وتحديداً عام 1887 - وأثناء بحث إحدى الفلاحات عن السماد أو طين الفخار في خرائب مدينة «أخت آتون» (منطقة تل العمارنة حالياً في محافظة المنيا بصعيد مصر)، عثرت على حجرة تحتوي على لوحات صنعت من الطين المحروق، فنقلت غنيمتها تلك على ظهر حمارها وباعتها بثمن بخس، وبسبب مادتها الفقيرة المصنوعة منها، ونقوشها بالخط المسماري البابلي الغريب على جامعي الآثار في تلك الأنحاء، فـَقَدت هذه الألواح جزءاً كبيراً من قيمتها، حيث كان ينادى عليها في الطرقات لبيعها بأي ثمن، بل وتحطّم عديد منها أثناء النقل العشوائي.
وجاءت الطامة الكبرى عندما أُرسل بعض هذه اللوحات إلى أحد علماء الآثار في باريس لدراستها وبيان أهميتها وأثريتها، فجاءت النتيجة الصادمة بأن هذه المكتشفات الطينية من صنع يد حديثة وليست أثرية!
وعلى الفور فَـقَـد هذا الاكتشاف النذر اليسير المتبقي من قيمته، وسطعت أمام الجميع معلومة زائفة قلبت موازين الحقيقة، وهي أن رسائل تل العمارنة مزورة، في حين اكتشف بعد ذلك أنها مكاتبات أصلية وأرشيف كامل لمخاطبات الملكين أمنحتب الثالث وأخناتون مع الممالك المجاورة في فترة حرجة ونادرة ومتقلبة من التاريخ القديم، وأن ما اكتشفته الفلاحة بالمصادفة هي حجرة السجلات والرسائل التابعة للديوان الملكي في العاصمة «أخت آتون»، كما كشفت محتويات نصوصها عن حقائق جديدة في التاريخ البابلي والآشوري، بل وقدمت معلومات قيّمة وتفصيلية عن بعض صور الحياة الاجتماعية في مصر القديمة لم يسلط عليها ضوء الدراسة من قبل.
وتكالبت متاحف العالم على تملّكها واقتنائها، كما اهتم الأثريون بالتنقيب عن المزيد منها، وكان نصيب الأسد لمتحف برلين الذي استحوذ على حوالي 200 لوحة، والمتحف البريطاني حوالي 100 لوحة، ثم المتحف المصري بالقاهرة حوالي 50 لوحة، في حين يقدر عدد لوحات الرسائل المكتشفة بحوالي 380 لوحة.
وما حدث لهذا الكشف يعد قصة محزنة لكنز عظيم بددته يد الجهل، كما قال عنه عالم المصريات الشهير سليم حسن في موسوعته الشاملة «مصر القديمة».
فما هي أسباب تلك القصة المحزنة؟ وكيف تم التعامل الخاطئ مع الاكتشاف؟
تكمن الإجابة في طريقة التذوق التاريخي للمادة المكتشفة، وما يترتب عليه من إعطائها قيمتها التاريخية التي تستحقها، أو كشف عدم أثريتها واستبعادها تماماً من السجل الأثري ودولابه الثمين.  

ثالوث التذوق التاريخي 
يكمن جوهر التذوق التاريخي للأثر في تطبيق ثلاث مراحل أساسية الواحدة تلو الأخرى بنجاح؛ مرحلة الوصف، ومرحلة التحليل، ثم مرحلة التقييم، ومع إضافة التنظير (وضع النظريات) كمرحلة رابعة مكملة، يصبح التذوق التاريخي مرادفاً لعملية النقد الفني بكامل مضامينه، فالتاريخ والفن علمان متلازمان، حيث قيل قديماً إن التاريخ فن يبحث عن وقائع الزمان.
وفي حالة التذوق التاريخي لعاديّات الأمم القديمة يجب أن تكون أدواتنا وحواسنا دقيقة ومرهفة للوصول إلى الحقيقة التاريخية السليمة. 
وعند تذوقنا التاريخي لآثار الحضارة المصرية القديمة - وأي حضارة أخرى بوجه عام - تكون العوامل الرئيسة للحكم قائمة على مبررات الصنع قبل هيئة الصناعة، وعلى النظرة الكلية لا الحسية، فلو شبهنا الأثر بزهرة فلن نشعر بجمالها ولا بقيمتها الحقيقية إلا مع إلمامنا الدقيق بوضعها ومكانها ونوعها وسط حديقة النباتات بالكامل.
ومع تطبيق ما سبق نرى آثاراً حجرية تفوق في قيمتها التاريخية عن آثار أخرى صنعت من المعادن النفيسة، وقطع نادرة بسيطة من عصر ما قبل الأسرات مثلاً قد تجذب اهتمام العامة والخاصة أكثر من تماثيل بديعة من عصر لاحق غزير المكتشفات.
لذا في حالة التذوق التاريخي الصحيح نجد الحجر أغلى من الذهب، العتيق أفضل من الحديث، الساذج أجمل من المتقن، البسيط أرقى من المركّب، المهشم أقيَم من السليم، والصغير أهمّ من الكبير.  

التذوق التاريخي الخاطئ لرسائل تل العمارنة
ما حدث مع هذا الكشف الأثري المهم يعد خطأ مزدوجاً في التذوق التاريخي، وهو ما جعله كارثياً في نتائجه، فقد قام كل من المكتشِف (متمثلاً في الفلاحة التي كانت أول من كشف اللوحات، ومن بعدها تجار الآثار)، والباحث (متمثلاً في مَن بعثت إليه بعض اللوحات في باريس، وصمت مدير مصلحة الآثار وقتها عن إبداء الرأي في أثريتها) بإصدار «التقييم» الخاطئ بعد عملية «تحليل» غير دقيقة قائمة على «وصف» مشوش.
فالمكتشف - غير الدارس لعلوم الآثار في هذه الحالة - قارن بسذاجة بينها وبين المستخرج عادة من آثار ذهبية وحجرية أو خشبية، ويعرف شكل اللغة المصرية القديمة بأنواعها، حتى ولو لم يعرف محتواها ومعناها، لذا فهيئة الرسائل تلك كانت غريبة عليه.
أما الباحث فكان عليه أن يتعامل مع المكتشفات وفقاً لدراسة علمية دقيقة ومرتبة، وللوصول إلى حقيقة أنها ليست أثرية وصنعت حديثاً، فهذا يحتاج إلى دلائل وبراهين، مثل الوصول إلى حقيقة أثريتها تماماً، إذ لابد من البحث في عوامل عديدة؛ منها تحليل مادة الصنع ودراسة اللغة المنقوشة عليها، ومسح مكان الاكتشاف وتوثيقه، ومن ثم كشف العصر التقريبي لها، وذلك للوصول إلى الحقيقة التاريخية الصحيحة.
ومن المحتمل أن الطين المحروق الذي صنعت منه اللوحات قد أربك الباحثين بجانب نقشها باللغة المسمارية، فالغالب في آثار مصر القديمة أن نجد اللوحات منحوتة من الحجر بمختلف أنواعه، ومنقوشة باللغة الهيروغليفية، خاصة ما يتعلق بالمناسبات الرسمية، أما المعاملات اليومية فكانت تكتب بالمداد على شقفات الفخار وكسور الحجر أو أوراق البردي، وتكون مكتوبة عادة بالخطين الهيراطيقي أو الديموطيقي.

نقطة تشتيت
أما الخط المسماري فربما لم يكن له المبرر الكافي والمقنع أمام الباحث لوجوده في أثر مصري قديم، إضافة إلى صنع الرسائل من مادة الطين المحروق التي استخدمت غالباً لعمل أختام القدور والقبور، وليس قوالب الألواح، خاصة في تلك الفترة المزدهرة من تاريخ أرض وادي النيل، هذا فضلاً عن اكتشافها في عقر دار موقع مصري خالص وليس في مدينة حدودية أو موقع آسيوي تحت السيادة المصرية يمكن أن توجد فيه نقوش هذه اللغة بحكم التواصل مع المتحدثين بها، إضافة إلى عدم اكتشاف أي دلائل قبل هذا الحدث تؤكد موقع سجل المراسلات الملكي في «أخت آتون».
وأيضاً معضلة وجود مراسلات تحمل اسم الملك أمنحتب الثالث ضمن الكشف الكائن بالعاصمة التي أسسها ابنه، وربما كانت هذه نقطة تشتيت إضافية أمام الباحث، لكن بعض النظريات أماطت اللثام عنها وفسّرتها، ومنها ما ذكره عالم المصريات البريطاني سيريل ألدريد في كتابه القيّم «أخناتون»، حيث يرى أن وقت خطابات العمارنة بدأت منذ آخر خمس سنوات للملك أمنحتب الثالث، عندما كان ابنه أخناتون شريكاً معه في الحكم، حيث كان يتلقى المخاطبات في عاصمته الجديدة بدلاً من أبيه الذي كان يعيش سنيه الأخيرة في شيخوخة بادية، حسبما أظهرته اللوحة التي أشرنا إليها من قبل.
وقد تم الإعلان عن «أخت آتون» عاصمة رسمية لمصر في العام السادس من حكم أخناتون، وكان والده على قيد الحياة، واستمرت مراسلات العمارنة منذ ذلك الوقت وحتى أوائل حكم توت عنخ آمون، حيث حملت إحدى الرسائل اسم الملك الأخير.

أساليب بدائية
وأخيراً، فتلك الدراسة تمت منذ حوالي قرن وربع قرن من الزمان، كانت فيه الأساليب العلمية الكشفية والبحثية بدائية إلى حد كبير، ولم تكن المعدات والنظريات مثل اليوم في تقدمها وتطورها، ولكن حتماً كانت هناك شواهد وقرائن يهتدي بها علماء الآثار للوصول إلى نتائج لم يتغير بعضها بفعل توالي المستجدات وتتابع الكشوف على مر السنين، بسبب دقة التحليل والفحص العلمي الشامل.
ومن حُسن حظ علم المصريات خاصة والتاريخ الإنساني عامة، أن التقييم الصحيح لهذا الكشف قد ظهر للنور بعدها بفترة قصيرة، وتم إنقاذ ما أمكن من هذه المجموعة النفيسة قبل اندثارها واختفائها للأبد، كما ظهرت الدراسات العلمية التاريخية والجغرافية واللغوية الدقيقة لها بقدر المتبقي منها، حيث إن التلفيات والأجزاء الناقصة منها جعلت كثيراً من المعلومات بشأنها يحتوي على بعض الغموض والجدل حتى وقتنا الحاضر، خاصة فيما يتعلق بتواريخها وتسلسلها الزمني أو أسماء المرسلين والمستقبلين لها.
ولكن لو أتيح حقاً لهذه الرسائل وقت كشفها أن تقع بين أيدي علماء يحفظونها ويقدرون قيمتها، لكان لها وضع أهم مما هي عليه الآن، وربما صنفت كأحد أهم كشوف مصر القديمة حتى يومنا هذا، وأقيمها■