في ذكرى سقوط غرناطة لماذا لم ينقذ العثمانيون الأندلس؟

في ذكرى سقوط غرناطة لماذا لم ينقذ العثمانيون الأندلس؟

تَحِلُّ علينا هذا العام الذكرى الخمسمئة وستة وعشرون لسقوط غرناطة، آخر معاقل المسلمين في غرب أوربا.
ومع الذكرى تُثار الذكريات والشجون حول ظروف السقوط وأسبابه، ويحتفي المحتفون بالفردوس المفقود وحضارته التي عَلَّمت أوربا ووضعتها على خطى النهضة، لكن على جانب آخر يثار كذلك كثير من الأسئلة التي طالما حيّرت المؤرخين، مولّدة بينهم رؤىً مختلفة وأحياناً متضاربة أو متناقضة؛ فأحال البعض الأمر برمته إلى السنن الكونية التي وضعها الله سبحانه لمآلات الأمور، وأن الأمر كله منحصر في عدم الأخذ بأسباب النصرة والتمكين في الأرض، وهي بالطبع وجهة نظر وجيهة لا يمكن إغفالها. 

هناك من يذهب إلى أن ممالك العالم الوسيط كانت في طريقها إلى الزوال إن عاجلاً أو آجلاً، مع عدم قدرتها على الصمود أمام مقومات العصر الحديث، التي مهدت الطريق للدول الحديثة الصاعدة مع أفول القرن الخامس عشر ومطلع السادس عشر.
وذهب فريق آخر إلى أن هذا السقوط مردّه إلى الضعف العام الذي أصاب الممالك الإسلامية في ذلك الوقت، فلم تقو على الوقوف لمناصرة حكام الأندلس ودعمهم، فضلاً عن أن الدولة العثمانية، التي كانت تقريباً هي الوحيدة آنذاك التي لاتزال في طور الصعود من بين الدول الإسلامية، لم تحرّك ساكناً، وأنها لو كانت قد اتخذت إجراءات حاسمة في هذا الشأن كما فعل المرابطون أو الموحدون من قبل في إنقاذهم للأندلس، لما كان حدث هذا الأمر الجلل الذي ترتبت عليه أحداث جسام هددت المنطقة بأسرها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل لم يُحرك العثمانيون، بالفعل، ساكناً وهم يرون بأعينهم سقوط غرناطة؟ ولو أنهم تحركوا فعليًّا، فلماذا فشلوا في ذلك؟
وللإجابة عن هذا السؤال، لابد من طرح سؤال آخر وهو: هل كانت الظروف الدولية، فضلاً عن الظروف السياسية والاستراتيجية الخاصة بالدولة العثمانية نفسها، مهيأة لهذا الأمر؟ وعند هذه النقطة لابد لنا من إدراك السياق التاريخي المرتبط بالحدث، فضلاً عن مجمل الصراعات الدولية القائمة آنذاك، مما يقود إلى فهم أعمق للمسببات والنتائج.

التمدد الإسلامي
قبل سقوط غرناطة بنحو نصف قرن، ومع انحسار النفوذ الإسلامي في الغرب، كان التمدد الإسلامي بقيادة العثمانيين يشق طريقه بقوة في شرق أوربا، حتى إذا فُتحت القسطنطينية عام 1453م على يد محمد الفاتح (حكم 1451 - 1481م)، كان ذلك إيذاناً بإمكان تصدر هذه القوة الإسلامية الفتية الساحة أمام الزحف الصليبي المتنامي؛ إلا أن بُعْد المسافة آنذاك واشتعال الصراع في المشرق، كانا ينبئان ضمناً بأن الوقت لايزال مبكراً جدًّا للحديث عن انتقال ثقل الصراع العثماني - الصليبي إلى الغرب. 
لقد وضع الفاتح يده على مفتاح أوربا الشرقية؛ وامتلك الزمام الذي يُمَكِّنَه من بسط سيطرته على ما تبقى من أراضي الإمبراطورية الشرقية المنهارة؛ لكن ذلك كان في إطار توجهه لتكوين إمبراطورية إسلامية عالمية ترث كذلك إمبراطورية الغرب المسيحي؛ كما ذكر حاكم «جلطة» في رسالة كتبها بعد فتح القسطنطينية بنحو شهر جاء فيها: «إن السلطان محمد الفاتح يهدف إلى أن يكون سيّد العالم، وأنه قبل أن تمضي سنتان سيزحف إلى روما، فإن لم يأخذ النصارى حذرهم أو تحدث معجزات، فإن مأساة القسطنطينية ستتكرر مرة أخرى في روما». 
وفي واقع الأمر كان الغزو العثماني لإيطاليا بعد فتح القسطنطينية مباشرة أمراً مستبعداً، وذلك في ضوء الأوضاع السياسية القائمة في ذلك الوقت؛ حيث كان التفوق البحري 
لايزال قائماً للدول الأوربية في البحر المتوسط، خاصة للبندقية؛ فضلاً عن وجود بؤر استيطانية مسيحية في أماكن استراتيجية في ألبانيا والمورة؛ هذا غير الصراع القائم في بحر إيجة، والذي شكّل عقبة أمام أي تقدم عثماني، وعلى الأرض شكّل التهديد المجري للنفوذ العثماني في الصرب مصدر القلق الرئيس للسلطان.

إقصاء العقبات
هكذا عمل السلطان أولاً من منطلق وراثته للعرش البيزنطي على تركيز جهوده للقضاء التام على الأسرات الحاكمة التي تَدَّعي حق وراثة هذا العرش. ثم عمل على إقصاء العقبات المذكورة على التوالي، واستطاع بالفعل فرض نفوذه في بحر إيجة، لكن سرعان ما اصطدم هذا النفوذ بالقوة البحرية الأولى في شرق «المتوسط»، وهي جمهورية البندقية، وكان ذلك إيذاناً ببدء حرب الستة عشر عاماً 
(1463 – 1479م) بين العثمانيين والبنادقة، تلك الحرب التي دارت رحاها في أماكن متفرقة في شرق البحر المتوسط، واستطاع فيها العثمانيون تجريد البندقية من كثير من ممتلكاتها، بعد اجتياحهم ساحل دالماشيا، وإخضاع المورة وألبانيا وأجزاء كبيرة من ساحل الأدرياتك.
قبل أن تنتهي حرب الستة عشر عاماً، وتحديداً عام 1477م، أرسل أهل غرناطة لأول مرة رسالة إلى إسطنبول، طالبين تدخّل الفاتح لإنقاذهم، ورغم أن المصادر لم تخبرنا عن رد الفاتح على هذه الرسالة، فإن أفعاله منذ ذلك الحين كانت تنبئ عن تحركاته الحثيثة للوصول إلى نقاط ارتكاز تُمَكِّنه من الولوج إلى منطقة الصراع الإسلامي - الصليبي غرب «المتوسط». 
فبعد أن استطاع تحييد أكبر القوى الصليبية البحرية، بدأ بالتفكير في استئصال شأفة البابوية في روما؛ معقل المسيحية والمحرض الأول للحملات الصليبية، سواء في الشرق ضد العثمانيين أو في الغرب ضد الوجود الإسلامي بالأندلس؛ وفي الوقت نفسه مَثَّلت شبه الجزيرة الإيطالية موقعاً جيواستراتيجي حيوياً يمكن من خلاله التحكم، ثم السيطرة على حوض «المتوسط» بشقيه؛ وعليه أرسل أولى الحملات العثمانية التي استطاعت الإنزال جنوبي شبه الجزيرة الإيطالية عام 1480م، إلا أن موت السلطان عام 1481م أوقف كل هذه المخططات.

اهتمام خاص
عندما تولى السلطان بايزيد الثاني العرش (حكم من 1481 إلى 1512 م)، أعاقته بعض العقبات عن استئناف مسيرة والده، كخلافه مع أخيه جم، وصراعه مع المماليك في مصر، إلا أنه ما لبث أن بدأ يعد العدة لاستئناف الصراع مع القوى الصليبية.
وقد أدرك السلطان في هذه المرحلة أهمية القوة البحرية، فأولاها اهتماماً خاصاً، مما ينبئ عن مخططاته، فعمل على الارتقاء بالبحرية العثمانية بشكل لم يسبق له مثيل، بالاستعانة بخبرات القباطنة البحريين المتمرسين في الحروب البحرية، أو ما كان يُطلق عليهم في ذلك الوقت رياس البحر، من أجل إنشاء قوة بحرية لا تُنافَس، وكان من أشهر من تبوأوا المناصب في «البحرية العثمانية» آنذاك، كمال ريس وبراق ريس وبيري ريس.
وقد شكّل هؤلاء القادة من ذوي الخبرة والكفاءة القتالية والمعرفة البحرية نتيجة سريعة في الارتقاء بكفاءة وقوة البحرية العثمانية؛ حتى إذا حلّ عام  1499م كان الأسطول العثماني يتفوق في قوته الضاربة وتكتيكاته القتالية على أقوى الأساطيل المسيحية في حوض البحر المتوسط؛ حتى أنه ضم أكبر سفينتين حربيتين في العالم آنذاك، وللمرة الأولى استطاع هزيمة أسطول البندقية في معركة بحرية مفتوحة، وهي معركة زونكيو أو ليبانتو الأولى عام 1499م، في إطار الحرب العثمانية - البندقية بين عامي 1499 و1503م، ليس هذا فحسب، بل انتزع من البنادقية ما يسمى بعيني الجمهورية، وهما مدينتا كورون ومودون الواقعتان على السواحل الجنوبية للمورة، وهو ما مهّد للعثمانيين وراثة الدور البحري للبندقية شرقي «المتوسط» والاستيلاء على بقية ممتلكاتها في بحر إيجة.

قصيدة طويلة 
للمرة الأولى وطئت أقدام العثمانيين الحوض الغربي للبحر المتوسط، عندما أمر السلطان بايزيد قبودان البحرية القدير، كمال ريس، بمحاولة مساعدة الأندلسيين، فقصف أسطوله السواحل الإسبانية، ونَقْل أولى قوافل المهاجرين المسلمين، لكنه لم يستطع التدخل لإنقاذ غرناطة المحاصرة؛ إذ لم يكن للعثمانيين بعد قنوات اتصال بمسلمي شمال إفريقيا تُمَكِّنهم من اتخاذ نقاط ارتكاز أو انطلاق إلى السواحل الإسبانية. وبُعيد سقوط غرناطة عام 1492م، استمر في نقل الآلاف من العرب المسلمين الذين انتشروا على الساحل الأيبيري إلى سواحل المغرب حتى وفاته عام 1511م. 
ويشير المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي إلى أن العثمانيين لو كانوا قد استطاعوا دعم قوتهم البحرية ومد نفوذهم غربي المتوسط قبل ذلك بثلاثين عاماً، لكان بمقدورهم إنقاذ غرناطة، بل ووقف حركة الكشوف الإسبانية.
وخلال ذلك الوقت، وتحديداً عام 1501م، أعاد أهل غرناطة الكرّة، واستنجدوا بالسلطان بايزيد، عن طريق قصيدة طويلة تزيد على مئة بيت، تشرح بإسهاب حال المسلمين البائس بالأندلس، أوردها المقري التلمساني (ت: 1632م) في كتابه «أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض»، جاء فيها على سبيل المثال:

سلام كريـــم دائــــم متجــدد
أخص بـه مـولاي خيــر خليفــة
سلام على مولاي ذي المجد والعلا  
ومن ألبــس الكفــار ثوب المذلة
سلام عليكــم مــن عبيـــد تخلّفــــوا
بأندلس بالغرب في أرض غربـة
أحاط بهم بحر مــن الــروم زاخــر
وبحــر عميــق ذو ظــلام ولجّـة
سلام عليكــم مــن عبيــد أصابهــم
مصاب عظيم يا لها من مصيبـة   
سلام عليكم مـن شيـــوخ تمزقـــت
شيوبهم بالنَّتْف مــن بعـــد عـزّة
سلام عليكم مـــن وجــوه تكشفــت
على جملة الأعلاج من بعد سترة
ســلام عليكــم مـــن بنــات عواتــق 
يسوقهـــم اللِّبــاط قهـراً لخلــــوة
سلام عليكم من عجائــز أكرهــــت
على أكل خنزيـــر ولحــم جيفــة

جهاد منظم
هكذا بدأت الهجرات الأندلسية تتوالى منذ أوائل القرن السادس عشر نحو شمال إفريقيا، بعد الاضطهاد الذي لاقوه على يد الإسبان عقب انتهاء الحكم الإسلامي هناك، ليُكَوِّنوا في أقاليم المغرب الإسلامي مجتمعات نذرت نفسها للجهاد ضد الإسبان، وهو ما جعل إسبانيا تسعى إلى احتلال الأقاليم المغربية لتصفيتهم من ناحية، ومن ناحية أخرى لبسط سيطرتهم على المغرب الإسلامي كجزء من حركة الاسترداد التي بدأت في العصور الوسطى.
فبدأوا منذ عام 1505م احتلال الثغور المغربية، وأولها ميناء المرسى الكبير، ثم حجر باديس عام 1508م، وبعده وهران عام 1509م، ثم بجاية وشرشال وبونة وعنابة، باسطين سيطرتهم على أهم موانئ المغرب الأوسط، وأخيراً طرابلس عام 1510م. 
وهو ما سيجعل الأخوين برباروسا يبحثان عن مركز للمجاهدين في الشمال الإفريقي، ويجدانه في حلق الوادي عام 1513م، ومن هناك يبدآن حركة الجهاد المنظمة ضد الإسبان، والتي ستستمر على صفحة مياه المتوسط لعقود، بهدف طرد الإسبان من كل الأراضي الإسلامية. 
ومنذ ذلك الوقت بدأ ثقل الصراع البحري بين العثمانيين والقوى الصليبية ينتقل إلى الحوض الغربي للبحر المتوسط، فتوحدت قواهم مع القوى الجهادية الناشئة هناك للوقوف أمام الزحف الصليبي المتزايد؛ وذلك بعد تخاذل معظم بلدان العالم الإسلامي، وعلى رأسها الدولة المملوكية التي أصبحت في طور الانهيار. 
وأدى انضواء هؤلاء المجاهدين وتوحيد جهودهم مع الدولة العثمانية، إلى تكافؤ القوة العثمانية براً وبحراً، وغرباً مع قوتها في الشرق، وقد أدى هذا بدوره إلى اشتداد الصراع بين الكتلتين الأقوى حينئذ في البحر المتوسط، وهما القوة الإسلامية بقيادة العثمانيين شرقاً وجنوباً، والصليبية بقيادة إسبانيا أو «الامبراطورية الرومانية المقدسة» غرباً وشمالاً؛ ففي الوقت الذي اصطدم فيه العثمانيون مع الجناح الألماني للإمبراطورية الإسبانية في البر «في وسط أوروبا»، كان المجاهدون البحريون يخوضون كفاحاً مريراً في البحر مع الجناح الغربي للإمبراطورية؛ بعد أن دخلت الجزائر أولاً تحت السلطة العثمانية عام 1518م، ثم تلتها بعد ذلك معظم بلدان المغرب تباعاً■