صور من وفاء المحققين للشيوخ والتراث الطناحي نموذجاً

صور من وفاء المحققين للشيوخ والتراث الطناحي نموذجاً

إذا كانت مقولة: «ملأ الدنيا وشغل الناس» تطلق على المتنبي وتصدق عليه إلى حد كبير، فإن مقولة: «ملأ الدنيا وأفاد الناس» تصدق على العلامة محمود الطناحي، وتنطبق عليه؛ فلقد استبدت بي الحَيرة وأنا أمسك بقلمي لأكتب عن هذا الطود الأشم، من أين أبدأ؟! وماذا أذكر؟! وماذا أَدع؟!

لم يترك الشيخ - طيّب الله ثراه - بابًا من العلم إلا ضرب فيه بسهم، ولو أني أردت أن أعدّدَ للقارئ الكريم عناوين ما كتب من كتب ومقالات ما وسعتني تلك المقالة ولا أخوات لها؛ فقد طوّف الرجل بقارئيه في ميادين عدة؛ فجمع فيها بين التراث الذي عشقه، والحديث المعاصر الذي لم ينفك عنه؛ فهو يمزج بينهما بأسلوبه الرشيق الفذ، فيجعلك تعيش معه جوًا تراثيا والموضوع جديد معاصر، ولا يطرق معك موضوعاً معاصراً إلا وقد اصطحبك في واد من أودية التراث الذي وفى له وفاء جعله علامة عليه، وبابا به يشار إليه؛ فهو نسيج وحده في علم تحقيق التراث، يأخذ نفسه بالشِّدَّةِ في تأصيله والسعي وراء دقائقه ليستخرج درره، وينفض عنها ما قد علاها من غبار السنين وتوالي العقود والحقب، ويكفيك أن تقرأ عناوين مقالاته - فضلاً عن كتبه ومُحقَّقاته - لترى مدى ولعه بهذا التراث وعشقه له، وإنك لواجدٌ ذلك من خلال عناوين، مثل: «بنت الشاطئ وتحقيق التراث» مجلة العربي، العدد 488، و«العامة وقراءة التراث» و«محمود محمد شاكر ومنهجه في تحقيق التراث» و«الوفاء لتراثنا»... ولعلك تلاحظ من تلك العناوين ومن غيرها ربطه بين التراث والشخصية التي يتحدث عنها، وكأن جزءاً من تقديره لتلك الشخصية إنما ينبع من حبها لتراثها وتقديرها له. 

كنز من التراث واللغة والأدب
أحيل القارئ الكريم إلى مقالاته التي تربو على السبعين، وقد توزعتها مجلات: «الهلال»، و«العربي»، و«الثقافة»، و«المجلة»، وصحيفة المدينة المنورة، و«الأهرام»، و«الأخبار» المصرية، و«الوطن»، ومؤسسة الفرقان للتراث، ومجلة الجيل، ومجلة «البيان»، وقد جمعها ابنه محمد محمود الطناحي، تحت عنوان: «مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي.. صفحات في التراث والتراجم واللغة والأدب» وهي كنز من كنوز التراث واللغة والأدب، وطراز وحدها في كتابة التراجم. 
أمّا عن مظاهر وفائه لشيوخه ومعلميه أو زملائه وأصدقائه أو عموم من لهم يد في خدمة القرآن ولغته فتجدها في حديثه عنهم، وإشادته بدورهم كلما لاحت له بادرة، أو سنحت له سانحة، وقد سمعت منه وأخذت عنه شيئا من ذلك وأنا على كرسي الدراسة في «دار العلوم» أدام الله عزها. وتجد هذا الوفاء النادر باديا في مقالاته، ظاهرا في كتاباته؛ المؤلّفة منها أو المحققة؛ فتجد له مقالا بعنوان: «فؤاد سيد.. العالم الذي فقدناه» وآخر بعنوان: «رشاد عبدالمطلب.. والديار التي خلت» وثالث بعنوان: «محمد مرسي الخولي والبنيان الذي تهدّم» و«الشيخ مصطفى إسماعيل وقرّاء مصر» و«إقراء القرآن بمصر وترجمة للشيخ عامر عثمان» و«الشيخ الشعراوي واللغة» و«كمال النجمي والثغور التي تتساقط» و«علي الجارم لغـوياً نحوياً» و«بنت الشاطئ وتحقيق التراث»؛ أمّا شيخ المحققين محمود محمد شاكر فتجده في مقالات عدة، وقد شفع اسمه بـ «التكريم المستحق» و«منهجه في تحقيق التراث» و«تاريخ ضخم» و«الديار التي خلت» و«أي شلال توقّف» و«محمود محمد شاكر ركن باذخ» و«محمود محمد شاكر والسهام الطائشة».

إشفاق على اللغة وتراثها
وحين يكتب الطناحي عن هذه القامات التي غيبها الثرى تلمح في كلماته رنة أسى، وتحس فيها مسحة حزن عميق على فقدهم، كما تجد فيها إشفاقا على اللغة وتراثها من رحيل سدنتها عنها واحدا تلو الآخر، ولم يكن يخفف عنه من غصة فقدهم إلا إيمانه بقدر الله عز وجل، وآجاله التي كتبها على العباد؛ فيكتب عن فؤاد سيد، قائلا: «خسرت مصر والعالم العربي بوفاته عالمًا فردا، ظل يعمل في دنيا المخطوطات العربية قرابة الأربعين عاما درسا وتمثلا وتصنيفا»، وعن فقد رشاد عبد المطلب يقول: «كان ملء السمع والبصر، وكانت حياته بهجة للقلب والعقل جميعًا، وحين نعاه الناعي كادت النفس أن تفيض عليه، وغشي القلب حزن أسود كئيب من هول الرزء وفداحة المصاب»، وعن محمد مرسي الخولي يقول «جاء نعيه من القاهرة، فلفنَّي حزن أسود كئيب، وغشيت نفسي ما غشاها، ثم استرجعت وسألت ربي أن يذهب عني ما أجد من الجزع المردي، والأسى الماحق فإن فقد الأحباب مما يكوي الفؤاد، ويهد النفس هدًّا! وسبحان من تفرد بالبقاء».
أمّا عند حديثه عن صديقه وصنو روحه؛ محمود محمد شاكر فنجده يخصه من بين مقالاته بسبع مقالات، فضلاً عن تكرار ذكره كلما وجد إلى ذلك سبيلاً؛ فقد عرّج على شخصيته وصفاته، والتفاف طلاب العلم وأهله حوله، ومنهجه في تحقيق التراث، وعندما أراد البعض أن ينال منه بعد وفاته ذاد عن حياضه بكل ما أوتي من طاقة، ووقف دون ذلك بكل ما أوتي من قوة وفاءً وعرفاناً لصداقتهما، ووقوفا في جانب الحق، خاصة والرجل كان قد رحل إلى جوار ربه، وقد عبّر الطناحي عن حزنه على فراق شاكر في مقالته بمجلة العربي، عدد 469 ديسمبر 1997، وصوّر جزءاً من ذلك الأسى الدفين على فقده بقوله: «ثم اعتراني ما يعتري الناس من غم، وركبني ما يركبهم من همٍّ لفقد الأحباب وغياب العلماء، وبذهابهم يذهب العلم». 

دفاع عن اللغة العربية والقرآن
كما ذاد الطناحي عن حياض العلماء، فإنه دافع عن اللغة العربية وعلومها، والقرآن وأهله؛ سواء بمقالات خاصة بها كمقالته في «الهلال» والتي عنونها بـ «صيحة من أجل اللغة العربية»، ومقالته بعنوان: «التصحيح اللغوي وضرورة التحري»، أو من خلال الحديث عنها في كتبه ومقالاته، وبيان فضلها ومكانتها؛ وذلك من خلال الكشف عن مكنونات جمالها، ودقائق نفائسها التي ظهرت من خلال كتبه ومؤلفاته.
على أن ذلك الكم الهائل من المؤلفات، والمقالات والكتب المحققة لم يبعد بالشيخ - برّد الله مضجعه - عن طلابه ومريديه؛ فلم يُطِل عليهم من برجه العاجي - ككثيرين غيره - بل كانوا في صدر اهتمامه؛ فخاطب كلًا منهم على قدر حظه من العلم دون كِبْر أو استعلاء؛ ومحاضراته لطلابه شاهدة على ذلك؛ إذ كانت تختلف عن مناقشته رسالة جامعية، وهذه بدورها تختلف عن مؤتمر يشارك فيه، وهكذا الحال، فلكل مقام عنده مقال، وهو في هذا كله فَكِهٌ، فيه ملاحة الظرفاء، حلو الطرفة مع حسن أدب، طلق الوجه، منبسط الأسارير، كاسرًا الصورة النمطية عن أستاذ النحو والصرف، يراعي كل طلابه، فكأني به الآن - أمام ناظريّ - وهو يحاضر في دار العلوم في مدرج، موزّعا نظراته على طلابه ذات اليمين وذات الشمال، فيسمع منهم قبل أن يُسمعهم، ويشاركهم قبل أن يسألهم في جو فيه من الألفة والحنو ما يجعل تلقي العلم متعة، ومتابعة الأستاذ أو الشيخ نعمة وفضلا؛ فقد كان طرازا وحده، ونسيجا وحده، آية في التواضع الجم، والقرب من طلابه، فكان لذلك أثره في نقل ما يريد من مادتي «النحو والصرف» - على ثقلهما- إلى قلوب طلابه قبل عقولهم. نادى أحد زملائنا الطلاب باسمه، وقد كان زميلنا شديد الحرص على ربطة العنق طوال الوقت «يا هشام.. عش سِنّك، واستمتع بشبابك، وسيأتي وقتها» يعني وقت رابطة العنق الدالة على الشكل الرسمي الذي ربما لا يناسب سن الطلاب حيث الانطلاق والحيوية والبساطة وعدم التكلف.
رحل الطناحي عن عالمنا صبيحة يوم الثلاثاء 6 من ذي الحجة 1419هـ، ولكنّ علمه لم يرحل.. فارق دنيانا لكنّ صورته لن تفارق طلابه
ومحبيه - وأنا منهم - وفاء له. وكيف لا وقد ضرب في ذلك الوفاء أروع الأمثلة؟! 
ويكفيك – أيها القارئ الكريم ــ أن تعلم أن آخر مقال له في مجلة العربي كان بعنوان: «بنت الشاطئ وتحقيق التراث»، وقد أراد أن يكرمها في ذكرى رحيلها، فإذا بالأقدار تحمل للمجلة نبأ رحيله، انظر مجلة العربي، العدد 488، يوليو 1999م. وآخر مقال له في «الهلال» كان تكريما لعلي الجارم ووفاء له.

حلقة وصل متينة زاهية
في نهاية مقالي أود أن أهمس في آذان شبابنا من طلاب الماجستير والدكتوراه قائلا: إن نتاج هذا العالم ورصفائه من أبناء جيل حفظة القرآن الكريم، وحفظة المتون، وسدنة اللغة العربية, جدير بالدرس والعناية، فحري بنا جميعا شبابا وباحثين، أساتذة ومفكرين أن نوليه من الاهتمام ما يستحق، وأن ننقله بأمانة لمن بعدنا؛ فقد مثّل الطناحي حلقة وصل متينة زاهية بين الماضي وتراثه، والحاضر وتطوره، فليس أقل من نعرّف أبناءنا به، وأن نتخذ منه وسيلة نتوسل بها إلى ذلك التراث عساه يجود علينا ببعض كنوزه، أو نفائس خباياه كما جاد على شاكر والطناحي وأبي همّام وإخوان هذا الطراز من أصحاب الجهود الجبارة، والعزائم الصادقة، والعطاء الثر، واللغة الراقية، والتأصيل الرصين.
وإلى طلاب الماجستير والدكتوراه أقول: إن في كتابات الطناحي وإرثه العامر مفاتيح لعشرات العناوين الصالحة لأطروحاتكم على صعيد النحو والبلاغة والنقد والأدب واللغة والحديث والقراءات، فضلاً عن استحقاق ما كتب لعشرات الرسائل, فلا تعزفوا عنها استسهالا للحصول على الدرجة العلمية، فسترحل الدرجات ويبقى أثر الرصين منها إن توخيتم أن يكون لها أثر!
أنهي مقالي وأنا يحدوني الرجاء أن يمد الله في عمري ويهبني من التوفيق والعزم ما 
يُمَكِّنني - وغيري - من أن نقدّم أعمالًا تميط اللثام عن جواهر تركها الطناحي إرثًا ثمينًا لمن بعده. 
وللطناحي ــ برّد الله مضجعه ــ أقول ما قاله التابعي الجليل يوسف بن أسباط «ذهب من يُؤنَس به، ويستراح إليه», فعليك من الله رحمة واسعة، وجزاك عنّا وعن كل من أفاد من علمك خير الجزاء، ولتكن آخر كلماتي إليك هي كلماتك إلى أبي فهر: أي عِلم طُوي بموتك، وأي دليل هادٍ غاب برحيلك، وأي ضوء ساطع طفئ بغيابك، وأي حزن أسود نشب بالقلب لفقدك: 
ما في الصِّحابِ أخو وجدٍ نُطارحه
حديثَ نَجْدٍ ولا صبٍّ نُجارِيه
وليرحمك ويرحمنا الله■