ناقد وروائي أهمله النقد!

ناقد وروائي أهمله النقد!

أحـــيــانا يتــساءل الـــمـــرء: لـــماذا ننسى رائداً ما في فرع من فروع الأدب أو العلم أو الإعلام وغيرها من فروع النشاط اﻹنساني؟ هل بسبب ذاك الرائد الذي اكتفى بما قدم، ولم يسع إلى تقديم نفسه، بإنشاء جائزة ما، أو تلاميذ يذكرونه ويرصدون أعماله، أو حتى بحلقات كثيفة من عناصر العلاقات العامة؟ ربما كلها معا. لكننا في كل الأحوال يجب أن نعسعس بين طيات الكتب والأعمال المنجزة وننقب عن مثل هؤلاء.

ها هو ذا د. أحمد ضيف الذي يعد من رواد النقد العربي الرصين، والرواية العربية بل والمسرحية والقصة القصيرة، ويكفي الإشارة إلى أن إنتاجه اﻹبداعي بدأ في ثلاثينيات القرن الماضي... ترى من هو أحمد ضيف؟
هو أحمد علي إسماعيل ضيف، الشهير بـ «أحمد ضيف». ولد بمدينة الإسكندرية وتلقى تعليمه الأولي بها، ثم انتقل إلى القاهرة، حيث التحق بكلية دار العلوم، وتخرج في عام 1909م، وحصل على منحة للدراسات العليا بجامعة «السوربون» بفرنسا، حيث أقام بها (1912-1918)، وحصل على درجة الدكتوراه، ثم عمل مدرسا بالجامعة الأهلية (جامعة القاهرة)، وتابع العمل في كلية دار العلوم حتى أصبح وكيلاً لها.. ولد وتوفي في عامي 
(1880 - 1945م). 
نشط د. أحمد ضيف في مجال الأدب كناقد مجدد وروائي، ويعد من رواد هذا الجنس الأدبي البكر في النثرية العربية (الرواية). راجت كتاباته فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. ونشر عديدا من كتاباته النقدية والإبداعية بجريدة «السفور»، كما شارك في نشاطات جماعة «أبولو» الأدبية. 
لعل أول ما انتبه إلى «ضيف» روائيا هو الناقد علي شلش في مقال له بمجلة «إبداع»، عدد مارس عام 1983م، تحت عنوان «رواية مجهولة لأديب منسي».
يمكن الإشارة إلى جملة أعماله الإبداعية التي تم العثور عليها منثورة ولم تجمع في كتاب/ كتب، هي: «شاب مفتون» مسرحية قصيرة عام 1936م، و«فلان وفلانة» مجموعة قصص، حيث نشرت قصص مفردة خلال عامي 1919 و1920م، و«قبل التعارف وبعده» وهي قصة طويلة، ثم كتابة روايتين باللغة الفرنسية نشرتا في باريس «تاريخ طفل من بلاد مصر: منصور» حيث نشرت عام 1924م، و«تاريخ طفل من بلاد مصر: الأزهر» نشرت في عام 1927م. وقد فسر البعض أن الكاتب لجأ إلى الكتابة باللغة الفرنسية، نظرا لما تتضمنه تلك الأعمال من مواقف وأحكام أشبه بالسير الذاتية، وهو ما لم يكن مألوفاً في تلك الفترة، لتحكم الأحكام الأخلاقية عليها، قبل الأحكام الفنية.
إلا أن واقع الحال يشير إلى أن ضيف لم يكن مجهولاً كناقد في الحياة الثقافية، ومشرف على الأبحاث الأكاديمية، حتى اعتبر أستاذاً لأعلام في الأدب والنقد، من أمثال علي الجارم ومصطفى ناصف. يذكر أن د. مصطفى ناصف كتب في مذكراته مشيداً بدور أستاذه أحمد ضيف، أنه من أوائل من نبهوه إلى أهمية النظر في النص، ومازال الدكتور ناصف يذكر القراءات المنهجية التي قدمها أحمد ضيف لعيون الشعر العربي. وفي السنة الأولى من دراسة ناصف في الجامعة كتب دراسة حول إحدى قصائد «ابن زيدون»، ولما قرأها أحمد ضيف، كتب عليها: «آمل أن يظل هذا القارئ قارئا ممتازا للنص»، وهو ما جعله (أي ناصف) يتجه إلى النقد.
كما أن «ضيف» نشر كتبه النقدية المهمة بعد عودته من البعثة العلمية: «المذهب الوجداني والنقد الأدبي عند العرب» وهو رسالته للحصول على درجة الدكتوراه، و«مقدمة لدراسة بلاغة العرب»، و«بلاغة العرب في الأندلس». 
وقد اهتمت الدراسات المعاصرة بتقديم دراسات شاملة لبدايات كتابة الأنواع الأدبية الحديثة (الرواية - القصة القصيرة - المسرحية)، وهو ما كشف عن كنوز إبداعية مهمة على الجانب التاريخي للفنون. وما يتواصل مع أبحاث الفنون الشعبية وعلم اجتماع الأدب والأدب المقارن وغيرها. ولعل الاستمرار في تلك الأبحاث يفضي إلى تراكم معلوماتي يتيح إعادة كتابة تاريخ الأنواع الأدبية، مما يثري النقد والبحث العلمي بالعموم.
«أحمد ضيف» إذن، هو أحد رواد الفن الروائي العربي خلال فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وإن لم تسلط عليه الأبحاث النقدية بما يستحقه، كما يعد ناقداً مجدداً. 

أحمد ضيف روائيا.. رواية «أنا الغريق»
نشرت رواية «أنا الغريق» في كتاب للمرة الأولى ضمن سلسلة «تراث الرواية العربية» التي يصدرها المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، فبراير 2008م، يتضمن الكتاب مقدمة ودراسة نقدية للناقد سامي سليمان أحمد. ترجع أهمية نشر هذا الكتاب البحثي المتضمن الرواية، إلى أن الرصد الثقافي لم يشر إلى تلك الرواية في عدد كبير من ببليوجرافي الرواية العربية، حتى أنه لم يتم إدراجها ضمن «ببليوجرافي الرواية العربية» التي نشرها د. حمدي السكوت عام 1995م، ولا في الإضافات التالية، ولا «معجم الروائيين العرب» الصادر في دمشق عام 1995م.
ربما أكثر ما يلفت الانتباه لتلك الرواية من حيث الشكل، كونها رواية قصيرة، ذلك الشكل الذي يعتمد على سرد أحداث قليلة وشخصيات قليلة أيضا.. وﺇن اعتمد على إبراز شبكة العلاقات الإنسانية التي تتميز بها الرواية عموما، بإبراز موقف مركز ذي بعد إنساني.
يشير الباحث سامي سليمان إلى أن ضيف لم يكن وحده في كتابة هذا الشكل، بل شاركه في العشرينيات والثلاثينيات كل من عيسى عبيد الذي كتب رواية «ثريا» عام 1924م، ومحمود تيمور في روايتي «رجب أفندي» و«الأطلال» في عامي 1928م و1934م، وغيرهما. وقد كتب الناقد د. عبدالمحسن طه بدر أن رواية ضيف لم تتخير النماذج الاجتماعية الشاذة مثلما فعل غيره من الروائيين في تلك الفترة، بل كتب عن شخصية عادية. أتاحت له أحداث اشتعال الحرب العالمية الأولى فرصة تجربة انعكاس أثرها على الحياة الاجتماعية والسياسية إبان الغارات والمعارك، وبالتالي التعرف على المزيد من الملامح الاجتماعية والشخصيات المصرية والأجنبية التي تناولها في روايته.
تدور الأحداث حول أحد الطلبة المقيمين في فرنسا إبان الحرب الأولى من القرن الماضي، وخلال الفصول الأربعة الأولى من ستة فصول تتشكل منها الرواية، يبرز الروائي الأحوال والشخصيات التي يتعامل فيها ومعها، وفي الفصلين الأخيرين، يعرض لتجربة غرق سفينة تعرض لها بطل الرواية، ولعل هذا ما دعا الناقد علي شلش إلى أن يصف تلك الرواية بأنها أشبه بالسيرة، نظرا لتطابق التاريخ الحياتي للكاتب وتجربة بطل الرواية، وهو الراوي الوحيد فيها.
زمن الرواية محدد بالفترة ما بين ديسمبر 1917 حتى مايو عام 1918م، وتدور الأحداث في فرنسا، في باريس ومرسيليا، وداخل تلك الوحدات المكانية الكبيرة، كانت الوحدات المكانية الأصغر، مثل: المطعم، المخبأ، السفينة، وغيرها. وقد شغلت السفينة الفصلين الأخيرين، حيث غرقت، ولم ينج إلا الراوي وقلة معه، نقلوا إلى الإسكندرية. وبينما نجا الراوي وعاش بين أهله، وصل خطاب من الشركة مالكة السفينة بشهرين، يخبر أهله بوفاة الراوي ضمن الغرقى. لعل تلك هي المفارقة التي وجدها الراوي مناسبة لكتابة الرواية، نظرا لأهمية المفارقة في تناولات الرواية خلال تلك الفترة، مع فترة نشأتها وقبل رسوخها في النثرية العربية.
نجح الروائي في توظيف تلك الأماكن بما يتناسب مع الحالة الشعورية، والحدث العام والخاص الذي يبغي.. يصف المطعم مع اشتداد غارات الحرب وأهوالها، يقول:
«في صدر المطعم وجد بابا صغيرا علق فوقه لوح به صورة جماعة من كبار ضباط الجيش، وفي ناحية من نواحي الجدار الأيمن صندوق به ثقوب مربعة»... «وكان في الجهة المقابلة لهذا الجدار صورة نابليون في إطار بال وهو راجع من بلاد الروس مع فرسانه سائرين وسط الثلوج». 
بذلك جعل الروائي وحدات المكان رامزة ومعبرة عن انعكاسات اشتداد أزمنة الحرب، وجعل من الوصف إضافة معرفية لجوهر الرواية.

هوية السرد
ما بين الوحدات المكانية والزمن القصير المحدد عرض الروائي تجربة العودة من فرنسا إلى مدينة الإسكندرية، هربا من الهلاك. وهو ما أتاح له فرصة إبراز شكل الحياة التي بدت قاسية وغير مألوفة في المدن الفرنسية، خصوصا أنه كثيرا ما يردد بين الحين والآخر، أن باريس كانت مدينة النور المشرقة. وهو ما يزكي مشاعر الألم والحزن لما تحدثه الحروب في حياة الناس والمدن والبلدان.
فيما تتحدد هوية السرد باعتماده على الراوي، وكثيرا بتدخله (أي الروائي الراوي داخل العمل) في مسارات الحدث. كما يحرص على تقديم شخوص الرواية بأوصافها (خارجيا).. يصف المرأة العجوز التي قابلها أثناء زيارة صديقه الفرنسي سيمون بقوله: «امرأة عجوز بدين، ذات صدر عريض ضخم، ورأس كبير على عنق قصير» (ص 19).
وقد يعتمد على رصد الأوصاف الخارجية إلى جانب بعض الأوصاف الداخلية، وقد يقدم الشخصية بوصفها انعكاسا لأحداث المعارك وحالة الحرب. وفي كل الأحوال يبدو الراوي هو الصوت الوحيد في الرواية، حتى عندما نقل مشاعر وأحوال الباريسيين أثناء الغارة الجوية، فقال: «هذه حاملة طفلها تلفه في جلبابها، وتلك يحيط بها أولادها مذعورين باكين. وهذا شيخ يكاد يقعده العجز عن المقاومة وكأن هذا الكهف جزء من سفينة نوح، يجمع كل صنف من الناس!» (ص 26).
اتسمت لغة السرد في الرواية ببروز مستوى من مستويات اللغة الشعرية، وإبراز الصورة الشعرية، أو إبراز الحالة العاطفية، وهو ما اتضح في نص قصيدة «نينون» التي قرأها الصديق الفرنسي سيمون على زوجته مارسيل أثناء زيارة الراوي، كما الفقرة التالية:
«وإذا قلت لك: إني أحفظ في سويداء قلبي كل صغيرة وكبيرة من مسامراتك، وﺇن نظرة ارتياب منك - كما تعلمين - تجعل من العيون السماوية الزرقاء لهيبا مشتعلا. إذاً لتحرمين علي رؤيتك» (ص 20).
وإن يلاحظ القارئ التأثر باللغة التراثية بين سطور الرواية، كقوله في وصف وجه الزوجة مع الضوء الشاحب أمام المصباح «بدا في ضآلة ضوء مصباح البيت، كأنه كوكب دري يتلألأ»... وفي موضع تال، يخاطب الراوي الزوجة قائلا: «يا سيدتي إن لدينا خبرا مأثورا يقول: «المال والبنون زينة الحياة الدنيا» (ص36).
بينما بدأ الرواية بوصف تأثير الحرب على المدن وحياة الناس، حيث تقابل الطالب مع صديقه الفرنسي وزوجته، وعرض قدر المحبة والعواطف الجميلة المتبادلة بين الزوجين، حتى إذا ما اشتدت الغارات الألمانية على فرنسا، باريس تحديدا، فتتهدم المباني، ويقتل من يقتل، وينال الخراب من المدينة، يقرر الراوي أن يترك باريس.
والروائي بتلك البداية، وبهذا العرض الوصفي الخاص للأماكن، وضع القارئ في بؤرة هدفه، وهدف الرواية، حيث تجربة الحرب التي تقضي على كل أخضر ويابس. ومع نهاية الرواية تتعرض السفينة التي تنقل الراوي للغرق.. تتأكد الحالة وتبرز أبعاد التجربة، حتى بعد المفارقة التي أشرنا إليها سلفا.
وتعددت الآراء حول تلك الرواية، فهي تحسب لصاحبها، ولرصيد الرواية العربية، ربما لشكلها غير الشائع، وربما لتناولها «التجربة الحربية» وتحمسه لكل القيم الإنسانية، وليس لتزكية الحروب■