فن الأرض

فن الأرض

يعد فن الأرض حركة فنية مستدامة تخاطب أفكاراً كونية كبرى، ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات الماضية، مع بداية موجة لفت الانتباه للبيئة والدعوة إلى الحفاظ عليها. ويسعى هذا النوع من الفن إلى رفض سجن الأعمال الفنية في المتاحف والمعارض المغلقة وتقديمها بدلاً من ذلك في متاحف ومعارض مفتوحة تقع في قلب الطبيعة. 

 هكذا يربط فن الأرض بين المناظر والمسطحات الطبيعية والأعمال الفنية، وينفذ في الطبيعة باستخدام مواد طبيعية، مثل المياه والمعادن والرمال والصخور والنباتات بما فيها من جذوع الأشجار وفروعها وأوراقها. 
ولا تصمم الأعمال الفنية لتوضع في الطبيعة فحسب، ولكن تلعب الطبيعة دور الوسيلة التي تساعد الفنانين على تصميم أعمالهم وتنفيذها باستخدام معدات قابلة للنقل في مواقع رحبة بعيدة عن المدنية.
وقد شيد عديد من الأعمال المبكرة في إطار هذا الفن في صحارى نيفادا ونيومكسيكو، أو يوتا، أو أريزونا بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث نجح الفنانون في إظهار قدراتهم على العمل بانسجام مع الأرض، وقدموا نماذج باهرة لعلاقة إيجابية مبدعة بين الإنسان والبيئة.

حلزون الرائد
 كثيراً ما يربط فن الأرض بالفنان الأمريكي روبرت سميثسون وعمله الشهير «حاجز الميناء الحلزوني»- الذي نحته من الطين وبلورات الملح المترسب وصخور البازلت في عام 1970 على شواطئ بحيرة الملح العظمى بالقرب من نفطة روزل بـولاية يوتا الأمريكية؛ وتطلّب منه استخدام ستة آلاف طن من الصخور؛ غير أنه تلاشى في أكتوبر 2015 نتيجة لارتفاع مستوى الماء. ورغم العمر القصير الذي عاشه سميثسون، الذي توفي في عام 1973 عن 35 عاماً، فقد امتد تأثيره ليلهم عدداً من الفنانين الشباب. 
شاركت الفنانة نانسي هولت زوجها سميثسون اهتمامه، وقد اشتهرت بعملها «أنفاق الشمس» الذي أبدعته في عام 1973، وهو عبارة عن أربعة أنفاق إسمنتية ضخمة مثقوبة موضوعة في صحراء ولاية يوتا على شكل X، بصورة تسمح لضوء الشمس بأن يدخلها ويلون جدرانها بلون الرمال الذهبي، وتكون فتحات الأنفاق كالبراويز لقرص الشمس.

علاقات دائرية 
من الأعمال الأخرى الشهيرة «تعاون» للفنان النيوزيلندي مارتن هيل، الذي حاول من خلاله استكشاف وجود علاقة مستدامة بين النظم البشرية وغير البشرية، وكان في تركيزه على النحت البيئي دعوة للعودة إلى الطبيعة.
ونتيجة لتميز هذا العمل الذي أنجز في 2009 فقد بلغ الدور النهائي في جائزة Arte Laguna في فرع فن الأرض. لقد سعى هيل لأكثر من عقدين إلى السفر لأماكن نائية لكي يبدع منحوتاته الرائعة هذه، بالتعاون مع شريكته الفنانة فيليبا جونس. وما يميز معظم أعمالهما استخدام الصخور والثلج والمواد العضوية والأشكال الدائرية التي تمثّل الدورات الطبيعية في البيئة، وعادة ما توضع الأعمال الفنية هذه في منتصف بحيرة متلألئة، حيث انعكاس الضوء الملهم، على أمل مساعدة الناس على تأمّل العلاقة بين النظم الطبيعية والتوصل إلى طرق لحماية البيئة وتطويرها عبر أساليب عيش سليمة.

توازن الصخور
من بين ما يتضمنه فن الأرض أعمال مدهشة تندرج تحت فن توازن الصخور، وهو ما قدّمه بصورة رائعة مايكل جراب من خلال أعمال موجودة في بلدان عديدة، مثل كندا وألمانيا وكرواتيا، تبين قدرته المتميزة على وضع صخور بمختلف الأشكال والأحجام فوق بعضها من دون أي دعائم أو مواد لاصقة سوى الجاذبية الأرضية، فتبدو للعيان كأنها أشكال فنية تعبيرية بديعة تنعكس على صفحة الماء أو تنهمر المياه من عليها ومن خلالها.  

بيتنا المريح
 قدّم الفنان الألماني البيئي نيلس أودو هو الآخر عدة أعمال، لعل أشهرها ما يعرف بـ «عش كليمسون كلاي»، وهو عبارة عن عش عصفور عملاق يزن ثمانين طناً، وقد شيد في عام 2005 بحدائق ساوث كارولينا النباتية التابعة لجامعة كليمسون، باستخدام مواد طبيعية وجدها في الموقع، مثل سيقان البامبو وأوراق الأشجار والنباتات، وظل هذا العمل صامداً على أرض الحدائق لعامين متتاليين، حتى أزيل بعد أن أصبح غير آمن. ويرمز العش بالنسبة لأودو إلى الطبيعة الأم، ويمثّل بيتنا المريح الأرض.  

النقش على الرمال
ومن سان فرانسيسكو اعتاد الفنان أندريس أمادور نقش أعماله على رمال الشواطئ، معتمداً في جانب على مبادئ الفن الهندسي القديم الممعن في الدقة، ومن جانب آخر، على الأشكال العضوية التي يفرضها الموقع نفسه الذي يعمل فيه، حيث يلهم بما يمكن أن يقوم به مستخدماً أدوات يجرف بها الرمال لتتشكل وتتحول إلى تصميمات مدهشة. 
ولا يهم أمادور أن يمضي ساعات في العمل، وبعد أن ينتهي تأتي المياه فتغسل كل شيء في لحظات؛ فهو يراها كحياة الإنسان مؤقتة ودائمة التغيير، ولا ضمانات فيها.
ويجد أن الطريق الذي يقطعه المرء وما يحدث فيه أهم دائماً من وصوله إلى المقصد، لأن الرحلة وأحداثها هي المثيرة للسرور، وعندما يشعر المرء بالسرور يتلقى العالم من حوله هذا الشعور أيضاً. ومن خلال خبرته في العمل على عشرات الشواطئ الأمريكية والمكسيكية، وتنظيم عدد من ورشات العمل في هذا الفن لعموم الناس، أصبح يشعر بأن العمل يتشكل ويمر من خلاله، وأن جسده يعرف ما يتعين عليه القيام به.

تنفُّس الصحراء
يغطي عمل تنفس الصحراء، الذي تم في مارس 1997، مئة ألف متر مربع من الأرض الصحراوية بمنطقة الجونة بالقرب من البحر الأحمر في مصر. واستغرق عمله عامين. قام به فريق مكون من ثلاثة مبدعين يونانيين؛ الفنان داناي ستراتو، والمصممة الصناعية والمعمارية ألكساندرا ستراتو، والمعمارية ستيلا كونستانتينيديس، من منطلق رغبة مشتركة في العمل بالصحراء، حيث يمكن أن يخبر المرء معنى اللانهاية.
لقد تطلّب العمل الذي خاطب الصحراء كحالة عقلية وكمنظر طبيعي وتشكيل طبيعي من الرمال، إزاحة ثمانية آلاف متر مكعب من الرمال لعمل حوض مركزي ممتلئ بالماء بقطر ثلاثين متراً، تحيط بها أشكال مخروطية لأسفل ولأعلى تشكل في مجموعها حلزونيين متشابكين. ورغم تعرّضه للعوامل الجوية الطبيعية خلال عشرين سنة، فإنه لا يزال قابلاً للرؤية. 

فن الأرض للأطفال
لا يقتصر فن الأرض على كبار الفنانين، بل هو متاح لجميع الناس بمن فيهم الأطفال، ومع موجة الاهتمام بالبيئة والتنمية المستدامة فقد أُسست مراكز ومواقع إلكترونية تعلّم هذا الفن للصغار، مثل موقع فن الأرص للأطفال، حيث توفر مصادر تعلّم وتقدّم توجيهات لكيفية تنفيذ بعض الأعمال الفنية، كما تنظم ورشات عمل وفعاليات في الطبيعة باستخدام مواد طبيعية، في محاولة لتثقيف الأطفال وتنمية مواهبهم بعيداً عن العالم الاصطناعي ومتاهات التكنولوجيا. 
ونظراً لأننا - معشر البشر- ملّاك جميعاً للطبيعة الممنوحة لنا من الخالق، فقد لا نحتاج إلى معلمين، بل إلى بعض الاهتمام بالبيئة، وشيء من شجاعة التجريب، وشغف اللعب الطفولي، ومن يدري لعلنا نظهر الفنان الكامن فينا بصورة عفوية، فنندهش وتنتعش حياتنا الرتيبة■