المدرسة في السيرة الذاتيّة: ذاكرة مشتركة بين الكُتّاب والقرّاء

المدرسة في السيرة الذاتيّة:  ذاكرة مشتركة بين الكُتّاب والقرّاء

غالباً ما يحيل ذكرُ المدرسة في الكتابات الأدبيّة على صدمة اليوم الأوّل، حيث تقترن لحظة اكتشاف ذلك المكان الغامض بمشاعر متناقضة، هي الخوف والنفور والألم، مقابل الطمأنينة والمتعة والفرح.

تناول أغلبُ كتّاب السيرة الذاتية موضوع المدرسة باعتبارها محطّةً مهمّةً في حياتهم، وهي كذلك في حياتنا جميعاً، بل هي جزء من ذاكرتنا الثقافية الحافلة بالدروس والعبر. والمعلوم أنّ تفصيلات بعينها في علاقتنا بالمدرسة لا تُنسى أبداً، لأنّها تتكرّر مع كلّ الأجيال، وتتحوّل بالتالي إلى ذكريات مشتركة بين الباثّ والمتلقّي. فما يرويه الكُتّاب عن المدرسة يقدّم للقرّاء قصصاً تُشعِرهم بالانتماء إليها، وكأنهم شاركوا في كتابتها بذلك المستوى المدهش من صدق الواقع والشعور.
اكتشف الكاتبُ المغربيّ عبدالمجيد بن جلّون مدرسته الأولى في مدينة «مانشستر»، حيث عاش مع أسرته عدّة سنوات في بداية القرن العشرين، واللافت أنّ ذلك الاكتشاف اقترن بشخصيّة الشرطيّ الذي حضر إلى البيت، ليذكّر سكّانه بإجباريّة التعلّم على من بلغ سنّ الدراسة، «فمن المحظور في هذه البلاد عدم الالتحاق بالمدرسة».   
كان حضور الشرطيّ كافياً لتشبيه المدرسة بالسجن، حيث يقول بن جلّون: «لم أنم طوال الليل، المدرسة! مررتُ كثيراً قبل الآن بالمدرسة، فكانت تملأني حواجزُها الحديديّةُ وبوّابتُها المقفلةُ وبنايتُها الهامدةُ بنوع من الارتياب والخوف». 
وفي اليوم التالي، عندما يكتشف الراوي ذلك الفضاء من الداخل، يأسف بسرعة على فقدان حريّته، فيرثيها قائلاً:  «ضاعت حرّيتي، وكان لضياعها ألم عظيم في نفسي، فمنذ ذلك اليوم لم يعد في استطاعتي أن ألعب مع أختي، ولا أن أستمع إلى أقاصيص أمّي... كلّ هذا ضاع، فمتى أستعيد حريّتي يا ربّ لأفعل ما أشاء حيثما أشاء».

فضاء جديد للحياة 
على الجهة المقابلة، وفي رحلتها الجبليّة الصعبة، استعادت فدوى طوقان حرّيتها المسلوبة بفضل المدرسة... كان البيت هو السجن، وكان الذهاب إلى المدرسة فرصة ثمينة للتحرّر والفرار من عيون الأهل وأوامرهم: «في المدرسة تمكّنتُ من العثور على أجزاء من نفسي الضائعة، فقد أثبتُّ هناك وجودي الذي لم أستطع أن أثبته في البيت... لقد أشبعت المدرسةُ الكثير من حاجاتي التي ظلّت جائعة في البيت... لقد أصبحت المدرسةُ أحبَّ إليّ من البيت، والمكان الأكثر ملاءمة لي».
من الطبيعيّ أنْ تختلف صورة المدرسة من كاتب إلى آخر، بحكم تباين البيئة الاجتماعيّة وتباعد الفترات التاريخيّة التي ينتمي إليها المبدعون. وفي المقابل، تتفق نصوصهم في تعظيم دورها بوصفها فضاءً جديداً للحياة، مختلفاً عن البيت الذي نشأنا فيه. ففي المدرسة تسود علاقات مغايرة، تبدو للوهلة الأولى غريبة ومخيفة. وفي هذا السياق، يقول عبدالفتاح كيليطو في كتابه الممتع «أتكلّم جميع اللغات لكن بالعربيّة»: «في فناء المدرسة كانت هناك جماعة من الأطفال يصيحون ويجرون في كلّ الجهات. وبما أنّني لم أكن أعرفهم، كان يُخيل إليّ أنّهم يناصبونني العداء... وسط البلبلة بحثتُ عن أبي كيْ أحتمي به، كان قد اختفى، كنتُ قد تُركتُ وحدي ضالاً تائهاً».
ينبّه كيليطو إلى الحقيقة المفزعة التي نعرفها جميعاً: انسحاب الآباء من المدرسة بعد وقت قصير من اصطحاب أبنائهم. يصدمنا ذلك الاختفاء، ولكنّه يمثّل الدليل على دخولنا في نظام جديد من العلاقات، نختبره وحدنا بعيدا عن البيت، وعن حماية الأسرة لنا... إنّه أوّل امتحان في الحياة، حيث يتوجّب علينا مواجهة مصيرنا، وتحمّل المسؤوليّة الثقيلة التي كنّا في حلّ منها قبل الدخول إلى المدرسة.
ستكون المدرسة بهذا المعنى فضاء لحياة صاخبة، مليئة بالمفاجآت، تحكمها صراعات كثيرة فيها الصداقةُ والعداوةُ، والثناءُ والعقابُ، والمحبّةُ والكراهيّة. 
اختزل أحمد أمين تلك المعاني في حديثه عن الكتاتيب والمدارس التي حلّ بها متعلّماً، فقال مستنتجاً: «كانت المدرسة بتلاميذها ومدرّسيها وناظرها تمثل رواية مملوءة بالحياة والحركة والمناظر، تكون أحياناً مأساةً، وأحياناً ملهاةً».

الضحايا كثيرون
من القصص المأساويّة التي تدعو إلى التأمّل، روى الكاتب المصريّ بأسلوبه النقديّ المعروف بعض ما شاهده وأثّر في وجدانه فقال: «ومدرّس الحساب كفءٌ في مادّته، مهتم بطلبته، يبذل أقصى جهده في درسه، ولكنه غريبُ الأطوار، يهيجُ أحياناً ويشتدّ غضبه فيضربُ، وقد يشتدّ ضربُه فيكسرُ أو يجرحُ... وناظر المدرسة رجل طيّب، ولكنّه لا يفقه شيئاً من أساليب التربية، ضبط مرّة تلميذا يسرق كرّاساً فأخذه وعلّق في رقبته لوحة من الورق المقوى، كتب عليها بخط الثلث الكبير «هذا لصّ»، حتّى إذا وقف الطلبة في طابور العصر، أمسكه الناظر بيده، ومرّ به على التلاميذ ليؤدّبه، والحقّ أنّه لم يؤدّبه ولكنْ قتله، فلم أر هذا التلميذ يعود إلى المدرسة بعد. وأغلب الظنّ أنّه انقطع عن المدارس بتاتاً».
كم من تلميذ جنى عليه أمثال ذلك المدرّس وأشباه ذلك الناظر، وكم من طالب خرج فاشلاً بسبب السياسات التربويّة الخاطئة، والإجراءات التأديبيّة القاسية؟ 
الضحايا كثيرون، لا شكّ في ذلك، ولكنّ أضعافهم نجحوا، وقد مرّوا بالمدارس ذاتها، ليكون الفارق بين هؤلاء وهؤلاء متعلّقا على الأرجح بشجاعةٍ تتفاوت من طفل إلى طفل، أو برغبةٍ في التعلّم لا تتوافّر لدى جميع التلاميذ، وما أكثر العوامل التي تتشابه هنا وهناك، ولكنّها تدفع طلاّبا إلى المثابرة والنجاح، كما تُوقِع أقرانهم في محنة التكاسل والفشل. 
والمؤكّد أنّ القصص الشائقة التي كُتبت وستكتب عن المدرسة، تمثّل مغامرةً معرفيّةً ستساعدنا في ضبط الكثير من المفاهيم المضطربة عن الفضاء المدرسيّ وعلاقاته المتغيّرة، وفي كشف المزيد من الخفايا التي ساهمت في تشكيل شخصيّاتنا عبر مختلف الأزمنة والأمكنة. فليس الزمان مسؤولاً وحده عن إنضاج عقولنا وصقل طباعنا، بل يساهم المكان بقسط وافر في ذلك التكوين والإنشاء، أيْ أنّنا نكبر من يوم إلى آخر، ومن مدرسة إلى مدرسة■