ثقافةُ «الشيبس»

ثقافةُ «الشيبس»

   «الساندويشة» المتروكة على حافة السور أو في الزاوية مشهدٌ بات يتكرر في ساحة المدرسة، كما بات من المشاهد النادرة رؤيةُ طالبٍ وهو يقضم الساندويشة البيتية المغلّفة بعناية والتي أعدتها له أمُه في الصباح الباكر من «الزيت البلدي والزعتر أو اللبنة «المدحبرة»، وحلّ محلها كيسُ «الشيبس» والشكولا والبسكوتات بأغلفتها الجاذبة الملونة ونكهاتها العديدة.

تتنامى روحُ الاستهلاك والشراء، وتتقلص فكرةُ الاكتفاء أو الاعتماد على الأكل البيتي تدريجياً حتى تكاد تتلاشى، وتتحول إلى تقليدٍ قديمٍ يدخل أحياناً في باب المعايرة والعيب؛ فقيامُ القطاعات المختلفة من المجتمع بشراء الأكل الجاهز  وإدخاله ضمن البرنامج الغذائي للأسرة العربية وتخصيص جزء من دخلها له باتت ثقافة مجتمعية ونزعة استهلاكية تنتشر خاصة بين الجيل الصاعد الذي يحرص على إشباع نزعته الاستهلاكية المتنامية والتي تؤثر في المجتمع.
فهل ثمة طفرةُ تغيُّر وانقلاب في العادات الغذائية لدى المجتمعات العربية في عصر التطور التكنولوجي المتسارع؟! وما هي العوامل المؤثرة في هذا التغيير؟ وهل هو للأفضل والأسلم صحياً واقتصادياً أم تعتريه صورٌ للتقليد مشفوعة بطغيان التكنولوجيا وسطوة الإعلانات التجارية للأغذية والتي تُرصد لها المبالغ الكبيرة مقابل تحقيق مردود أعلى مثل التي تروّج لـ «الشيبس» كمثال على المواد الغذائية المستهلكة من قبل الطلاب في مدارسهم، رغم أنّ تكلفة شراء كيس «الشيبس» بما يحمله من محاذير صحية ومواد حافظة وصباغ صناعية أعلى من تلك الساندويشة المغذية البسيطة بمكوناتها والمعدة بيدين مُحبتين حريصتين؟
يمكن اعتبار إحجام طلبة المدراس عن تناول الساندويشة البيتية مؤشراً على تغيّر جذريّ في العادات الغذائية في المجتمعات العربية المتأثرة بسيل التكنولوجيا الذي يكتسح مختلف جوانب الحياة، ويترك أينما حلّ بصماته وآثاره إيجابية كانت أم سلبية، ومنها التأثير في العادات الغذائية للمجتمعات العربية، فثمة تعوُّد على استهلاك الأغذية المصنّعة بما يشبه الإدمان لسهولة الحصول عليها، والانجذاب لطعمها ونكهاتها وانجرافاً مع التيار.   
ربما الجانب الإيجابي للتطور التكنولوجي على العادات الغذائية في مجتمعاتنا العربية هو سهولةُ وسرعة الوصول للمعلومة وتيسر الحصول على الوصفاتِ المتنوعة والمتعددة الأساليب، بدءاً بالوصفات المكتوبة، مرورا بالمرفقة بالصور  التوضيحية والتفصيلية والتي لم تعد مكلفة في زمن الصور، وانتهاء
بــ«الفيديو» الموضح بالخطوات وبالتفصيل الدقيق لصناعة الغذاء.
كما أتاح التطور الترويجَ للطعام الجاهز والوجبات السريعة التي تتميز بالسرعة في الإعداد وبمذاق يبدو شهياً كونه يغلّب الجانبَ التجاري والربحي السريع على الناحية الصحية، ويتغافل عن الآثار السلبية على صحة من يتناوله  ويقوده  أحيانا  لما يشبه الإدمان عليه خاصة لدى طلبة الجامعات المغتربين أو البعيدين عن عائلاتهم، أو الموظفين في عمل يتطلب دواماً طويلاً واستراحة للغداء؛ فسهولةُ الحصول على وجبة سريعة بالتوصية عن طريق الهواتف الذكية والتوصيل السريع أمرٌ مغرٍ وحلٌ سريع جاهز في ظل انتشار المطاعم، واعتمادها على الدعاية الإلكترونية التي تتسرب للبيوت من نوافذ الهواتف والشاشات، وتغري المتلقي بالصورة والدعاية وأرقام للتوصيل، إضافة لعرض الصور العملاقة على مداخلها لما تقدمه من وجباتٍ سريعة الأكل وبطيئة التأثير في تدمير الصحة والعادات الغذائية للفرد المعاصر، الذي باتت حركتُه الجسديةُ محدودةً ومحصورةً وقليلة، وطولُ مدة جلوسه أطولُ مرات مضاعفة من اضطراره للحركة؛ فهو محاطٌ بكل وسائل الترفيه والراحة ومن شأنه أن يحد من حركته؛ بدءاً بالسيارة، وآلات التحكم بالتلفاز والمكيف، إضافة لهاتفه الخليوي الملازم له كخادم مطواع ومفشٍ لأسرار الكون.
وثمة تنامٍ لظاهرة «المطبخ البيتي»، فبفضل التكنولوجيا انتشرت في المجتمعات العربية أكثر ثقافة الغداء الجاهز سواء من المطاعم التي تقدم الوجبات السريعة أو التقليدية والشعبية أو «المطبخ البيتي» وهو الأمر الآخذ في الانتشار، والذي بات مصدراً لدخل ربات البيوت ممن يسعين لزيادة دخل أسرهن والحصول على مردود مادي من خلال استغلال الخبرة والمهارة والاطلاع على فنون الطهي في  طبخ الوجبات العائلية أو التكفل بإعداد الطعام للعزايم والولائم في المناسبات أو في شهر رمضان الفضيل؛ فللطبخ البيتي «نَفَس» محببٌ قريب ومختلف عن الأكل المُعد في المطاعم الذي يبدو متشابها  مستنسخاً أو يفتقد أحيانا لنكهة وحميمية الطبخ البيتي.
لا يمكن إغفال التأثير الكبير للتطور التكنولوجي، والتغيير المتسارع الذي يحدث في نسيج المجتمعات العربية ويمس العادات الغذائية فيها بوجوهه الإيجابية منها والسلبية، فهل نحن واعون للتأثيرات بعيدة المدى التي تمس طبيعة حياة وعادات الفرد العربي المعاصر المحاط بكلّ المؤثرات والمحفزات للتغيير في سلوكه ونمطه الغذائي والتي تجري لمصلحة الكسب والربح التجاري دون الالتفات لصحة أجيال باتت تعاني السمنة والكسل والخمول، وتنامت لديها الروحُ الاستهلاكية وتضخمت فيها رغبةُ الأخذ السريع، والاهتمام بالشكل على حساب المضمون؟■