قلوبٌ دافئة

قلوبٌ دافئة

قالت: هل أحدثك بقصة، كلما تذكرتها أثارت شجوني، وأسالت عَبراتي، وربما أخذت مني وقتاً في التفكر في أحوال الناس وظروفهم؟ أومأت برأسي أن نعم، فما أكثر الحكايات المؤثرة، التي تُلامس قلوبنا في وقتها، ولكن سرعان ما ننسى، فلا نعتبر مما نسمع، ولا يتعظ أحدنا إلا من تجاربه وأخطائه ومصائبه!

قالت: ذات مساء، كنت أتمشى في وسط العاصمة، أتوقف عند بعض محلات الملابس أو الأحذية أو النثريات، أطالع واجهاتها قليلاً ثم أنصرف إلى غيرها، فما بي رغبة في الشراء، وإنما هي عادة أنثوية متأصلة. وفي أثناء وقوفي أمام واجهة متجر للحقائب النسائية الفاخرة، أتأمل آخر موديلات الحقائب وأثمانها، لفت نظري عامل نظافة مُسِنّ، يتأمّل الحقائب النسائية مبتسماً. تأمّلته وتأمّلت الشّيب المشتعل في رأسه. تلاقت أعيننا، فابتسمتُ له، وابتسم محرجاً. فقلت: «يعطيك العافية عمو». ابتسم وقال: «الله يعافيك عمّي». عرضتُ عليه المساعدة، فقال بعد تردد: «فكرك أي حقيبة قد تعجب زوجتي أكثر؟»، نظرت إليه مستفسرة أكثر، لمساعدته بشكل أفضل.
ابتسم بحياء قائلاً: «غداً عيد زواجنا الثلاثين». دعوت له بالصحة وطول العمر، وأن يُديم الله المحبة بينه وبين زوجته، واخترت له حقيبة تليق بالمناسبة، حسب إحساسي كامرأة، مع أننا ــ نحن النساء ــ لا نريد إلا قلباً مثل هذا، يحبّنا بعد ثلاثين سنة، ويتذكّر ــ رغم ضنك العيش ــ تفاصيل أنوثتنا ويوم زواجنا.
نظر مبتسماً إلى الحقيبة التي اخترت لحظات، ثم شكرني وانصرف. سألته باستغراب: «ألن تشتريها؟!»، ابتسم، وقلَّبَ كفيه أنه لا يملك شيئاً ليشتريها. سألته متعجبة: «ولكن...!
قاطعني بأدب: «إني أحلم بشراء حقيبة من هذا المتجر منذ عشر سنين، ولكن...!
لمعت دمعة على زاوية عينه، فانصرف مسرعاً.
حاولت اللحاق به لأعرض عليه شراء الحقيبة هدية لزوجته، توقف، رفض بأدب وعزة نفس، وقال: «أرجوكِ يا سيدتي، لا تجرحيني، دعيني أحلم بالشراء، وزوجتي بالانتظار. دعيني أحلم كل مناسبة بتخيل فرحتي بالشراء، وتخيل دهشتها بالمفاجأة وابتسامتها الجميلة، وكلماتها الرقيقة!».
ثم غادر بعد أن ودعني بإشارة من يده، وتركني وصراع ينشب داخلي. ثم عدت إلى البيت أسترجع ما حدث ودموعي تنهمر كما لم تفعل من قبل.
هذه قصتي الحزينة، التي علمتني درساً في الكرامة والكبرياء وعزة النفس، وإن كان المال والترف والسلطة من نصيب الأغنياء، فإنَّ القلوب الرقيقة، والمشاعر الصادقة المرهفة، والعواطف البريئة الطاهرة من نصيب الفقراء، ويقيني أنَّ الغنى الحقيقي هو غنى القلوب بالحب والحنان، وهذا ما نحتاجه، لأنَّ هذه القلوب الدافئة هي التي تملك الوقود اللازم للحياة الجميلة السعيدة التي يتمناها كل إنسان سوي!■