«الرواية العالمية في القرن الحادي والعشرين»

«الرواية العالمية  في القرن الحادي والعشرين»

في أبريل من العام الماضي صدر كتابٌ مهم للناقد والمحرّر الأدبي آدم كيرش بعنوان «الرواية العالمية... كتابة العالم في القرن الحادي والعشرين»، عن دار Columbia Global Reports. 
وكيرش هو شاعر أمريكي، وصحافي، ومشتغل بالنقد الأدبي، نشر ثلاثة كتب بين شعر ومراجعات نقدية لشعراء مشهورين، مثل ت. إس. إليوت، وتوماس هاردي، وديلان توماس.
يدرس كيرش في هذا الكتاب مجموعةً من الأسماء العالمية المرموقة، القادمة من ثقافات متباينة، منهم أورهان باموق، هاروكي موراكامي، محسن حميدي، روبرتو بولانيو، ماجريت آتوود وغيرهم، محللاً أعمالهم ليفحص كيف وحّدت المخيّلة الإبداعية بين هذه التباينات الحضارية والثقافية.

في مقدمة الكتاب يناقش كيرش سؤالاً بدأ يُطرح بقوةٍ في الأوساط الأدبية العالمية، وهو هل وقع أشهر الكُتّاب العالميين في فخّ الجماهيرية والأدب الاستهلاكي، لدرجة تمنعهم من أن يصيروا رواداً للأدب العالمي الحقيقي؟
كما يناقش الكتاب مسألة نشوء رواية عالمية من خلال نصوص أدبية مهمّة، حفرتْ لنفسها مكاناً في خريطة الأدب العالمي، من بينها رواية IQ84 للياباني الأشهر هاروكي موراكامي، ورواية 2666 للروائي الشيلي روبرتو بولانيو، ورواية ثلج للتركي الحائز نوبل أورهان باموق، وروايات مارجريت آتوود، فضلاً عن رباعية الروائية الإيطالية إيلينا فيرانتي. 
والغريب أنّ الكتاب مكوّن من 135 صفحة، وهو حجم صغير، قياساً بالموضوع العميق الذي يناقشه الكتاب، إلا أننا يمكننا إدراجه تحت مظلّة «مقدمة قصيرة جدًا عن ...»، التي تقدّم مداخل نظرية موجزة لموضوعات شائقة. 
ويطرح الكتاب أسئلةً مهمّة، من بينها: من الذي يملك صلاحية التحدّث باسم العالم؟ هل صارت المُثل الغربية حالياً هي قلب الأدب العالمي وروحه؟ هل في الإمكان تكليف كاتب أو روائي ليكون سفيراً لأدب بلاده أمام «الأمم المتحدة الأدبية»؟ 
يفترض كيرش أنه لا توجد صيغة مثالية لتحديد الأدب المُمثّل لثقافة أي بلدٍ أو حضارته، فإيلينا فيراتي مثلاً تنتصر لما هو «محليّ/ إقليمي» على حساب ما هو عالميّ/ منفتح»، مؤكدةً أنّ «المحليّ» عنصر أساسي لتصير القصص ذات عالمية.


نسخة معدلة 
ينتقل كيرش إلى الروائي الياباني الشهير هاروكي موراكامي، فيعرض لكتاب الروائية اليابانية ميناي ميزومورا In The Fall of Language in the Age of English، الذي تتبنّى فيه وجهة النظر القائلة إنّ الأعمال المُمثّلة للأدب الياباني المعاصر تُـقرأ الآن باعتباره نسخةً معدّلة من الأدب الأمريكي، متجاهلة بذلك، لا الموروث الحضاري الياباني وحده، بل حقيقة أنّ المجتمعـيْن الأمريكي والياباني مختلفان.
وتضيف ميزومورا أنّ قُـرّاء هذه الأعمال بعد مئة سنة من اليوم لن يعرفوا طبيعة المجتمع الياباني ولا ثقافته من خلال هذه الروايات، مشيرة إلى أنّ «أمركة» الأدب الياباني اقتلعتْ جذور الحضارة اليابانية الضاربة في التاريخ. 
ويلاحظ كيرش أن اسم الروائي الياباني الأشهر موراكامي لم يظهر في الكتاب، ولا مرّة واحدة، لكنّه يشير إلى مقولة المؤلّف إن أفضل كُتّاب اليابان حالياً قد أداروا ظهورهم إلى الأدب الحقيقي، مُصوّبة في الأساس إلى موراكامي، الذي يُعدّ أشهر الكتّاب اليابانيين. 
فبعد ظهور روايته IQ84 سنة 2009، وهي ثلاثية روائية ضخمة، سرعان ما تصدّرت الرواية الـ Best Seller في اليابان، وباعت عدّة ملايين من النسخ في شهر واحد، علاوة على ترجمتها إلى ما يزيد على خمسين لغة، مما وضع اسم موراكامي على لائحة المُبشّرين بجائزة نوبل منذ ذلك الحين.

بطة سوداء
أما عن موراكامي، فقد أشار في حوار صحفي نُشر سنة 2014 إلى أنّه يعدّ نفسه غريباً عن الأوساط الأدبية داخل اليابان، «بطّة سوداء» يتجاهلها الأدباء والنقّاد في اليابان على حدّ سواء.
وتشير جريدة نيويورك تايمز الأمريكية إلى أنّ النقّاد اليابانيين يعتبرون روايات موراكامي غريبة عن روح اليابان، بسبب المؤثّرات الغربية والأمريكية على وجه الخصوص في أسلوبه السردي وموضوعاته القصصية، كما أنّه معروف بترجمته عدداً من قصص كبار الكُتّاب الأمريكيين، من بينهم رايموند كارفار، فيتزجيرالد وغيرهما.
ويذهب كيرش إلى أنّ نجاح موراكامي وذيوع صيته في العالم الناطق بالإنجليزية قد صارا موضع نقد حادّ في الأوساط الأدبية اليابانية، حيث يشير الروائي الياباني الكبير كينزابورو أوي، الحائز جائزة نوبل في الآداب سنة 1994 إلى أنّ موراكامي يكتب بلغة يابانية سهلة واضحة، قريبة من لغة المواطن العادي، وأنّ أعماله مقروءة على المستوى العالمي، معترِفاً بأنّ موراكامي قد صنع لنفسه اسماً لامعاً على خريطة الأدب العالمي، ومشيراً - والكلام هنا لكيرش - إلى أنّ كلام كينزابورو أوي يعدّ إشارة مُبطّنة إلى أنّ نجاح موراكامي الساحق راجعٌ في الأساس إلى سهولة لغته وبساطة سرده، لا إلى عمق أفكاره، ولا إلى ارتباطها بالحضارة والتراث اليابانييْن، مثلما فعل ياسوناري كاواباتا، أو يوكيو ميشيما، وكأنّ موراكامي يكتب «سلعةً مخصصة للتصدير للخارج».

بالونة اختبار
والحقيقة أنّ كيرش في كتابه لا يُقدّم إجابات، بقدر ما يطرح أسئلة. يتساءل كيرش: هل موراكامي هو بالونة اختبار، هدفها الخفيّ فحص فكرة تصميم وتنفيذ مشروع أدب عالميّ وجماليّ موحّد؟ فعندما يؤلف روائيّ كتباً تحظى بشعبية طاغية في طوكيو ولوس أنجلس وأثينا وربما في العالم العربي، هل يثبت بذلك أن الحياة في القرن الحادي والعشرين، في كل هذه الأماكن متشابهة حدّ التطابق؟
فشخصيات موراكامي تعاني اغتراباً عميقاً، وعزلة شديدة عن نفسها وعن العالم، كما تعاني جوعاً عاطفياً، أبطال الرواية، تينغو وأوماما وكوماتسو انطوائيون، ليست لهم روابط عائلية أو صداقات حقيقية، يعمل بعضهم في وظائف لأنهم مضطرون إلى العمل، يعيشون في شقـق صغيرة أشبه بجحور الفئران، يطبخون لأنفسهم، ونادراً ما يخرجون إلى الحانات أو المطاعم. أليس هذا هو نمط الحياة الرأسمالية؟ أليس هذا النمط من الحياة ترجمة وافية للحُلم الأمريكي، الحُلم الذي يطحن البشر ويسحقهم في ماكينة «هل من مزيد؟».
يُقارب كيرش مثالاً آخر هو الروائي الشيلي الراحل روبرتو بولانيو (1953-2003)، وروايته الضخمة 2666، ذات الـ 2000 صفحة، والتي نُشِرت سنة 2004 بعد وفاة بولانيو.

نموذج صارخ
ويرى كيرش في هذه الرواية نموذجاً مقابلاً، نموذجاً صارخاً في البرية ضدّ وحشية العولمة، وضد محو الخصوصيات الثقافية والحضارية لبلدان العالم، بهدف إثبات هويّة عالمية واحدة. فهي الرواية العالمية التي تسعى إلى تشخيص الاضطراب الذي ضرب القرن العشرين.
وبقدر ما يشتغل بولانيو في هذه الرواية على المستوى العالمي من خلال الاستعارات، بقدر ما يبرز موضوع الخطّة العالمية لتذويب الفوارق بين الثقافات ومحوها، مؤكداً وجهة نظره، ومن ورائه وجهة نظر العالم الثالث الذي ينتمي إليه بولانيو، أنّ العالم الذي يكتب عنه هو عالم يموج بالاضطرابات المصنوعة عمداً، فيسوق أمثلةً تتراوح بين هولوكوست هتلر في أربعينيات القرن الماضي، وجرائم قتل النساء في التسعينيات بالمكسيك، وارتباط ذلك بقوى إجرامية عالمية عاتية. 
نكتشف بعد الانتهاء من قراءة الكتاب أنّ كيرش - في معرض تحليله للروايات التي اختارها نموذجاً - لم يكن معنياً بالدرجة الأولى بالأخطار العالمية كالحروب، والصراعات السياسية وغيرها كمؤثرات خارجية على الأدب، بقدر ما كان تركيزه منصبّاً على معاناة الفرد الصغير في مواجهة العالم الكبير، وعلى رغبة القوى العالمية في الهيمنة، وعلى فرض رؤيتها للعالم على العالم، فتستأصل في طريقها لتحقيق تلك الغاية، جذور الإنسان التي تربطه بوطنه وبثقافته■