توقيت الفكرة

توقيت الفكرة

لا أعتقد أنه يوجد كاتب، خصوصاً كتاب المقالات اليومية، لا يعاني مشكلة التوقيت السيئ لوصول الأفكار الجيدة ومعاناة محاولة تذكرها بالدقة التي هبطت فيها أول مرة، الفكرة هي التي تحجز مواعيد وصولها ومغادرتها وليس الكاتب، والتحضير لها لا يجدي نفعاً مثل تحضير طاولة الطعام للضيوف أو تجهيز حقائب السفر.
الفكرة الجيدة متآمرة على الكاتب بامتياز لأنها تجتاح عقله في أوقات حرجة، قبل النوم مثلاً، أو خلال مناسبة لا يصح الاختفاء فيها ولو لدقيقة، وإحدى صور العذاب الذهني التي يعاني منها الكاتب هي صعوبة استعادة الفكرة بنفس تفاصيلها، وتعسر ولادة فكرة جديدة لانغلاق بوابة الإلهام بجزيئات الفكرة المتآمرة. العذاب الآخر يتجلى حين يقفز الكاتب من فراشه للحاق بطرف الفكرة الهاربة، فلا ينال منها غير سطر واحد وربما كلمة.
بعض الكتّاب يبحثون عن الصفاء الذهني من خلال السهر، وهذا الأمر قد يبدو للوهلة الأولى خياراً جيداً، لأن الليل مرتبط بتفشي حالة السبات العام حتى بدء دورة الحياة في الصباح الباكر، ولكن هل هذا الخيار متاح لجميع الكتاب؟ لا بالتأكيد، فمن يستطيع اليوم العيش من الكتابة وحدها من دون وظيفة وعمل هو في الغالب لا علاقة له بعالم الكتابة؟
الفرضية السابقة تقابلها فرضية تناقضها بالكامل، وهي حرص الكاتب على الاندماج في صخب الحياة ولجَّة العمل لتحفيز بيئة العقل على صياغة الأفكار الجديدة، لأن الأمكنة المزدحمة أو الفضاءات الخاوية على السواء يحملان الكثير من الإشارات والمضامين التي تنتظر من الكاتب النابه الالتفات إليها.
يبقى أمر غاية في الأهمية وهو المخزون المعرفي، فأين المخزون المعرفي من كل ما سبق؟ أليس له دور في إنتاج الأفكار الجديدة والمعدلة؟ هذا المخزون بداية يحتاج أولاً إلى ذاكرة قوية للاستعادة السريعة، وثانياً إلى آلية معالجة تفصل بين إعادة إنتاج القديم في قوالب جديدة وبين تكوين فكرة جديدة بالكامل، لأن تعبئة المقالات بما قيل وكتب أمر سهل وطريقة يفضلها «تجار شنطة المقالات» الذين يكتبون بقلم واحد لصحف ومجلات عدة. 
ختاماً، ساهم التطور التكنولوجي في الإيقاع بكثير من الأفكار الجيدة، وذلك من خلال التدوين الفوري على الهواتف المحمولة بما توفره من دفاتر رقمية مرتبة للكتابة؛ سواء أتت الفكرة بمفردها أو بصحبة طوفان من الأفكار■