الإنسان... من حلم المساواة إلى صراع البقاء والرفاهية

الإنسان... من حلم المساواة  إلى صراع البقاء والرفاهية

انتظمت حياة البشر في عصور تاريخية سحيقة بظهور المدن، ومن هنا بدأ العالم يعرف الحياة المدنية، وعرفت مصر  وبلاد الرافدين الدول حوالي 3500 قبل الميلاد، وسرعان ما أعقب ذلك تطور مماثل في ضفاف النهر الأصفر (هونغ هو) وفي نهر السند والبيرو وأمريكا الوسطى.

 

ربط‭ ‬بعض‭ ‬العلماء‭ ‬قيام‭ ‬الدول‭ ‬بتطور‭ ‬وسائل‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬السكان،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬الربط‭ ‬لا‭ ‬يمكّننا‭ ‬أثرياً‭ ‬من‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬المؤسسات‭ ‬العسكرية‭ ‬والشرطة‭ ‬في‭ ‬البقايا‭ ‬الأثرية‭ ‬للمجتمعات‭ ‬البدائية،‭ ‬بينما‭ ‬سعى‭ ‬اتجاه‭ ‬آخر‭ ‬إلى‭ ‬اتخاذ‭ ‬بعض‭ ‬الصفات‭ ‬كدلالة‭ ‬على‭ ‬الحضارة،‭ ‬مثل‭ ‬الكتابة‭ ‬والحِرف‭ ‬ذات‭ ‬الصبغة‭ ‬الفنية‭ ‬وبعض‭ ‬أوجه‭ ‬الثقافة‭ ‬التي‭ ‬يتم‭ ‬إنتاجها‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬المتخصصين،‭ ‬لكن‭ ‬مايكل‭ ‬هوفمان‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬أهم‭ ‬الصفات‭ ‬البارزة‭ ‬التي‭ ‬تنتج‭ ‬عن‭ ‬عملية‭ ‬الانتقال‭ ‬المعقدة‭ (‬التمدن‭) ‬هي‭ ‬ظهور‭ ‬مجموعات‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تركيز‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬أيديهم،‭ ‬أي‭ ‬كل‭ ‬مقومات‭ ‬الدولة؛‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬المعابد،‭ ‬والاحتفالات‭ ‬العامة،‭ ‬والحروب،‭ ‬والعمارة‭ ‬الرسمية،‭ ‬والتجارة،‭ ‬وحتى‭ ‬النظم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬حيث‭ ‬تظهر‭ ‬النخبة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تجسيد‭ ‬القوة‭ ‬ودوامة‭ ‬المركزية‮»‬،‭ ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬فنون‭ ‬الحضارة‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬جوهر‭ ‬الدولة‭ (‬المجتمع‭)‬،‭ ‬لكنها‭ ‬مجرد‭ ‬ظاهرة‭ ‬ثانوية‭ ‬تختلف‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬ففي‭ ‬حين‭ ‬يعتقد‭ ‬معظم‭ ‬الباحثين‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬تتطور‭ ‬مع‭ ‬تطور‭ ‬المدن،‭ ‬فإن‭ ‬المدن‭ ‬ليست‭ ‬دائماً‭ ‬ضرورية‭ ‬لنشأة‭ ‬الدول،‭ ‬فالإمبراطورية‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬أدغال‭ ‬كمبوديا‭ ‬تكونت‭ ‬أساساً‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬المدن،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تمتلك‭ ‬مراكز‭ ‬إدارية‭ ‬رسمية،‭ ‬وبالمثل‭ ‬فإن‭ ‬المغول‭ ‬الرُّحّل‭ ‬بقيادة‭ ‬جنكيز‭ ‬خان‭ ‬أنشأوا‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬الإمبراطوريات‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬المدن‭.‬

لكن‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬التسلسل‭ ‬الهرمي‭ ‬للمجتمع،‭ ‬عكس‭ ‬القبيلة‭ ‬أو‭ ‬المجتمع‭ ‬البدائي‭ ‬الذي‭ ‬يوجد‭ ‬فيه‭ ‬مستوى‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬المواد‭ ‬الغذائية‭ ‬لهذا‭ ‬المجتمع،‭ ‬ذلك‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬يقيم‭ ‬فيه‭ ‬الرئيس‭ ‬جنباً‭ ‬إلى‭ ‬جنبه‭ ‬مع‭ ‬رفاقه‭ ‬والحرفيين‭ ‬والخدم‭.‬

 

تسلسل‭ ‬هرمي

في‭ ‬الدولة‭ ‬هناك‭ ‬مستويات‭ ‬متعددة‭ ‬للسلطة‭ ‬معقدة‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تركيز‭ ‬القوة‭ (‬السيطرة‭) ‬التي‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬زيادة‭ ‬أكبر‭ ‬في‭ ‬الإنتاج‭ ‬وتنوع‭ ‬في‭ ‬أدوات‭ ‬الإنتاج‭ ‬وتبادل‭ ‬سلعي‭ ‬وقيم‭ ‬روحية،‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬تسلسل‭ ‬هرمي‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬ويلفت‭ ‬إلى‭ ‬ظهور‭ ‬عدم‭ ‬المساواة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬بين‭ ‬الصيادين‭ ‬والفلاحين‭ ‬والتجار‭ ‬ورجال‭ ‬الدين‭ ‬وممثلي‭ ‬السلطة‭ ‬والإدارة،‭ ‬وهذا‭ ‬كله‭ ‬يؤشر‭ ‬إلى‭ ‬هرمية‭ ‬السلطة‭ ‬والمجتمع‭.‬

لكن‭ ‬حلم‭ ‬المساواة‭ ‬بقي‭ ‬يراود‭ ‬البشرية‭ ‬منذ‭ ‬أفلاطون،‭ ‬ونرى‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أفلاطون،‭ ‬حيث‭ ‬حاول‭ ‬هؤلاء‭ ‬الحالمون‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬التمييز‭ ‬الاجتماعي‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬مجتمع‭ ‬غير‭ ‬هرمي،‭ ‬لكن‭ ‬علماء‭ ‬الاجتماع‭ ‬والأنثروبولوجيا‭ ‬توصلوا‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لمجتمع‭ ‬معقّد‭ ‬أو‭ ‬مجموعة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬داخل‭ ‬مجتمع‭ ‬متكامل‭ ‬أن‭ ‬ينفصلوا‭ ‬عن‭ ‬التنظيمات‭ ‬الهرمية،‭ ‬فكل‭ ‬المجتمعات‭ ‬الصناعية‭ ‬المعاصرة‭ ‬تبدو‭ ‬معقدة‭ ‬للغاية،‭ ‬حيث‭ ‬إنها‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬غياب‭ ‬البنية‭ ‬الهرمية‭ ‬أو‭ ‬التسلسل‭ ‬الهرمي‭ ‬للمجتمع‭. ‬وهناك‭ ‬بعض‭ ‬المجتمعات‭ ‬الصغيرة‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬ربما‭ ‬ينجحون‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬مجتمعات‭ ‬متساوية‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬هرمية،‭ ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬الفئات‭ ‬المجتمعية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتجاوز‭ ‬أعدادها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬بضع‭ ‬مئات‭ ‬من‭ ‬الأشخاص،‭ ‬ويتم‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬عدم‭ ‬تطوير‭ ‬بعض‭ ‬أشكال‭ ‬التسلسل‭ ‬الهرمي‭.‬

إن‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬تحاول‭ ‬الصمود‭ ‬أمام‭ ‬التأثيرات‭ ‬السلبية‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬المصالح‭ ‬المتباينة‭ ‬والشخصيات‭ ‬الدينية‭ ‬وتضارب‭ ‬الأولويات،‭ ‬تدين‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬استمراريتها‭ ‬إلى‭ ‬منتجات‭ ‬حديثة‭ ‬ونظم‭ ‬جديدة‭ ‬حصلوا‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬المجتمعات‭ ‬الهرمية‭ ‬التي‭ ‬يفرون‭ ‬منها،‭ ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬عزلتهم‭ - ‬على‭ ‬غرار‭ ‬جماعة‭ ‬التكفير‭ ‬والهجرة‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬خلال‭ ‬حقبة‭ ‬السبعينيات‭ - ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬إنتاج‭ ‬السيارات‭ ‬والطاقة‭ ‬والخدمات‭ ‬الطبية‭ ‬والعلم،‭ ‬فمن‭ ‬دون‭ ‬التنظيم‭ ‬الهرمي‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬تقييد‭ ‬لرغبات‭ ‬الناس‭ ‬والسلوك‭ ‬الفردي،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬هذه‭ ‬القيود‭ ‬ستكون‭ ‬النتيجة‭ ‬هي‭ ‬الفوضى‭ ‬الثقافية‭.‬

 

النمط‭ ‬القبلي

في‭ ‬مجتمع‭ ‬المساواة‭ ‬المطلقة‭ ‬بكل‭ ‬بساطة،‭ ‬سيكون‭ ‬لكل‭ ‬عامل‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬توليد‭ ‬الكهرباء‭ ‬تحديد‭ ‬ما‭ ‬ينبغي‭ ‬إنتاجه‭ ‬من‭ ‬الكهرباء‭ ‬ولمن‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تذهب،‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أن‭ ‬المجتمعات‭ ‬المتساوية‭ ‬ستجد‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬العيش‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬المنتجات‭ ‬الحديثة‭ ‬والخدمات،‭ ‬إذاً‭ ‬فوجود‭ ‬المجتمعات‭ ‬يتوقف‭ ‬على‭ ‬وجود‭ ‬التسلسل‭ ‬الهرمي،‭ ‬لكن‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر،‭ ‬نرى‭ ‬الناس‭ ‬ينظرون‭ ‬إلى‭ ‬التنظيمات‭ ‬الهرمية‭ ‬نظرة‭ ‬جامحة،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬القرارات‭ ‬الصادرة‭ ‬عنها‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬بطرق‭ ‬تجعلهم‭ ‬يشعرون‭ ‬بالاستياء،‭ ‬فجميعنا‭ ‬يعاني‭ ‬التلوث‭ ‬والنفايات‭ ‬السامة‭ ‬والتعدي‭ ‬على‭ ‬الأراضي‭ ‬الزراعية‭ ‬المنتجة‭ ‬للغذاء‭ ‬وتحويلها‭ ‬إلى‭ ‬مبانٍ،‭ ‬فهل‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬النمط‭ ‬القبلي‭ ‬هو‭ ‬الحل؟

يروّج‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬تنظيم‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭ ‬هو‭ ‬الحل‭ ‬العملي‭ ‬الوحيد،‭ ‬ولكن‭ ‬لن‭ ‬يتم‭ ‬تفعيل‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬بالتسلسل‭ ‬الهرمي،‭ ‬الذي‭ ‬قاد‭ ‬المجتمعات‭ ‬القديمة‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬الدولة،‭ ‬هنا‭ ‬ينطق‭ ‬علماء‭ ‬الآثار‭ ‬للبحث‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬المجتمعات‭ ‬القديمة‭ ‬وتطورها‭.‬

في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬مناطق‭ ‬العالم‭ ‬نجح‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬الكبار؛‭ ‬سواء‭ ‬اجتماعياً‭ ‬كرؤساء‭ ‬قبائل‭ ‬أو‭ ‬عشائر،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬كبار‭ ‬في‭ ‬السن‭ ‬لديهم‭ ‬
هيبة‭ / ‬حكمة‭ ‬في‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬قيادة‭ ‬مجتمعاتهم،‭ ‬وأن‭ ‬يعيدوا‭ ‬تنظيمها،‭ ‬وكان‭ ‬القائد‭ ‬يعيد‭ ‬صياغة‭ ‬المجتمع‭ ‬وفق‭ ‬ظروف‭ ‬المجتمع‭ ‬ووفق‭ ‬رؤيته‭ ‬للسلطة،‭ ‬ويصاحب‭ ‬هذا‭ ‬إعادة‭ ‬توزيع‭ ‬الثروة‭.‬

كان‭ ‬زعماء‭ ‬القبائل‭ ‬يقيمون‭ ‬تحالفات‭ ‬فيما‭ ‬بينهم،‭ ‬لكنها‭ ‬كانت‭ ‬مؤقتة،‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬خضع‭ ‬بعضهم‭ ‬بالقوة‭ ‬لأحدهم،‭ ‬هنا‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬التجربة‭ ‬التاريخية‭ ‬تذكر‭ ‬أن‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬تولى‭ ‬قيادتها‭ ‬زعيم‭ ‬وجدوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬يتحركون‭ ‬إلى‭ ‬أسلوب‭ ‬جديد‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬التنظيمات‭ ‬الأكثر‭ ‬تعقيداً‭ ‬التي‭ ‬ورثوها؛‭ ‬نابليون‭ ‬بونابرت‭ / ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬وجود‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬حجمها‭ ‬وتعقيدها‭ ‬وسلطتها،‭ ‬كان‭ ‬ابتكاراً،‭ ‬لكنها‭ ‬دائماً‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬ماسة‭ ‬إلى‭ ‬التحديث‭ ‬والتغير‭ ‬لتواكب‭ ‬متغيرات‭ ‬المجتمعات‭ ‬وتطوراتها‭.‬

 

الخطاب‭ ‬الإقناعي

لكن‭ ‬هناك‭ ‬شيئاً‭ ‬ما‭ ‬غيّر‭ ‬من‭ ‬سلوكيات‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات،‭ ‬بسببه‭ ‬تم‭ ‬اجتياز‭ ‬حواجز‭ ‬المساواة،‭ ‬وسيوافق‭ ‬غالبية‭ ‬المجتمع‭ ‬على‭ ‬مبادئ‭ ‬عدم‭ ‬المساواة،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الموارد‭ ‬الطبيعية،‭ ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬النخب‭ ‬الحاكمة‭ ‬تكون‭ ‬عادة‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬يمكنها‭ ‬من‭ ‬الضغط‭ ‬لزيادة‭ ‬سيطرتها،‭ ‬لكن‭ ‬الجديد‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬الإقناعي‭ ‬التبريري،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يستمرون‭ ‬فيه‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬وسائل‭ ‬جديدة‭ ‬لزيادة‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬العائدات‭ ‬والخدمات‭ ‬والسلع،‭ ‬مما‭ ‬يجعلهم‭ ‬يحصلون‭ ‬على‭ ‬تأييد‭ ‬مؤيديهم‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتهم‭ ‬وغير‭ ‬مجتمعاتهم‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء،‭ ‬قس‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬النجاح‭ ‬الذي‭ ‬حققه‭ ‬رجب‭ ‬طيب‭ ‬أردوغان‭ ‬اقتصادياً‭ ‬في‭ ‬تركيا،‭ ‬مما‭ ‬جعله‭ ‬يحظى‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬ما‭ ‬بشعبية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭.‬

لكن‭ ‬هذا‭ ‬السعي‭ ‬نحو‭ ‬الاقتصاد‭ ‬يجعل‭ ‬الطبقات‭ ‬الحاكمة‭ ‬عبر‭ ‬العصور‭ ‬تقدم‭ ‬للطبقات‭ ‬الأخرى‭ ‬المستضعفة‭ ‬سياسات‭ ‬تبريرية،‭ ‬أو‭ ‬تجبرها‭ ‬على‭ ‬الخضوع‭ ‬أو‭ ‬الخنوع‭ ‬أو‭ ‬الاستلاب‭ ‬أو‭ ‬التضحية،‭ ‬فنرى‭ ‬تارة‭ ‬العبودية‭ ‬وتارة‭ ‬السخرة‭ ‬وتارة‭ ‬الوقوع‭ ‬تحت‭ ‬سحر‭ ‬الإعلام،‭ ‬هنا‭ ‬الاستغلال‭ ‬هو‭ ‬سمة‭ ‬السلطة‭ ‬عبر‭ ‬العصور،‭ ‬لذا‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬تخيّل‭ ‬أي‭ ‬نظام‭ ‬هرمي‭ ‬يعمل‭ ‬بصورة‭ ‬معقدة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬استغلال‭.   

إن‭ ‬الحاجز‭ ‬القوي‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬أي‭ ‬دولة‭ ‬هو‭ ‬قيم‭ ‬المساواة،‭ ‬هنا‭ ‬نستدعي‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬كيف‭ ‬استطاع‭ ‬كبار‭ ‬رجال‭ ‬الدولة‭ ‬والرؤساء‭ ‬أن‭ ‬يتعاملوا‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬القيم،‭ ‬فنجد‭ ‬في‭ ‬البيئات‭ ‬ذات‭ ‬الإمكانات‭ ‬الكبيرة‭ ‬لإنتاج‭ ‬الغذاء‭ ‬مثل‭ ‬الشرق‭ ‬الأدنى‭ (‬مصر‭ ‬والعراق‭) ‬وحوض‭ ‬النهر‭ ‬الأصفر‭ ‬في‭ ‬الصين،‭ ‬أن‭ ‬كبار‭ ‬الرجال‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أصبحوا‭ ‬رؤساء،‭ ‬والرؤساء‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أصبحوا‭ ‬ملوكاً،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المناطق‭ ‬حاول‭ ‬الرؤساء،‭ ‬بسهولة،‭ ‬ابتكار‭ ‬وسائل‭ ‬لكسب‭ ‬المزيد‭ ‬والمزيد‭ ‬من‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬الإنتاج‭ ‬المحتمل‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬والأرض،‭ ‬كما‭ ‬حاولوا‭ ‬التوسع‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬غزو‭ ‬الأراضي‭ ‬المجاورة،‭ ‬لتنمو‭ ‬ثرواتهم،‭ ‬وحاولوا‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬رعاياهم‭ ‬بكل‭ ‬الطرق،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التودد‭ ‬إليهم‭ ‬تارة‭ ‬وإقناعهم‭ ‬تارة‭ ‬أخرى،‭ ‬وإكراههم‭ ‬أحياناً،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬العمل‭ ‬بجد‭ ‬وبمعدل‭ ‬أكبر‭.‬

 

ديناميكية‭ ‬التجارة‭ ‬

لكن‭ ‬علماء‭ ‬الاجتماع‭ ‬يذهبون‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬القرى‭ ‬المتساوية‭ ‬ربما‭ ‬سينتجون‭ ‬أكثر،‭ ‬لكن‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬فرصة‭ ‬للمتعة،‭ ‬والوضع‭ ‬الأصعب‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرعايا‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬يعملون‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬شاقة‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬لمجرد‭ ‬البقاء‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬نجد‭ ‬آخرين‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬ذاتها‭ ‬أخلصوا‭ ‬في‭ ‬أعمالهم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬السلطة‭ ‬والثروة،‭ ‬بهدف‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬المعيشة‭.‬

هنا‭ ‬الحاكم‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الموارد‭ ‬في‭ ‬منطقته،‭ ‬ولابد‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬بأقصى‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الفاعلية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حشد‭ ‬طاقات‭ ‬جميع‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬يسيطر‭ ‬عليها،‭ ‬وبعبارة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تنظيم‭ ‬منطقته‭ ‬كدولة،‭ ‬هنا‭ ‬يبرز‭ ‬تنظيم‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬مؤسسات‭ ‬وجماعات‭ ‬وأفراد‭ ‬يتبادلون‭ ‬المصالح،‭ ‬وهنا‭ ‬تبرز‭ ‬ديناميكية‭ ‬شبكات‭ ‬التجارة‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬التجارة‭ ‬بين‭ ‬العراق‭ ‬وبلاد‭ ‬السند،‭ ‬ومصر‭ ‬وشمال‭ ‬إفريقيا‭ ‬وبلاد‭ ‬الشام،‭ ‬ونرى‭ ‬أفضل‭ ‬الجيوش‭ ‬تجهيزاً‭ ‬وأكثر‭ ‬الأنظمة‭ ‬فاعلية‭ ‬في‭ ‬جمع‭ ‬المعلومات،‭ ‬هذه‭ ‬التنظيمات‭ ‬كانت‭ ‬ضرورية‭ ‬لحماية‭ ‬الدول‭ ‬والمجتمعات‭ ‬من‭ ‬الآخر‭.‬

 

تقنيات‭ ‬التحكم

كيف‭ ‬نجحت‭ ‬الطبقات‭ ‬الحاكمة،‭ ‬إذن،‭ ‬في‭ ‬إحكام‭ ‬قبضتها؟‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تقنيات‭ ‬السيطرة‭ ‬تختلف‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬وفقاً‭ ‬للظروف‭ ‬المحلية‭ ‬وتفاوت‭ ‬الفرص،‭ ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬أحد‭ ‬الأساليب‭ ‬القديمة‭ ‬هي‭ ‬الفصل‭ ‬بين‭ ‬طبقات‭ ‬المجتمع،‭ ‬وهو‭ ‬أسلوب‭ ‬شعبي‭ ‬معروف‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬الصغيرة‭ ‬ذات‭ ‬الهرمية‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬طبقة‭ ‬أعلى‭ ‬وطبقات‭ ‬أقل،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬زواج‭ ‬بين‭ ‬الطبقتين‭ ‬فسيكون‭ ‬الطلاق‭ ‬هو‭ ‬الحل،‭ ‬لانتماء‭ ‬أحد‭ ‬الزوجين‭ ‬إلى‭ ‬طبقة‭ ‬دنيا،‭ ‬فهذا‭ ‬الزواج‭ ‬سيسبب‭ ‬خللاً‭ ‬في‭ ‬هرمية‭ ‬هذه‭ ‬الطبقات،‭ ‬لذا‭ ‬نجد‭ ‬الحكام‭ ‬يحدّون‭ ‬من‭ ‬الامتداد‭ ‬الفعال‭ ‬لوحدات‭ ‬القرابة،‭ ‬لأن‭ ‬هؤلاء‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬فاعلين‭ ‬في‭ ‬المزاحمة‭ ‬على‭ ‬سلطة‭ ‬رئيس‭ ‬العشيرة،‭ ‬ويمكن‭ ‬إحداث‭ ‬اقتتال‭ ‬داخلي‭ ‬قد‭ ‬يعيد‭ ‬ترتيب‭ ‬الأوضاع‭ ‬الداخلية‭.‬

وهناك‭ ‬طريقة‭ ‬واحدة‭ ‬لتنظيم‭ ‬المجتمعات‭ ‬في‭ ‬الدول،‭ ‬هي‭ ‬تقسيمها‭ ‬إلى‭ ‬طبقات‭ ‬أو‭ ‬طوائف‭ ‬وفقاً‭ ‬لوظائفهم،‭ ‬ويلعب‭ ‬الدين‭ ‬هنا‭ ‬دوراً‭ ‬مهماً،‭ ‬وكذا‭ ‬الرقص‭ ‬والرياضة‭ ‬والحرف‭ ‬والجماعات‭ ‬التطوعية،‭ ‬وهذه‭ ‬الأنشطة‭ ‬لا‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬الأقارب،‭ ‬ولكنها‭ ‬كانت‭ ‬مفيدة‭ ‬في‭ ‬الحد‭ ‬من‭ ‬الثورات‭ ‬والخلافات‭ ‬بين‭ ‬الأقارب‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬أو‭ ‬الثروة‭ ‬أو‭ ‬النفوذ‭ ‬السياسي‭. ‬

القرابة‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬السلطة‭ ‬والنفوذ‭ ‬والتغييرات‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬درجة‭ ‬القرابة‭ ‬أو‭ ‬البعد‭ ‬ليست‭ ‬كافية‭ ‬لإحداث‭ ‬تقييم‭ ‬حقيقي‭ ‬للسلطة‭ ‬والنفوذ،‭ ‬فالتحوّلات‭ ‬الفكرية‭ ‬تتجه‭ ‬بالمجتمع‭ ‬نحو‭ ‬هيكلة‭ ‬السلطة‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬منسجمة‭ ‬أيضاً‭ ‬مع‭ ‬المعطيات‭ ‬البيئية‭.‬

 

حضارات‭ ‬سلطوية‭ ‬

هناك‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬معطيات‭ ‬تركيز‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬الحضارات‭ ‬الأولى‭ ‬الكبرى‭ ‬كمصر‭ ‬والعراق‭ ‬والصين،‭ ‬فتنظيم‭ ‬الري‭ ‬وتوزيع‭ ‬المياه‭ ‬أديا‭ ‬إلى‭ ‬نشوء‭ ‬حضارات‭ ‬سلطوية‭ ‬مركزية،‭ ‬وفى‭ ‬المناطق‭ ‬القاحلة‭ ‬كشبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬أدت‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬المياه‭ ‬إلى‭ ‬سطوة‭ ‬القبائل‭ ‬المسيطرة‭ ‬عليها‭.‬

في‭ ‬مملكة‭ ‬سومر‭ ‬وبيرو،‭ ‬تطورت‭ ‬ثقافة‭ ‬ارتبطت‭ ‬بالري‭ ‬بدرجة‭ ‬غير‭ ‬عادية،‭ ‬وارتبطت‭ ‬بالطبقة‭ ‬الحاكمة‭ ‬التي‭ ‬سيطرت‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬الناس،‭ ‬وفي‭ ‬هاتين‭ ‬المنطقتين‭ ‬دفن‭ ‬الملوك‭ ‬مع‭ ‬ثروات‭ ‬كبيرة‭ ‬ومئات‭ ‬الخدم،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬أور‭ ‬بالعراق‭. ‬إن‭ ‬تطور‭ ‬المعرفة‭ ‬عبر‭ ‬الرحلة‭ ‬والتنقل‭ ‬خلق‭ ‬تبادلاً‭ ‬تجارياً‭ ‬للبضائع‭ ‬مكّن‭ ‬من‭ ‬تراكم‭ ‬الثروة‭ ‬بيد‭ ‬الطبقات‭ ‬الحاكمة،‭ ‬فأريحا‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬ذات‭ ‬ثروة،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬مجرد‭ ‬واحة‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬الممتد‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬لمصر‭ ‬ومن‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬لبلاد‭ ‬الأناضول،‭ ‬فالمحيط‭ ‬البيئي‭ ‬لأريحا‭ ‬جاف‭ ‬قحل‭ ‬جبلي،‭ ‬حيث‭ ‬يؤدي‭ ‬ممر‭ ‬ضيق‭ ‬إليها،‭ ‬لذا‭ ‬كانت‭ ‬قوافل‭ ‬التجارة‭ ‬تمرّ‭ ‬عبرها،‭ ‬ولهذا‭ ‬فرضت‭ ‬رسوم‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬البضائع‭ ‬التجارية،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬المصادفة‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬كاثلين‭ ‬كينيون‭ ‬أقدم‭ ‬التحسينات‭ ‬الضخمة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬بأريحا،‭ ‬التي‭ ‬يرجع‭ ‬تاريخها‭ ‬إلى‭ ‬الفترة‭ ‬بين‭ ‬7‭ ‬و9‭ ‬آلاف‭ ‬سنة‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬ويدل‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬أقدم‭ ‬مدينة‭ ‬نمت‭ ‬على‭ ‬التجارة‭ ‬العابرة‭ ‬للحدود،‭ ‬كما‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬ثرواتها‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مطمعاً‭ ‬للأعداء،‭ ‬فتعرضت‭ ‬مراراً‭ ‬للهجوم‭ ‬والحرق‭.‬

وهنا‭ ‬نقف‭ ‬على‭ ‬عامل‭ ‬محدد‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تقدم‭ ‬المجتمعات‭ ‬ونمو‭ ‬سطوة‭ ‬الدولة،‭ ‬وهو‭ ‬التخصص‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬إيجاد‭ ‬تكنولوجيا‭ ‬جديدة‭ ‬طوال‭ ‬الوقت،‭ ‬فتطورت‭ ‬السكين‭ ‬الحجرية‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬السحيقة‭ ‬لسيف‭ ‬أو‭ ‬خنجر،‭ ‬تطلّب‭ ‬مهارة‭ ‬خاصة‭ ‬وتركيز‭ ‬متخصصين‭ ‬يجيدون‭ ‬هذه‭ ‬الحرفة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أدوات‭ ‬تتطلب‭ ‬في‭ ‬صناعتها‭ ‬أو‭ ‬إعدادها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬متخصص،‭ ‬كورق‭ ‬البردي‭ ‬الذي‭ ‬يحصده‭ ‬الفلاح،‭ ‬ويعده‭ ‬صانع‭ ‬للكتابة،‭ ‬بينما‭ ‬يعد‭ ‬صانع‭ ‬آخر‭ ‬الحبر،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬ثالث‭ ‬يعد‭ ‬القلم،‭ ‬لكي‭ ‬يستخدم‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬كاتب‭ ‬الفرعون‭ ‬هذا‭ ‬الورق‭ ‬للتدوين،‭ ‬فهذه‭ ‬السلسلة‭ ‬من‭ ‬المتخصصين‭ ‬عملت‭ ‬الدول‭ ‬على‭ ‬زيادة‭ ‬عددها،‭ ‬والتأكد‭ ‬من‭ ‬ولائهم‭ ‬لها،‭ ‬وبفضل‭ ‬المتخصصين‭ ‬استطاعت‭ ‬الطبقة‭ ‬الحاكمة‭ ‬إقامة‭ ‬علاقات‭ ‬اجتماعية‭ ‬وثيقة‭ ‬لتبادل‭ ‬المعلومات‭ ‬وتوطيد‭ ‬التحالفات‭ ‬التي‭ ‬رفعت‭ ‬من‭ ‬كفاءة‭ ‬أداء‭ ‬تنظيمات‭ ‬الدولة،‭ ‬التي‭ ‬تعضد‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬من‭ ‬قوة‭ ‬السلطة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬انعكس‭ ‬على‭ ‬تراتبية‭ ‬احترام‭ ‬المتخصصين،‭ ‬وعلى‭ ‬مدخولاتهم‭ ‬أيضاً،‭ ‬وكلما‭ ‬زاد‭ ‬عدد‭ ‬التخصصات‭ ‬مع‭ ‬التقدم‭ ‬العلمي،‭ ‬زادت‭ ‬الرفاهية‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭.‬

 

آليات‭ ‬جديدة

لكن‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬أخذت‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬كمنتج‭ ‬علمي،‭ ‬تأكل‭ ‬من‭ ‬هرمية‭ ‬الدول،‭ ‬وتهدد‭ ‬حتى‭ ‬آليات‭ ‬ممارسة‭ ‬السلطة،‭ ‬حتى‭ ‬رأينا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الوسائل‭ ‬تسقط‭ ‬أنظمة‭ ‬سياسية،‭ ‬أو‭ ‬قد‭ ‬تتسبب‭ ‬في‭ ‬إقالة‭ ‬مسؤول،‭ ‬فهل‭ ‬هناك‭ ‬آليات‭ ‬جديدة‭ ‬لممارسة‭ ‬نوع‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬المتبلور‭ ‬عبر‭ ‬الوسائط‭ ‬الإعلامية‭ ‬الجديدة؟

وسط‭ ‬كل‭ ‬هذا،‭ ‬تطل‭ ‬علينا‭ ‬القوة‭ ‬كأداة‭ ‬للسيطرة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الغزاة،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬تعد‭ ‬قضية‭ ‬السيطرة‭ ‬بالقوة‭ ‬أمراً‭ ‬معقداً،‭ ‬حيث‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬القبائل‭ ‬تمت‭ ‬السيطرة‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬بعضها‭ ‬البعض،‭ ‬لكن‭ ‬الوقائع‭ ‬التاريخية‭ ‬والمعطيات‭ ‬من‭ ‬علم‭ ‬الآثار‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬القوة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تقيّد‭ ‬بعض‭ ‬السلوكيات‭ ‬غير‭ ‬المرغوبة‭.‬

ولكن‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ذلك،‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬مساحات‭ ‬من‭ ‬التعاون‭ ‬مع‭ ‬النظام،‭ ‬فإذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المساحات‭ ‬مع‭ ‬النظام‭ ‬الحاكم،‭ ‬فلن‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬مجتمعات‭ ‬سوية‭ ‬آمنة،‭ ‬وستكون‭ ‬النتيجة‭ ‬الرحيل‭ ‬أو‭ ‬تدمير‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬فالناس‭ ‬هنا‭ ‬تفقد‭ ‬كل‭ ‬معاني‭ ‬القيم‭ ‬والدوافع‭ ‬والاهتمام‭ ‬تحت‭ ‬الإكراه‭ ‬والعنف،‭ ‬حيث‭ ‬يسيطر‭ ‬عليهم‭ ‬الشعور‭ ‬بالفتور‭ ‬والعزلة،‭ ‬فالظلم‭ ‬والضيق‭ ‬يؤديان‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬الارتياح،‭ ‬ونجد‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬الطموحين‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬يستغلون‭ ‬ذلك‭ ‬للنهوض‭ ‬بأوضاعهم‭ ‬البائسة،‭ ‬لكن‭ ‬هؤلاء‭ ‬هم‭ ‬نواة‭ ‬للتطرف‭ ‬والعنف‭ ‬ضد‭ ‬الدولة‭ ‬وضد‭ ‬المجتمع،‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬فإن‭ ‬الحراك‭ ‬الطبقي‭ ‬وفقاً‭ ‬للكفاءة‭ ‬لا‭ ‬المحسوبية‭ ‬أو‭ ‬الواسطة،‭ ‬هو‭ ‬الأداة‭ ‬التي‭ ‬تؤمّن‭ ‬السِّلم‭ ‬الدائم‭ ‬للمجتمع‭.‬

وهنا‭ ‬تبدو‭ ‬حقيقة‭ ‬واضحة‭: ‬الاعتماد‭ ‬المفرط‭ ‬على‭ ‬قوة‭ ‬السلاح‭ ‬وإهمال‭ ‬الحوافز‭ ‬الإيجابية،‭ ‬مسؤولان‭ ‬عن‭ ‬التشرذم‭ ‬السياسي‭ ‬المستفحل‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدول،‭ ‬يصاحب‭ ‬ذلك‭ ‬تدهور‭ ‬تدريجي‭ ‬للقيم‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والمكون‭ ‬الثقافي‭.‬

 

دور‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني

على‭ ‬مر‭ ‬التاريخ،‭ ‬تبدو‭ ‬فكرة‭ ‬السيطرة‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الإرهاب‭ ‬قصيرة‭ ‬الأجل،‭ ‬والتنظيمات‭ ‬الإرهابية‭ ‬لا‭ ‬يمتد‭ ‬عمرها‭ ‬إلا‭ ‬لعقود‭ ‬قليلة،‭ ‬لذا‭ ‬فالدول‭ ‬التي‭ ‬لديها‭ ‬وعي‭ ‬باحتياجات‭ ‬مجتمعاتها‭ ‬تتيح‭ ‬لهذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬إنتاج‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬الشراكات‭ ‬كالجمعيات‭ ‬المدنية‭ ‬أو‭ ‬المجالس‭ ‬العرفية‭ ‬أو‭ ‬التضامن‭ ‬المجتمعي‭ ‬الذي‭ ‬يكفل‭ ‬نوعاً‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬الحلول‭ ‬لمشكلات‭ ‬المجتمع،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬دور‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬ومنظماته‭ ‬الدولية‭ ‬يتصاعد‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬سلطة‭ ‬الدول،‭ ‬انظر‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬سلطة‭ ‬الاتحاد‭ ‬الدولي‭ ‬لكرة‭ ‬القدم‭ (‬فيفا‭) ‬على‭ ‬الاتحادات‭ ‬في‭ ‬الدول،‭ ‬ومدى‭ ‬استقلالية‭ ‬اتحادات‭ ‬الدول‭ ‬عن‭ ‬سلطة‭ ‬الدولة‭.‬

لكننا‭ ‬نقرر‭ ‬أيضاً‭ ‬أن‭ ‬التجارب‭ ‬التاريخية‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬احتمالاً‭ ‬واحداً‭ ‬لتحسين‭ ‬مستوى‭ ‬المعيشة‭ ‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬أهم‭ ‬دافع‭ ‬لتأييد‭ ‬الدولة،‭ ‬فالاحتمالات‭ ‬تمتاز‭ ‬بالسهولة،‭ ‬وتجعل‭ ‬الحياة‭ ‬أكثر‭ ‬متعة،‭ ‬مما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تحفيز‭ ‬القوة‭ ‬التي‭ ‬تقود‭ ‬مجتمعاتها،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬الدول‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬المنافسة‭ ‬والتطلع‭ ‬إلى‭ ‬التقدم،‭ ‬وعندما‭ ‬تصبح‭ ‬الدولة‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تلبية‭ ‬هذه‭ ‬الاحتمالات‭ ‬والتطلعات‭ ‬سيكون‭ ‬مآلها‭ ‬الفشل‭ ‬أو‭ ‬الانهيار‭.‬

بعد‭ ‬سبعة‭ ‬آلاف‭ ‬سنة‭ ‬ويزيد‭ ‬من‭ ‬الحضارة،‭ ‬استطاع‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬أسلافه،‭ ‬فشبكات‭ ‬المواصلات‭ ‬المتعددة‭ ‬جلبت‭ ‬لنا‭ ‬الأطعمة‭ ‬والمشروبات‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬بصورة‭ ‬جعلت‭ ‬الحياة‭ ‬غير‭ ‬رتيبة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬الإنسان‭ ‬المعاصر‭ ‬أكثر‭ ‬سعادة‭ ‬من‭ ‬ملك‭ ‬حكم‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الحجرية،‭ ‬وحلّت‭ ‬الآلات‭ ‬والروبوتات‭ ‬محل‭ ‬العبيد‭ ‬وقوتهم،‭ ‬وأصبحت‭ ‬حفلات‭ ‬الترفيه‭ ‬ببذخها‭ ‬في‭ ‬متناول‭ ‬الجميع،‭ ‬لكن‭ ‬هل‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬لديه‭ ‬قناعة‭ ‬ورضا‭ ‬عن‭ ‬حياته؟

 

القوة‭ ‬والثروة

إذا‭ ‬كنا‭ ‬نعيش‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬ملوك‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الإمكانات‭ ‬والرفاهية،‭ ‬فهل‭ ‬أيضاً‭ ‬النخب‭ ‬الحاكمة‭ ‬راضية،‭ ‬مع‭ ‬أنها‭ ‬تمتلك‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬
القوية‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية‭ ‬والثروة،‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬السيطرة‭ ‬وحـــب‭ ‬المـــزيد‭ ‬مـــن‭ ‬الثروة‭ ‬سـيهددان‭ ‬أمن‭ ‬الإنسان؟

إن‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالقوة‭ ‬كان‭ ‬محور‭ ‬اهتمام‭ ‬النخب‭ ‬الحاكمة‭ ‬التي‭ ‬شعرت‭ ‬بالحاجة‭ ‬إلى‭ ‬القوة‭ ‬جنباً‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬مع‭ ‬وسائل‭ ‬الضغط‭ ‬الاقتصادي‭ ‬المتزايد‭ ‬التي‭ ‬توفرها‭ ‬التجارة،‭ ‬ومما‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬الاعتماد‭ ‬المتزايد‭ ‬على‭ ‬المنتجات‭ ‬المتخصصة‭ ‬مثل‭ ‬الفؤوس‭ ‬والمحاريث‭ ‬المعدنية،‭ ‬كان‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬عوامل‭ ‬القوة‭ ‬الفاعلة‭ ‬وراء‭ ‬توطيد‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬القديمة،‭ ‬لذلك‭ ‬حاول‭ ‬قادة‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ذات‭ ‬ثروة،‭ ‬استنباط‭ ‬طرق‭ ‬لإنشاء‭ ‬قوة‭ ‬محاربة‭ ‬ثابتة‭ ‬لصد‭ ‬غارات‭ ‬الآخرين،‭ ‬فبدأت‭ ‬تظهر‭ ‬حدود‭ ‬محددة‭ ‬لهذه‭ ‬المجتمعات،‭ ‬الثقافة‭ ‬الحربية‭ ‬وتطور‭ ‬تقنيات‭ ‬القتال‭ ‬كان‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬مصر‭ ‬القديمة‭ ‬وسومر،‭ ‬فالأولى‭ ‬جعلها‭ ‬دولة‭ ‬مستمرة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬اختفت‭ ‬حضارة‭ ‬سومر،‭ ‬هنا‭ ‬يبدو‭ ‬الجيش‭ ‬معلماً‭ ‬أساسياً‭ ‬على‭ ‬نضوج‭ ‬الدولة،‭ ‬وتبدو‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬تطوير‭ ‬قوة‭ ‬الجيش،‭ ‬لضمان‭ ‬سيطرته‭ ‬وهيمنته،‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬فإن‭ ‬الجيش‭ ‬الأمريكي‭ ‬يقود‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬والأسلحة‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬ساحات‭ ‬قتال‭ ‬لتجربتها،‭ ‬ولبثّ‭ ‬الرعب‭ ‬لدى‭ ‬الخصوم‭ ‬لإخضاعهم‭ ‬بصورة‭ ‬غير‭ ‬مباشرة،‭ ‬فإلى‭ ‬أي‭ ‬مدى‭ ‬سيهدد‭ ‬تطور‭ ‬صناعة‭ ‬الأسلحة‭ ‬السِّلم‭ ‬المجتمعي‭ ‬الدولي؟‭ ■