الأديب الليبي محمد الشويهدي: لابدّ أن تكونَ للمبدع مهنةٌ فالإبداعُ لا يُطعمه سوى الإطراء
محمّد علي الشويهدي، كاتب وقاص وصحفي، حرّرَ وأسّسَ وترأس عدداً من الصحف والمجلات الليبية، وعلى رأسها «الحقيقة» و«الثقافة العربية» و«الموقف العربي».
وتقلّد عددًا من المناصب الإدارية الرسمية في بلده، من «رئيس تحرير» إلى مدير «الدار الجماهيرية للنشر» إلى مدير «المسرح الوطني» مناوبة لفترة في بنغازي إلى مدير «المؤسسة العامة للصحافة» ، ثم إلى أمين / وزير الإعلام والثقافة في ليبيا.
صدر لهُ عديد من المجموعات القصّصية، أهمّها بداية من: «أحزان اليوم الواحد» (1973 -بنغازي) ، فـــــي أربــــــع طــبعـــات، و«أقــــوال شاهد عِــــيان » -1976) طرابلس) و«صرخات في زمن الصمت » 1999 ) بيروت) ، و«كحل العين » ( - 1999 بيـــــروت) ، و«الموجة والرحــــــيـــــل » (2015 -القاهرة ، ( و«السوق القبلي... وقصص أخرى »( - 2017 طرابلس) ، ولديه ما هو قيد الطبع.
الشويهدي هو أحد رواد القصة القصيرة في ليبيا، ومؤسّس لأسلوب ولغة لا تنُسب إلا لهُ، منحاز إلى الإبداع أولًا، وإلى الكتابة الهادفة التي تشكّل إضافة مهمة لأدبنا وثقافتنا وإبداعنا، ورهانه الأبديّ على الكاتب الأصيل الذي لا يهادن، يجمّل الحياة بإبداعه الهادف، وينتصر على الزمن المراوغ في شذرات فكره، وسموّ أحلامه.
محمّد علي الشويهدي المسؤول والوزير السابق للثقافة في بلدهِ، خلع البدلة الدبلوماسية، كما فعل من قبله الشاعر الكبير نزار قبّاني، واختار الكتابة والإبداع ورفقة الإنسان البسيط، وأحب الحرية، والأصدقاء والسّفر، وكلّ ما يرتقي بالنفس المبدعة الطموح.
وفي هذا الحوار الدافئ لديه الكثير ممّا يقول:
• وزير الثقافة الأسبق، الصحفي والقاص والكاتب الليبي، محمّد علي الشويهدي، مرحبًا بك ضيفًا على صفحات مجلة العربي الكويتية الثقافية الفكرية الواسعة الانتشار.
- بداية أودّ أنْ أستهل حديثي بشكر مجلة العربي العريقة على استضافتي، وأتمنى عليها أن تنصفَ مبدعي المغرب العربي من أدباء وكتّاب وشعراء وتشكيليين وفنّانين بالاستضافة، ونشر إبداعاتهم ونشاطاتهم الثقافية على صفحاتها، وهي المجلة الثقافية/ الإبداعية الأكثر انتشارًا في الوطن العربي.
• لماذا لا يبادرُ مبدعو المغرب العربي بالتواصل؟
- هو عزوف المبدع الحقيقي، كبرياؤه تمنعه، تصوّر أنَّ معظم مبدعي المغرب العربي لا يُعرفون ولا يتواصلون مع نظرائهم في الخليج العربي، أيضًا المبدعون في الخليج العربي لا يُعرفون ولا يتواصلون.
قسْ على هذا المنوال - مع الأسف - في كل أنحاء الوطن العربي، باستثناء عاصمة الثقافة العربية مصر، ثم لبنان... قلْ لي: مَن يعرف العلّامة د. علي فهمي خشيم، والمؤرّخ الباحث الأديب علي مصطفى المصراتي، والكاتب المؤرّخ الشاعر د. خليفة التليسي، والشاعر المبدع محمّد الشلطامي، والشاعر ذا القامة السامقة حسن السّوسي، وشاعر الحداثة الكبير علي الفزاني، ومن الرواد الشاعر العملاق أحمد رفيق المهدوي، والقاص الباحث د. وهبي البوري، أيضًا المفكر الكاتب الصادق النيهوم، والروائي الأديب إبراهيم الكوني، ثم من المعاصرين دائرة المعارف الثقافية د. عبدالله مليطان؟، هؤلاءِ من ليبيا، مَنْ يعرف الروائي المبدع حسين بن عمّو من تونس، مَن يعرف الروائي القدير مبارك ربيع من المغرب؟
هذا أمرٌ واقع، ومشكلة حقيقية يجب أن تحظى باهتمام وزارات الثقافة العربية، رغم أن هذا واجب أصيل وحصري من واجبات اتحاد الكتّاب والأدباء العرب.
صحيفة «الحقيقة» هي الأولى في ليبيا
• كاتب قصّة قصيرة، وأحد روّادها في ليبيا، وصحفي متميز، رغم الفارق بين الإبداعي والمهني! أين يجدُ الكاتب الكبير محمّد علي الشويهدي نفسه؟ ومَن منهما الذي يجيب أكثر عن أسئلتك؟
- على المستوى الشخصي أحاولُ أنْ أرسّخَ دائمًا في ذهني فكرة أنّني ما زلتُ أحبوُ - وإني لكذلك - صوب التميّز والتفوّق، والإبداع الراقي. أقرأ كثيرًا، وكُلّما قرأت أكثر تأكّد لي أنّني كنتُ أجهلُ، إنَّ القراءة تثري العقل بالمعرفة، وتغدقُ عليه ثروة راقية ثمينة.
البحث عن الذات بدأ معي منذ الصبا، كنتُ أحسّ دائمًا بأنَّ هناك ما أريد قوله، كان هذا الإحساس مُلحًا مثابرًا مضنيًا، كتبت الأغنية وغنّى لي ولحّن أحد أبرز شيوخ الفنّ آنذاك، الموسيقار المطرب علي الشعالية وآخرون، كتبتُ التمثيلية الإذاعية، فأخرجتها وقامت ببطولتها خديجة الجهمي حينذاك، وهي رائدة العمل النسائي والإذاعية والإعلامية والصحفية المتألقة والشاعرة المرهفة، الراحلة صديقتي «ماما خديجة»، كما كان يطيب لنا أنْ نناديها في بلادي، توقيرًا وإكبارًا ومحبة.
أدرت المسرح الوطني في بنغازي مناوبة، وكدت أعملُ مذيعًا بعد أن نجحت في الاختبار لولا ضآلة المرتب الحكومي ووطأة الأعباء، نشرت خواطري ثم قصصي في الصحف المحلية، وصدرت لي أول مجموعة قصصية بعنوان «أحزان اليوم الواحد» عام 1973 عن مكتبة قورينا في بنغازي للمثقف الكبير الأستاذ عبدالمولى لنقي.
البحثُ عن الذات يوقعك في دوامة، فإما أن تخورَ قواك وتهنُ إرادتك، وتهبط هامدًا إلى قاع الدوامة، فتستقر وتختفي وتتلاشى، وإما أن تقاوم بالإدراك والإرادة والمثابرة والموهبة والثقافة، فتنفذ وتمرق إلى سطح بحر الإبداع، وتسبح بساعدين قويين نحو شطآن التميز والتألق.
وجدتُ ذاتي في دار الحقيقة للصحافة والطباعة والنشر في بنغازي عند أستاذي ومعلمي الكبير الراحل رشاد الهوني، حيث بدأت العمل معهُ محرّرًا متفرغًا - تحت التدريب - في صحيفة Libyan times، لكن بعد فترة وجيزة اقترح أستاذي الهوني نقلي إلى صحيفة الحقيقة، فالتقى اقتراحه مع رغبتي، وتقرر نقلي محرّرًا متفرغًا في «الحقيقة» شقيقة libyan times، فكان القرار دفعة قوية إلى الأمام، إذ كانت صحيفة الحقيقة آنذاك هي الأولى في ليبيا، ولعل معاصري تلك الفترة يتذكرون طوابير القراء الباكرين أمام أكشاك الصحف من أجل اقتناء صحيفة الحقيقة.
توطدت علاقتي بالراحل الكبير، فعلى المستوى الشخصي اكتسبت صديقًا، وعلى المستوى المهني اكتسبت كفاءة وثقة، حتى أنه كان يكلفني رسميًا رئاسة التحرير في غيابه.
وحول سؤالك عن الفارق بين الإبداعي والمهني، سأحاولُ أن أجيبَ إجابة دقيقة وقصيرة، المبدعُ فنّان والصحفي صانع الإبداع، في القصّة مثلًا يتعاطى مع فكرةٍ ما بلغةٍ غير صحافية، وبمواصفات مختلفة في نصّ يشارفُ الشذرات، وإنْ أطّرَ صحافيًا كونه استخدم الصحافة كوسيلة.
الصحافة لها لغة أخرى، اللغة السيّارة التي تخاطبُ كل القراء، وسياق آخر أقرب إلى الإخبار والتقارير الرسمية، وربما المرافعات القانونية وغير ذلك، لكن تظل الصحافة وعاء للاثنين.
الإبداع أكثر رحابة لولا مقصّ الرقيب، والصحافة أكثر اتّساعًا لولا سيف الحسيب، أما أنا فأجد نفسي أكثر في الإبداع بالتأكيد، الصحافة تجيب عن أسئلتي اليومية، أما الإبداع فيحلّق بأسئلتي في سماء الفكر ولا يجيب.
مهنة الصحافة إعاقة طرية رحيمة
• البعض يرى العمل الصحفي عائقًا أمام المبدع، وآخرون يرونه إضافة وزادًا معرفيًا وثقافيًا، لما فيه من التصاق بالواقع المعيش، ومرآة لتفاصيل الحياة الدقيقة، وخاصة كاتب السرد، ماذا أضافت الصحافة إلى إبداعك القصصي، وماذا أخذت منك؟ حدثني كصحفي بارز ورئيس تحرير لمجلة كان لها حضورها في الواقع الثقافي والسياسي معًا.
- أعتقد أنَّ الصحافة كانت إضافة فاعلة وزادًا معرفيًا وثقافيًا وافرًا ودسمًا، الصحافة مكنتني من الوعي بما يدور حولي من أحداث وأشخاص ومواقف، أتاحت لي الاحتكاك والزمالة وحتى الصداقة بكبار الكتّاب والأدباء والفنّانين والسياسيين، كنتُ أنهلُ من معين متنوع المذاقات والألوان، تعلّمت منهم جميعًا فكريًا ومهنيًا، خبرت القول، متى وكيف، تمعنت أساليبهم في العطاء، حاولت أن أتميز بأسلوب يُحدّد ملامح شخصيتي الأدبية، وأعتقد أنني وُفّقت.
لابدّ أن تكون لكلّ مبدعٍ مهنته، المهنة عمومًا تعوق المبدع، تلتهم وقته، تبدّد أحيانًا حالة الإبداع التي قدْ تنتابه فجأة في أي لحظة، وقد لا تعود إلا بعد حين، لكن الإبداع لا يطعم المبدع غير الإطراء، أما المهنة فهي التي تطعم المبدع الرغيف، وتُبقي على الحياة، مهنة الصحافة إعاقة طرية رحيمة، تصوّر لو كان المبدع سباكًا أو حدادًا، تخيّل ضراوة وحجم الإعاقة والمعاناة!
وُلِدتُ في أسرة فقيرة، ونشأت في بيئة مدقعة، وترعرت في «زنقة العويلة» بحي «سيدي حسين » بمدينتي بنغازي. وبنغازي وطن في مدينة، وحي سيدي حسين كان عائلة واحدة، كانت الجوانيات مشرعة النوافذ، كانت الأفراح والأتراح مشتركة، كانت أبواب بيوتنا البسيطة مفتوحة، عجائزنا أمهاتنا وبناتنا أخواتنا وأولادنا إخوتنا، وكل رجل من رجالنا أبٌ نخشاه ونحترمه، وندين لهُ بالطاعة والولاء.
هذا أتاح لي أن أغوص في أعماق النفوس، أن أتفاعل ودقائق تفاصيل الجوانيات، أن أعايش المعاناة والضنك، أتقمص شخصيات تكابد وتتوق ثم تتمرّد، وتواجه حتى تنتصر إرادة الحياة، وتتحقق الآمال، وتخفق القلوب بالحبّ والأمل والعطاء.
الإضافة الأساسية كانت من «الحقيقة» ، والإضافة اللاحقة كانت من مجلة «الموقف العربي » الأسبوعية الثقافية التي كنتُ ناشرها ورئيس تحريرها في نيقوسيا / قبرص، ففيها حظيت بتعاون كبار كتّاب وأدباء وشعراء وصحفيي الوطن العربي، مع حفظ مقامات كل أولئك النجوم المشعة، كان ثمة نزار قباني، ويوسف إدريس، وكامل زهيري، وصلاح عيسى، ومصطفى الحسيني، وفريدة النقاش، وحيدر حيدر، وعِذاب الركابي، وجمال الغيطاني، ويوسف القعيد، ومحمود الورداني، وكوكبة من فرسان الكلمة والفكر.
حظيت بزمالة معتز ميداني، وفاضل العزاوي، وسعدي يوسف، وشوقي رافع، وربعي المدهون، وجمال فهمي، وطلال حيدر، وبول شاؤول. ربطتني بكل هذهِ القامات الرفيعة صداقات، ستبقى في الذاكرة محط مودّة وإكبار.
الصحافة خلت بي، واستحوذت على جلّ وقتي، وحولتني إلى مُقِلٍ على صعيد الإبداع، حتى إنّني كثيرًا ما يعودني قول الروائي والمفكر اليوناني نيكوس كازنتزاكي: «سوف أموت وكتب كثيرة لا تزالُ في داخلي » !
قصصي تطرح الأسئلة من دون أن تجيب
• أعمالك الإبداعية «أقوال شاهد عيان» و«أحزان اليوم الواحد» و«كحل العين» و«الموجة والرحيل»، وآخرها «السوق القبلي... وقصص أخرى». كيف تصف هذه الرحلة الشاقة والممتعة معًا؟ وإذا كان الإبداعُ سؤالًا، فهل كانت القصة القصيرة الجواب المتلهف للردّ على هذا السؤال؟
- الإبداعُ ممتعٌ وشاقٌ أيضًا، الإبداع عندي «القصّة القصيرة» يمرّ بثلاث مراحل، الحمل وهي مرحلة تخلّق الفكرة واكتمالها، وهي مرحلة غير مقيّدة بزمنٍ، قد يكون زمن المرحلة ساعة أو يومًا أو أيامًا، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة المخاض ذ الواقع ما قبلَ الطلق، وهي مرحلة لابدّ أن تكون مكتملة الشروط، بحيث تؤدي إلى ولادة طبيعية، إذا وهن المخاض ولم يصل حدّ الطلق، فيجب ألا يلجأ المبدع إلى الولادة القيصرية، لأنَّ الوليد/ الإبداع في هذه الحالة، بعد أن ْ يُجتثّ من وجدان المبدع، يُولدُ ميتًا أو مُشوهًا خلقيًا أو معاقًا، وفي كل الحالات غير قابل للبقاء.
القصّة القصيرة التقليدية تقوم أساسًا على الفكرة والحبكة والعقدة والنّهاية... النّهاية هي أصعب ما يواجهُ المبدعُ، النّهاية غير المتقنة قدْ تُفسد الإبداع، المبدعُ يجب ألا يكون واعظًا ولا مرشدًا... شخصيًا أعتمد السرد وفق ترتيب سلس للوقائع والأفكار، بحيث تنتهي بالمتلقي إلى الانطباع الذي أسعى إليه، فلا يرفضني، بل ينحاز بالكامل إلى قولي، الحديث يطول في هذا المجال، ولكن هناك القصّة اللمحة، الوقدة، الشرارة، قصيرة أو قصيرة جدًّا، وهي وجدانية بامتياز ذات لغة شعرية، هي أقرب إلى القصيدة.
قصصي تطرحُ الأسئلة من دون أن تجيب، لا أحجب عن القارئ حقّ التفكير، حقّ استنباط الجواب حتى إذا ما بلغت حدّ شعور القارئ بأنهُ كاتب العمل، أكون قد بلغت هدفي وسادني الرضا والحبور.
عبقرية نجيب محفوظ
• الكاتب العالمي الكبير نجيب محفوظ قال إنه يعرف أبطال قصصه ورواياته، وإنه يلتقي بهم. وقصصُكَ مرآة عاكسة للواقع، بل هي الواقع الليبي بكل تفاصيله، وأبطالك حقيقيون، كل حرف، وكل كلمة، وكل جملة تقولُ ذلك... كيف كانت علاقتك بهم؟
- الإجابة في سؤالك، أيضًا فيما قلتُ عن «زنقة العويلة» وحي «سيدي حسين » وبنغازي، لكنني أريد أنْ أقولَ إنّني قرأت مرات عدة روايات وقصص الأسطورة نجيب محفوظ، العقل الجبّار الذي ينسج الرواية كما بيت العنكبوت، بمنتهى الدقة، من دون أن يغيب عنه أي تفصيل مهما تناهى في صغره بلغة تضيف إلى المتلقي، سرد سلس متوائم، بغوص غطاس قدير في جزئيات شخوصه، بإدراك دقيق لعنصري الزمان والمكان، استفدت كثيرًا من جزئيات عبقرية هذا الكاتب العظيم.
أعرفُ أبطال قصصي، أبطالي حقيقيون في الغالب، أمّي كانت هي «كحل العين » في مجموعتي القصصية التي أسميتها «كحل العين » .
• يقولُ عنك الناقد الأكاديمي د. عبدالجواد عباس: «لعل ما يميز محمد الشويهدي هو تغطيته القصصية لمرحلة الخمسينيات والستينيات التي مرّ بها مجتمع بنغازي بالذات، العادات والتقاليد ومجُمل الحياة اليومية للمجتمع الذي كان في ذلك الوقت».
- ها قد أضاف د. عباس إلى إجابتي وأثراها، أحسّ إحساسًا عميقًا بأنَّ هذا الناقد الكبير قدْ غاصَ في أعماق قصصي بقراءة متأنية، وعين خبيرة مكنته من التحليل الدقيق، والاستنتاج السليم، رغم أنني لمْ ألتقِ بهِ شخصيًا حتى الآن، فالتواصل معهُ مقتصرٌ على الهاتف بين حينٍ وآخرَ.
الإبداعُ قليلٌ من الحقيقة... وكثيرٌ من الخيال
• يقول أندريه مورو: «الأدب بمجموعه مُتخيّل»! ما دور الخيال والفانتازيا في قصصك؟ البعض يراها «مُقبّل» وفاتح شهية للمزيد من الجذب والقراءة! والسرد بأنواعه الواقع/ الخيال، والخيال/ الواقع، ما تعليقك؟
- الإبداعُ، الأدب هو قليلٌ من الحقيقة، وكثيرٌ من الخيال، نقل الواقع كما هو من دون تشذيب أو تهذيب وتجميل وتطييب، ليس أكثر من تقرير صحفي لا يرقى إلى مستوى الإبداع، القاص الجيد لابدّ أن يشدّ القارئ إليه من الفقرة الأولى في القصّة، السطور الأولى، إمّا أن تكونَ طاردة أو جاذبة، وفي السطور الأولى تتجلى مهارة القاص وقدرته، القصّة القصيرة فكرة، جرعة قدْ تكون مُرّة المذاق، قد تكون مرفوضة، الفانتازيا الراقية، الخيال الجميل، ييسران ابتلاع الجرعة، ويحققان متعة القراءة، بحيث تُشبع القصة مثلًا رغبة القارئ في إضافة جديد إلى فكرهِ، ولا تكون مجرّد «تحصيل حاصل » ، يبتاعهُ القارئ بوقتهِ من دون عائد.
الواقع الثقافي كان معطاء متألقًا
• فقدت الساحة الليبية في السنوات العجاف كبار الكتّاب والشعراء والمفكرين والفنّانين الليبيين، وتركوا فراغًا كبيرًا: علي فهمي خشيم، وخليفة الفاخري، وعلي الفزاني، والصادق النيهوم، ومحمّد الزواوي، وحسن عريبي ومحمّد إستيته وغيرهم... كيف تقرأ الواقع الثقافي الآن؟ وبكاميرا الذات المبدعة، كيف تقيّم هذا الواقع أمس واليوم؟
- الكبارُ يرحلونَ مُبكرًا، أتيتَ على كلّ القامات السامقة التي أثرت الحياة الثقافية تقريبًا، وأضافت إلى الفكر الإنساني وإلى الشعر والفنّ، كل ضروب المعرفة، شاركت في تخليق هوية الوجدان العربي في ليبيا.
الواقع الثقافي بالأمس كانَ معطاءً متألقًا، برموز ثقافية ثرية تطاولُ العالمية، تضرب بجذورها في أعماق الأرض، وتمتد بفروعها إلى فضاءات الدنيا انتماءً ووطنية وإشعاعًا معرفيًا متميزًا، تلك الرموز نمت وترعرعت وكبرت على مدى عقود، تلك الرموز ليست نبتًا شيطانيًا ظهر على وجه الأرض في غفلة من النماء، فيتطاول ويتسلق ثم يذبل، بل ويموت لكونه غير مثمر، هؤلاء الكبار توافرت لهم البيئة المواتية والرعاية المثابرة والفرصة السانحة والمعرفة الغزيرة، فتواكب كل هذا وتماهى مع استعدادهم الفطري وتكوينهم الذهني، ومواهبهم وقدراتهم، فأثمروا التين والزيتون والفل والياسمين، غذوا الوجدان وأمتعوه.
هؤلاءِ الكبار تركوا فراغًا كبيرًا، بل أقول تركوا رواق الثقافة شاغرًا، الجيل الواعد من الأدباء والكتّاب والصحفيين والفنّانين الذي بدأت بشائر نبوغه بالأمس، والمأمول فيه سدّ الفراغ، أحرقه «الربيع العربي » ، فانزوى، وتوارى، واختفى.
الربيع الليبي كان مؤامرة
• واقعنا العربي سوداوي، ومحبط، وهزيل، أي دورٍ يمكن أن تؤديه الثقافة والإبداع فيه؟ قل لي: كيف تفسّر صمت المثقفين على ما يدور في هذا الواقع من حروب إقليمية مفتعلة، وفتن طائفية، وتبعية، واحتلال، وفرقة، وشراسة قوى الظلام ممن يريدون بنا العودة إلى خمسة عشر قرنًا مضت؟
- ما يصفهُ الصهيونيّ برنار هنري ليفي، عرّاب نكبة ليبيا في كتابهِ «يوميات كاتب في قلب الربيع العربي » ، ما يصفهُ بالربيع الليبي كانَ مؤامرة مكتملة الأركان، شأن كلّ ربيع أصاب قطرًا عربيًّا.
الوطن العربي من المحيط إلى الخليج يكادُ يكون قارة تطفح على بحيرات من النفط والغاز، بطون أراضيها حقول ذهب ومعادن ثمينة، موقعها استراتيجي يشرف على بحرين )المتوسط والأحمر ) وعلى محيط، حديقتها الخلفية البكر إفريقيا السمراء، ثرية مثمرة جذابة، قارة بكل هذهِ المواصفات تثير شهية الاستعمار العجوز، فيبتكر «الربيع العربي » ويُمنّي بربيع الياسمين، فيجتاح الأوطان ويحوز المغانم، ولا يتنسم الهنود الحمر الجدد إلاّ روائح البارود والدماء والموت.
الوطن الليبي بعد ربيع «ليفي » تحوّل إلى وطن مُستباح، منهوب الأرض والعرض والقوت... الوطن العربي بعد «سايكس بيكو الثانية» مُنتهك، إمّا باحتلال عسكري مباشر وإما باحتلال عسكري موارب، بين ابتزاز يرقى إلى الحرابة أو حروب استنزاف تخلخل الاستقرار، وتشيع الفوضى والدمار. تصوّر أقصى أحلام العدو الصهيوني كان «الأرض الموعودة» من النّهر إلى البحر، نكبة ربيع الوطن العربي فاقت كلّ أحلام بني صهيون، هم الآن يتطلعون إلى أرض موعودة أخرى، تمتد من شواطئ البحرَين الأبيض والأحمر إلى ضفاف المحيط، الجيوش العربية أبيدت بذريعة «حماية المدنيين » ، والحديث عن تحرير فلسطين صارَ هراءً.
آخر إحصائية صدرت عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم )ألكسو( في 2015 م تفيد بأنَّ نسبة الأمية في الوطن العربي بلغت 27.1 في المئة، وأنَّ عدد الأميين يقارب 54 مليونًا، هؤلاء غير القادرين على «فكّ الخط » .
الكارثة الأكبر تطول التعليم في الوطن العربي، جلّ الجامعات تُخرّج جهلة، يتخذون من الليسانس أو البكالوريوس رخصة تعيين أو وسيلة وجاهة.
لغتنا العربية مستهدفة، ذلك لأَّنَّ لغتك هويتك، ترمى بالمفردات الأجنبية، تُلوث بالأخطاء اللغوية والنحوية والإملائية، تقابل بالاستخفاف والسّخرية عند المشافهة، لغتنا لغة كتاب الله القرآن الكريم، تُطمس حتى من كبار كتّابها في سياق استعراض المعارف والزهو بإتقان لغات. هم لا يريدون بنا العودة إلى الوراء قروناً، نحنُ في الوراء تمامًا، هم يروننا قطيعًا من البهائم، يُساقُ بالعصا ويطعم البرسيم. الواقع العربي سوداوي مُحبِط، لا دور للثقافة حاليًا في بيئة ومناخ الربيع العربي.
أنا أكتبُ كيْ أتنفس... كيْ أحيّا
• يقول الكاتب العظيم آرنست همنجواي: «ومتى أصبحت الكتابة بليتك الكبرى، ومتعتك الأكبر، فلن يوقفها منك سوى الموت»، لماذا نكتب؟ وما جدوى الكتابة؟
- الكتابة حالة تدهم المبدع من دون ميعاد، قدْ يكون في فراشهِ متهيئًا للنوم، قدْ يكون مبكرًا في طريقه إلى العمل، أثناء خلوة قراءة، في مقهى مع أصدقاء، أستاذي وصديقي الرائع الكاتب الكبير علي مصطفى المصراتي كان يهاتفني أو أهاتفهُ كيْ نلتقي في مقهى، في العادة تلتقي نخبة من الأدباء والكتّاب، فيتجلى الشيخ علي مصطفى المصراتي، ويمتعنا بسرعة البديهة والنكتة اللاذعة، وفجأة، يخرج مفكرته الصغيرة، وينزوي ويخط رؤوس مواضيع أو أفكار، ثم لا يلبث أن يتجهم ويطلب منّي آمرًا: خذني إلى البيت، وندرك أنَّ حالة الإبداع انتابته.
أنا أكتبُ كيْ أتنفس، كيْ أحيا، كيْ أتذوق لذة الإفصاح عن أفكاري ومشاعري، أعتقد أنني إن لم أكتب فسأنفجر، فعلًا إنَّ الكتابة بليّة كبرى، وممتعة، أتمنى على الموت أن يتأنّى ويدعني أعاني من بليتي الممتعة، بعيدًا عنه.
الرواية عملية مضنية
• آخر أعمالك الإبداعية القصصية «السوق القبلي.. وقصص أخرى» وقد أجمع النقاد على أن قصتك «السوق القبلي» هي رواية قصيرة/ نوفيلا... ماذا تقول؟ أهي تمرين كتابة جاد لرواية قادمة؟
- بعدَ تمعّن إجماع النقّاد على أنَّ «السوق القبلي » هي رواية قصيرة/ نوفيلا، أدركت أنَّ «السوق القبلي » كذلك، أصارحك؛ لم يكنْ واردًا عندي على الإطلاق كتابة رواية، كنت أعتقد دائمًا أنّي كاتب قصّة قصيرة، لكن «السوق القبلي » تدفقت بشخوصها وأحداثها وأزمانها، فضاقت بهم مساحة القصّة القصيرة، اتّسعت الرقعة حتى حدود الرواية القصيرة، فكانت االسوق القبليب.
كتابة الرواية عملية مضنية، زادها الصبرُ والكفاءة والمكابدة والحرفية العالية، أتصور كاتب الرواية وبيده ألف خيط، وكل خيط مشدود إلى شخص أو مكان أو زمان أو فكرة، وعلى كاتب الرواية أن يُحرّك كل هذهِ الخيوط بمهارة وحرفية وفطنة وانتباه، مهما تضاءل شأن المشدود إلى الخيط في سياق السرد، بحيث تتماهى كل هذه العناصر والمحور الرئيس للرواية، وتنتهي في رحلة ممتعة بالقارئ إلى الغاية من النصّ. بدأت كتابة رواية هي «اربيع وطن » قصة حبّ بين «ربيع » و«نوارة» الطالبين في كلية الحقوق قبل فبراير، تتماهى والربيع الليبي، وتنتهي بأيلولة ليبيا إلى الدمار الشامل، وبالحب البكر العفيف إلى كارثة.
بين يدي أيضًا مشروع مجموعة قصص قصيرة «رهن الإقامة الطوعية» ، ورغم تفرغي للقراءة والكتابة، فإن الأحداث الجارية في وطني تنتزعني من أجواء الكتابة، وتصيّرني مزاجًا متوترًا مترقبًا متوجسًا، أيضًا كتابة رواية قد تقتضي سنوات.
تبقى مشكلة النشر، فصناعة الكتاب الورقي لم تعد رائجة على الإطلاق، النشر الإلكتروني أتى عليها تمامًا، الناشر تاجر تخضع حساباته للربح، فلا ألوم الناشرين الخواص، هم ليسوا جمعيات خيرية، كفاهم مصاريف الشحن الباهظة، ومقاص الرقباء المتحفزين. الناشر يشترط على المبدع دفع تكاليف الطباعة، وعدم الحصول على عائد البيع، واقتصار التوزيع على بلد المنشأ، فدعني استدعي قول الشاعر محمود غنيم مُداعبًا:
هوّن عليك وجفّف دمعَكَ الغالي
لا يجمعُ اللهُ بين الشِّعرِ والمالِ
دور النشر الرسمية لا تنشر إلاّ ما يتوافق وسياساتها، وهذا حقّ أصيل، ومنطقي، ومبرّر منها، لكنه غير مُجاهر بهِ، وهكذا ما على المبدع إلاّ أنْ يسعى بين الصفا والمروة حتى يهلك أو يتوسّد أوراقه حتى يشيخ ■