الأديب الليبي محمد الشويهدي: لابدّ أن تكونَ للمبدع مهنةٌ فالإبداعُ لا يُطعمه سوى الإطراء

الأديب الليبي محمد الشويهدي:  لابدّ أن تكونَ للمبدع مهنةٌ  فالإبداعُ لا يُطعمه سوى الإطراء

محمّد‭ ‬علي‭ ‬الشويهدي،‭ ‬كاتب‭ ‬وقاص‭ ‬وصحفي،‭ ‬حرّرَ‭ ‬وأسّسَ‭ ‬وترأس‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬الصحف‭ ‬والمجلات‭ ‬الليبية،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬«الحقيقة»‭ ‬و«الثقافة‭ ‬العربية»‭ ‬و«الموقف‭ ‬العربي»‭.‬

وتقلّد‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬المناصب‭ ‬الإدارية‭ ‬الرسمية‭ ‬في‭ ‬بلده،‭ ‬من‭ ‬«رئيس‭ ‬تحرير»‭ ‬إلى‭ ‬مدير‭ ‬«الدار‭ ‬الجماهيرية‭ ‬للنشر»‭ ‬إلى‭ ‬مدير‭ ‬«المسرح‭ ‬الوطني» ‬مناوبة‭ ‬لفترة‭ ‬في‭ ‬بنغازي‭ ‬إلى‭ ‬مدير‭ ‬«المؤسسة‭ ‬العامة‭ ‬للصحافة» ،‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬أمين‭ / ‬وزير‭ ‬الإعلام‭ ‬والثقافة‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭.‬

 

صدر‭ ‬لهُ‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المجموعات‭ ‬القصّصية،‭ ‬أهمّها‭ ‬بداية‭ ‬من‭: ‬«أحزان‭ ‬اليوم‭ ‬الواحد» (‬1973‭  ‬-بنغازي)‭  ‬،‭ ‬فـــــي‭ ‬أربــــــع‭ ‬طــبعـــات،‭ ‬و«أقــــوال‭ ‬شاهد‭ ‬عِــــيان »‭ ‬-1976)‭ ‬طرابلس)‭ ‬و«صرخات‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الصمت »‭ ‭ ‬ 1999 )‭ ‬ ‬بيروت)‭ ‬،‭ ‬و«كحل‭ ‬العين » (‭ - ‬1999‭  ‬بيـــــروت)‭  ‬،‭ ‬و«الموجة‭ ‬والرحــــــيـــــل » (‬2015‭  ‬-القاهرة‭ ‬، (‭ ‬و«السوق‭ ‬القبلي‭... ‬وقصص‭ ‬أخرى »(‭ -‬ 2017‭  ‬طرابلس)‭ ‬،‭ ‬ولديه‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬قيد‭ ‬الطبع‭.‬

الشويهدي‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬رواد‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬في‭ ‬ليبيا،‭ ‬ومؤسّس‭ ‬لأسلوب‭ ‬ولغة‭ ‬لا‭ ‬تنُسب‭ ‬إلا‭ ‬لهُ،‭ ‬منحاز‭ ‬إلى‭ ‬الإبداع‭ ‬أولًا،‭ ‬وإلى‭ ‬الكتابة‭ ‬الهادفة‭ ‬التي‭ ‬تشكّل‭ ‬إضافة‭ ‬مهمة‭ ‬لأدبنا‭ ‬وثقافتنا‭ ‬وإبداعنا،‭ ‬ورهانه‭ ‬الأبديّ‭ ‬على‭ ‬الكاتب‭ ‬الأصيل‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يهادن،‭ ‬يجمّل‭ ‬الحياة‭ ‬بإبداعه‭ ‬الهادف،‭ ‬وينتصر‭ ‬على‭ ‬الزمن‭ ‬المراوغ‭ ‬في‭ ‬شذرات‭ ‬فكره،‭ ‬وسموّ‭ ‬أحلامه‭.‬

محمّد‭ ‬علي‭ ‬الشويهدي‭ ‬المسؤول‭ ‬والوزير‭ ‬السابق‭ ‬للثقافة‭ ‬في‭ ‬بلدهِ،‭ ‬خلع‭ ‬البدلة‭ ‬الدبلوماسية،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬من‭ ‬قبله‭ ‬الشاعر‭ ‬الكبير‭ ‬نزار‭ ‬قبّاني،‭ ‬واختار‭ ‬الكتابة‭ ‬والإبداع‭ ‬ورفقة‭ ‬الإنسان‭ ‬البسيط،‭ ‬وأحب‭ ‬الحرية،‭ ‬والأصدقاء‭ ‬والسّفر،‭ ‬وكلّ‭ ‬ما‭ ‬يرتقي‭ ‬بالنفس‭ ‬المبدعة‭ ‬الطموح‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬الدافئ‭ ‬لديه‭ ‬الكثير‭ ‬ممّا‭ ‬يقول‭:‬

‭• ‬وزير‭ ‬الثقافة‭ ‬الأسبق،‭ ‬الصحفي‭ ‬والقاص‭ ‬والكاتب‭ ‬الليبي،‭ ‬محمّد‭ ‬علي‭ ‬الشويهدي،‭ ‬مرحبًا‭ ‬بك‭ ‬ضيفًا‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬الكويتية‭ ‬الثقافية‭ ‬الفكرية‭ ‬الواسعة‭ ‬الانتشار‭.‬

‭- ‬بداية‭ ‬أودّ‭ ‬أنْ‭ ‬أستهل‭ ‬حديثي‭ ‬بشكر‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬العريقة‭ ‬على‭ ‬استضافتي،‭ ‬وأتمنى‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تنصفَ‭ ‬مبدعي‭ ‬المغرب‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬أدباء‭ ‬وكتّاب‭ ‬وشعراء‭ ‬وتشكيليين‭ ‬وفنّانين‭ ‬بالاستضافة،‭ ‬ونشر‭ ‬إبداعاتهم‭ ‬ونشاطاتهم‭ ‬الثقافية‭ ‬على‭ ‬صفحاتها،‭ ‬وهي‭ ‬المجلة‭ ‬الثقافية‭/ ‬الإبداعية‭ ‬الأكثر‭ ‬انتشارًا‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭.‬

‭• ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬يبادرُ‭ ‬مبدعو‭ ‬المغرب‭ ‬العربي‭ ‬بالتواصل؟

‭- ‬هو‭ ‬عزوف‭ ‬المبدع‭ ‬الحقيقي،‭ ‬كبرياؤه‭ ‬تمنعه،‭ ‬تصوّر‭ ‬أنَّ‭ ‬معظم‭ ‬مبدعي‭ ‬المغرب‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬يُعرفون‭ ‬ولا‭ ‬يتواصلون‭ ‬مع‭ ‬نظرائهم‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬العربي،‭ ‬أيضًا‭ ‬المبدعون‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬يُعرفون‭ ‬ولا‭ ‬يتواصلون‭.‬

قسْ‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المنوال‭ - ‬مع‭ ‬الأسف‭ - ‬في‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬باستثناء‭ ‬عاصمة‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬مصر،‭ ‬ثم‭ ‬لبنان‭... ‬قلْ‭ ‬لي‭: ‬مَن‭ ‬يعرف‭ ‬العلّامة‭ ‬د‭. ‬علي‭ ‬فهمي‭ ‬خشيم،‭ ‬والمؤرّخ‭ ‬الباحث‭ ‬الأديب‭ ‬علي‭ ‬مصطفى‭ ‬المصراتي،‭ ‬والكاتب‭ ‬المؤرّخ‭ ‬الشاعر‭ ‬د‭. ‬خليفة‭ ‬التليسي،‭ ‬والشاعر‭ ‬المبدع‭ ‬محمّد‭ ‬الشلطامي،‭ ‬والشاعر‭ ‬ذا‭ ‬القامة‭ ‬السامقة‭ ‬حسن‭ ‬السّوسي،‭ ‬وشاعر‭ ‬الحداثة‭ ‬الكبير‭ ‬علي‭ ‬الفزاني،‭ ‬ومن‭ ‬الرواد‭ ‬الشاعر‭ ‬العملاق‭ ‬أحمد‭ ‬رفيق‭ ‬المهدوي،‭ ‬والقاص‭ ‬الباحث‭ ‬د‭. ‬وهبي‭ ‬البوري،‭ ‬أيضًا‭ ‬المفكر‭ ‬الكاتب‭ ‬الصادق‭ ‬النيهوم،‭ ‬والروائي‭ ‬الأديب‭ ‬إبراهيم‭ ‬الكوني،‭ ‬ثم‭ ‬من‭ ‬المعاصرين‭ ‬دائرة‭ ‬المعارف‭ ‬الثقافية‭ ‬د‭. ‬عبدالله‭ ‬مليطان؟،‭ ‬هؤلاءِ‭ ‬من‭ ‬ليبيا،‭ ‬مَنْ‭ ‬يعرف‭ ‬الروائي‭ ‬المبدع‭ ‬حسين‭ ‬بن‭ ‬عمّو‭ ‬من‭ ‬تونس،‭ ‬مَن‭ ‬يعرف‭ ‬الروائي‭ ‬القدير‭ ‬مبارك‭ ‬ربيع‭ ‬من‭ ‬المغرب؟

هذا‭ ‬أمرٌ‭ ‬واقع،‭ ‬ومشكلة‭ ‬حقيقية‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تحظى‭ ‬باهتمام‭ ‬وزارات‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬واجب‭ ‬أصيل‭ ‬وحصري‭ ‬من‭ ‬واجبات‭ ‬اتحاد‭ ‬الكتّاب‭ ‬والأدباء‭ ‬العرب‭.‬

 

صحيفة‭ ‬‮«‬الحقيقة‮»‬‭ ‬هي‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬ليبيا

‭• ‬كاتب‭ ‬قصّة‭ ‬قصيرة،‭ ‬وأحد‭ ‬روّادها‭ ‬في‭ ‬ليبيا،‭ ‬وصحفي‭ ‬متميز،‭ ‬رغم‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬الإبداعي‭ ‬والمهني‭! ‬أين‭ ‬يجدُ‭ ‬الكاتب‭ ‬الكبير‭ ‬محمّد‭ ‬علي‭ ‬الشويهدي‭ ‬نفسه؟‭ ‬ومَن‭ ‬منهما‭ ‬الذي‭ ‬يجيب‭ ‬أكثر‭ ‬عن‭ ‬أسئلتك؟

‭- ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الشخصي‭ ‬أحاولُ‭ ‬أنْ‭ ‬أرسّخَ‭ ‬دائمًا‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬فكرة‭ ‬أنّني‭ ‬ما‭ ‬زلتُ‭ ‬أحبوُ‭ - ‬وإني‭ ‬لكذلك‭ - ‬صوب‭ ‬التميّز‭ ‬والتفوّق،‭ ‬والإبداع‭ ‬الراقي‭. ‬أقرأ‭ ‬كثيرًا،‭ ‬وكُلّما‭ ‬قرأت‭ ‬أكثر‭ ‬تأكّد‭ ‬لي‭ ‬أنّني‭ ‬كنتُ‭ ‬أجهلُ،‭ ‬إنَّ‭ ‬القراءة‭ ‬تثري‭ ‬العقل‭ ‬بالمعرفة،‭ ‬وتغدقُ‭ ‬عليه‭ ‬ثروة‭ ‬راقية‭ ‬ثمينة‭.‬

البحث‭ ‬عن‭ ‬الذات‭ ‬بدأ‭ ‬معي‭ ‬منذ‭ ‬الصبا،‭ ‬كنتُ‭ ‬أحسّ‭ ‬دائمًا‭ ‬بأنَّ‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬أريد‭ ‬قوله،‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الإحساس‭ ‬مُلحًا‭ ‬مثابرًا‭ ‬مضنيًا،‭ ‬كتبت‭ ‬الأغنية‭ ‬وغنّى‭ ‬لي‭ ‬ولحّن‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬شيوخ‭ ‬الفنّ‭ ‬آنذاك،‭ ‬الموسيقار‭ ‬المطرب‭ ‬علي‭ ‬الشعالية‭ ‬وآخرون،‭ ‬كتبتُ‭ ‬التمثيلية‭ ‬الإذاعية،‭ ‬فأخرجتها‭ ‬وقامت‭ ‬ببطولتها‭ ‬خديجة‭ ‬الجهمي‭ ‬حينذاك،‭ ‬وهي‭ ‬رائدة‭ ‬العمل‭ ‬النسائي‭ ‬والإذاعية‭ ‬والإعلامية‭ ‬والصحفية‭ ‬المتألقة‭ ‬والشاعرة‭ ‬المرهفة،‭ ‬الراحلة‭ ‬صديقتي‭ ‬«ماما‭ ‬خديجة»،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يطيب‭ ‬لنا‭ ‬أنْ‭ ‬نناديها‭ ‬في‭ ‬بلادي،‭ ‬توقيرًا‭ ‬وإكبارًا‭ ‬ومحبة‭.‬

أدرت‭ ‬المسرح‭ ‬الوطني‭ ‬في‭ ‬بنغازي‭ ‬مناوبة،‭ ‬وكدت‭ ‬أعملُ‭ ‬مذيعًا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬الاختبار‭ ‬لولا‭ ‬ضآلة‭ ‬المرتب‭ ‬الحكومي‭ ‬ووطأة‭ ‬الأعباء،‭ ‬نشرت‭ ‬خواطري‭ ‬ثم‭ ‬قصصي‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬المحلية،‭ ‬وصدرت‭ ‬لي‭ ‬أول‭ ‬مجموعة‭ ‬قصصية‭ ‬بعنوان‭ ‬«أحزان‭ ‬اليوم‭ ‬الواحد» ‬عام‭ ‬1973‭ ‬عن‭ ‬مكتبة‭ ‬قورينا‭ ‬في‭ ‬بنغازي‭ ‬للمثقف‭ ‬الكبير‭ ‬الأستاذ‭ ‬عبدالمولى‭ ‬لنقي‭.‬

البحثُ‭ ‬عن‭ ‬الذات‭ ‬يوقعك‭ ‬في‭ ‬دوامة،‭ ‬فإما‭ ‬أن‭ ‬تخورَ‭ ‬قواك‭ ‬وتهنُ‭ ‬إرادتك،‭ ‬وتهبط‭ ‬هامدًا‭ ‬إلى‭ ‬قاع‭ ‬الدوامة،‭ ‬فتستقر‭ ‬وتختفي‭ ‬وتتلاشى،‭ ‬وإما‭ ‬أن‭ ‬تقاوم‭ ‬بالإدراك‭ ‬والإرادة‭ ‬والمثابرة‭ ‬والموهبة‭ ‬والثقافة،‭ ‬فتنفذ‭ ‬وتمرق‭ ‬إلى‭ ‬سطح‭ ‬بحر‭ ‬الإبداع،‭ ‬وتسبح‭ ‬بساعدين‭ ‬قويين‭ ‬نحو‭ ‬شطآن‭ ‬التميز‭ ‬والتألق‭.‬

وجدتُ‭ ‬ذاتي‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬الحقيقة‭ ‬للصحافة‭ ‬والطباعة‭ ‬والنشر‭ ‬في‭ ‬بنغازي‭ ‬عند‭ ‬أستاذي‭ ‬ومعلمي‭ ‬الكبير‭ ‬الراحل‭ ‬رشاد‭ ‬الهوني،‭ ‬حيث‭ ‬بدأت‭ ‬العمل‭ ‬معهُ‭ ‬محرّرًا‭ ‬متفرغًا‭ ‬-‭ ‬تحت‭ ‬التدريب‭ ‬-‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬Libyan times،‭ ‬لكن‭ ‬بعد‭ ‬فترة‭ ‬وجيزة‭ ‬اقترح‭ ‬أستاذي‭ ‬الهوني‭ ‬نقلي‭ ‬إلى‭ ‬صحيفة‭ ‬الحقيقة،‭ ‬فالتقى‭ ‬اقتراحه‭ ‬مع‭ ‬رغبتي،‭ ‬وتقرر‭ ‬نقلي‭ ‬محرّرًا‭ ‬متفرغًا‭ ‬في‭ ‬«الحقيقة» ‬شقيقة‭ ‬libyan times،‭ ‬فكان‭ ‬القرار‭ ‬دفعة‭ ‬قوية‭ ‬إلى‭ ‬الأمام،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬صحيفة‭ ‬الحقيقة‭ ‬آنذاك‭ ‬هي‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬ليبيا،‭ ‬ولعل‭ ‬معاصري‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬يتذكرون‭ ‬طوابير‭ ‬القراء‭ ‬الباكرين‭ ‬أمام‭ ‬أكشاك‭ ‬الصحف‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬اقتناء‭ ‬صحيفة‭ ‬الحقيقة‭.‬

توطدت‭ ‬علاقتي‭ ‬بالراحل‭ ‬الكبير،‭ ‬فعلى‭ ‬المستوى‭ ‬الشخصي‭ ‬اكتسبت‭ ‬صديقًا،‭ ‬وعلى‭ ‬المستوى‭ ‬المهني‭ ‬اكتسبت‭ ‬كفاءة‭ ‬وثقة،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يكلفني‭ ‬رسميًا‭ ‬رئاسة‭ ‬التحرير‭ ‬في‭ ‬غيابه‭.‬

وحول‭ ‬سؤالك‭ ‬عن‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬الإبداعي‭ ‬والمهني،‭ ‬سأحاولُ‭ ‬أن‭ ‬أجيبَ‭ ‬إجابة‭ ‬دقيقة‭ ‬وقصيرة،‭ ‬المبدعُ‭ ‬فنّان‭ ‬والصحفي‭ ‬صانع‭ ‬الإبداع،‭ ‬في‭ ‬القصّة‭ ‬مثلًا‭ ‬يتعاطى‭ ‬مع‭ ‬فكرةٍ‭ ‬ما‭ ‬بلغةٍ‭ ‬غير‭ ‬صحافية،‭ ‬وبمواصفات‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬نصّ‭ ‬يشارفُ‭ ‬الشذرات،‭ ‬وإنْ‭ ‬أطّرَ‭ ‬صحافيًا‭ ‬كونه‭ ‬استخدم‭ ‬الصحافة‭ ‬كوسيلة‭.‬

الصحافة‭ ‬لها‭ ‬لغة‭ ‬أخرى،‭ ‬اللغة‭ ‬السيّارة‭ ‬التي‭ ‬تخاطبُ‭ ‬كل‭ ‬القراء،‭ ‬وسياق‭ ‬آخر‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الإخبار‭ ‬والتقارير‭ ‬الرسمية،‭ ‬وربما‭ ‬المرافعات‭ ‬القانونية‭ ‬وغير‭ ‬ذلك،‭ ‬لكن‭ ‬تظل‭ ‬الصحافة‭ ‬وعاء‭ ‬للاثنين‭.‬

الإبداع‭ ‬أكثر‭ ‬رحابة‭ ‬لولا‭ ‬مقصّ‭ ‬الرقيب،‭ ‬والصحافة‭ ‬أكثر‭ ‬اتّساعًا‭ ‬لولا‭ ‬سيف‭ ‬الحسيب،‭ ‬أما‭ ‬أنا‭ ‬فأجد‭ ‬نفسي‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬بالتأكيد،‭ ‬الصحافة‭ ‬تجيب‭ ‬عن‭ ‬أسئلتي‭ ‬اليومية،‭ ‬أما‭ ‬الإبداع‭ ‬فيحلّق‭ ‬بأسئلتي‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬الفكر‭ ‬ولا‭ ‬يجيب‭.‬

 

مهنة‭ ‬الصحافة‭ ‬إعاقة‭ ‬طرية‭ ‬رحيمة

‭• ‬البعض‭ ‬يرى‭ ‬العمل‭ ‬الصحفي‭ ‬عائقًا‭ ‬أمام‭ ‬المبدع،‭ ‬وآخرون‭ ‬يرونه‭ ‬إضافة‭ ‬وزادًا‭ ‬معرفيًا‭ ‬وثقافيًا،‭ ‬لما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬التصاق‭ ‬بالواقع‭ ‬المعيش،‭ ‬ومرآة‭ ‬لتفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬الدقيقة،‭ ‬وخاصة‭ ‬كاتب‭ ‬السرد،‭ ‬ماذا‭ ‬أضافت‭ ‬الصحافة‭ ‬إلى‭ ‬إبداعك‭ ‬القصصي،‭ ‬وماذا‭ ‬أخذت‭ ‬منك؟‭ ‬حدثني‭ ‬كصحفي‭ ‬بارز‭ ‬ورئيس‭ ‬تحرير‭ ‬لمجلة‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬حضورها‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬الثقافي‭ ‬والسياسي‭ ‬معًا‭.‬

‭- ‬أعتقد‭ ‬أنَّ‭ ‬الصحافة‭ ‬كانت‭ ‬إضافة‭ ‬فاعلة‭ ‬وزادًا‭ ‬معرفيًا‭ ‬وثقافيًا‭ ‬وافرًا‭ ‬ودسمًا،‭ ‬الصحافة‭ ‬مكنتني‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬بما‭ ‬يدور‭ ‬حولي‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬وأشخاص‭ ‬ومواقف،‭ ‬أتاحت‭ ‬لي‭ ‬الاحتكاك‭ ‬والزمالة‭ ‬وحتى‭ ‬الصداقة‭ ‬بكبار‭ ‬الكتّاب‭ ‬والأدباء‭ ‬والفنّانين‭ ‬والسياسيين،‭ ‬كنتُ‭ ‬أنهلُ‭ ‬من‭ ‬معين‭ ‬متنوع‭ ‬المذاقات‭ ‬والألوان،‭ ‬تعلّمت‭ ‬منهم‭ ‬جميعًا‭ ‬فكريًا‭ ‬ومهنيًا،‭ ‬خبرت‭ ‬القول،‭ ‬متى‭ ‬وكيف،‭ ‬تمعنت‭ ‬أساليبهم‭ ‬في‭ ‬العطاء،‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أتميز‭ ‬بأسلوب‭ ‬يُحدّد‭ ‬ملامح‭ ‬شخصيتي‭ ‬الأدبية،‭ ‬وأعتقد‭ ‬أنني‭ ‬وُفّقت‭.‬

لابدّ‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لكلّ‭ ‬مبدعٍ‭ ‬مهنته،‭ ‬المهنة‭ ‬عمومًا‭ ‬تعوق‭ ‬المبدع،‭ ‬تلتهم‭ ‬وقته،‭ ‬تبدّد‭ ‬أحيانًا‭ ‬حالة‭ ‬الإبداع‭ ‬التي‭ ‬قدْ‭ ‬تنتابه‭ ‬فجأة‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬لحظة،‭ ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬تعود‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬حين،‭ ‬لكن‭ ‬الإبداع‭ ‬لا‭ ‬يطعم‭ ‬المبدع‭ ‬غير‭ ‬الإطراء،‭ ‬أما‭ ‬المهنة‭ ‬فهي‭ ‬التي‭ ‬تطعم‭ ‬المبدع‭ ‬الرغيف،‭ ‬وتُبقي‭ ‬على‭ ‬الحياة،‭ ‬مهنة‭ ‬الصحافة‭ ‬إعاقة‭ ‬طرية‭ ‬رحيمة،‭ ‬تصوّر‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬المبدع‭ ‬سباكًا‭ ‬أو‭ ‬حدادًا،‭ ‬تخيّل‭ ‬ضراوة‭ ‬وحجم‭ ‬الإعاقة‭ ‬والمعاناة‭!‬

وُلِدتُ‭ ‬في‭ ‬أسرة‭ ‬فقيرة،‭ ‬ونشأت‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬مدقعة،‭ ‬وترعرت‭ ‬في‭ ‬«زنقة‭ ‬العويلة» ‬بحي‭ ‬«سيدي‭ ‬حسين » ‬بمدينتي‭ ‬بنغازي‭. ‬وبنغازي‭ ‬وطن‭ ‬في‭ ‬مدينة،‭ ‬وحي‭ ‬سيدي‭ ‬حسين‭ ‬كان‭ ‬عائلة‭ ‬واحدة،‭ ‬كانت‭ ‬الجوانيات‭ ‬مشرعة‭ ‬النوافذ،‭ ‬كانت‭ ‬الأفراح‭ ‬والأتراح‭ ‬مشتركة،‭ ‬كانت‭ ‬أبواب‭ ‬بيوتنا‭ ‬البسيطة‭ ‬مفتوحة،‭ ‬عجائزنا‭ ‬أمهاتنا‭ ‬وبناتنا‭ ‬أخواتنا‭ ‬وأولادنا‭ ‬إخوتنا،‭ ‬وكل‭ ‬رجل‭ ‬من‭ ‬رجالنا‭ ‬أبٌ‭ ‬نخشاه‭ ‬ونحترمه،‭ ‬وندين‭ ‬لهُ‭ ‬بالطاعة‭ ‬والولاء‭.‬

هذا‭ ‬أتاح‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أغوص‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬النفوس،‭ ‬أن‭ ‬أتفاعل‭ ‬ودقائق‭ ‬تفاصيل‭ ‬الجوانيات،‭ ‬أن‭ ‬أعايش‭ ‬المعاناة‭ ‬والضنك،‭ ‬أتقمص‭ ‬شخصيات‭ ‬تكابد‭ ‬وتتوق‭ ‬ثم‭ ‬تتمرّد،‭ ‬وتواجه‭ ‬حتى‭ ‬تنتصر‭ ‬إرادة‭ ‬الحياة،‭ ‬وتتحقق‭ ‬الآمال،‭ ‬وتخفق‭ ‬القلوب‭ ‬بالحبّ‭ ‬والأمل‭ ‬والعطاء‭.‬

الإضافة‭ ‬الأساسية‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬«الحقيقة» ،‭ ‬والإضافة‭ ‬اللاحقة‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬مجلة‭ ‬«الموقف‭ ‬العربي » ‬الأسبوعية‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬كنتُ‭ ‬ناشرها‭ ‬ورئيس‭ ‬تحريرها‭ ‬في‭ ‬نيقوسيا‭ / ‬قبرص،‭ ‬ففيها‭ ‬حظيت‭ ‬بتعاون‭ ‬كبار‭ ‬كتّاب‭ ‬وأدباء‭ ‬وشعراء‭ ‬وصحفيي‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬مع‭ ‬حفظ‭ ‬مقامات‭ ‬كل‭ ‬أولئك‭ ‬النجوم‭ ‬المشعة،‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬نزار‭ ‬قباني،‭ ‬ويوسف‭ ‬إدريس،‭ ‬وكامل‭ ‬زهيري،‭ ‬وصلاح‭ ‬عيسى،‭ ‬ومصطفى‭ ‬الحسيني،‭ ‬وفريدة‭ ‬النقاش،‭ ‬وحيدر‭ ‬حيدر،‭ ‬وعِذاب‭ ‬الركابي،‭ ‬وجمال‭ ‬الغيطاني،‭ ‬ويوسف‭ ‬القعيد،‭ ‬ومحمود‭ ‬الورداني،‭ ‬وكوكبة‭ ‬من‭ ‬فرسان‭ ‬الكلمة‭ ‬والفكر‭.‬

حظيت‭ ‬بزمالة‭ ‬معتز‭ ‬ميداني،‭ ‬وفاضل‭ ‬العزاوي،‭ ‬وسعدي‭ ‬يوسف،‭ ‬وشوقي‭ ‬رافع،‭ ‬وربعي‭ ‬المدهون،‭ ‬وجمال‭ ‬فهمي،‭ ‬وطلال‭ ‬حيدر،‭ ‬وبول‭ ‬شاؤول‭. ‬ربطتني‭ ‬بكل‭ ‬هذهِ‭ ‬القامات‭ ‬الرفيعة‭ ‬صداقات،‭ ‬ستبقى‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬محط‭ ‬مودّة‭ ‬وإكبار‭.‬

الصحافة‭ ‬خلت‭ ‬بي،‭ ‬واستحوذت‭ ‬على‭ ‬جلّ‭ ‬وقتي،‭ ‬وحولتني‭ ‬إلى‭ ‬مُقِلٍ‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الإبداع،‭ ‬حتى‭ ‬إنّني‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬يعودني‭ ‬قول‭ ‬الروائي‭ ‬والمفكر‭ ‬اليوناني‭ ‬نيكوس‭ ‬كازنتزاكي‭: ‬«سوف‭ ‬أموت‭ ‬وكتب‭ ‬كثيرة‭ ‬لا‭ ‬تزالُ‭ ‬في‭ ‬داخلي » !‬

 

قصصي‭ ‬تطرح‭ ‬الأسئلة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تجيب

‭• ‬أعمالك‭ ‬الإبداعية‭ ‬‮«‬أقوال‭ ‬شاهد‭ ‬عيان‮»‬‭ ‬و«أحزان‭ ‬اليوم‭ ‬الواحد‮»‬‭ ‬و«كحل‭ ‬العين‮»‬‭ ‬و«الموجة‭ ‬والرحيل‮»‬،‭ ‬وآخرها‭ ‬‮«‬السوق‭ ‬القبلي‭... ‬وقصص‭ ‬أخرى‮»‬‭. ‬كيف‭ ‬تصف‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬الشاقة‭ ‬والممتعة‭ ‬معًا؟‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الإبداعُ‭ ‬سؤالًا،‭ ‬فهل‭ ‬كانت‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬الجواب‭ ‬المتلهف‭ ‬للردّ‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬السؤال؟

‭- ‬الإبداعُ‭ ‬ممتعٌ‭ ‬وشاقٌ‭ ‬أيضًا،‭ ‬الإبداع‭ ‬عندي‭ ‬«القصّة‭ ‬القصيرة» ‭ ‬يمرّ‭ ‬بثلاث‭ ‬مراحل،‭ ‬الحمل‭ ‬وهي‭ ‬مرحلة‭ ‬تخلّق‭ ‬الفكرة‭ ‬واكتمالها،‭ ‬وهي‭ ‬مرحلة‭ ‬غير‭ ‬مقيّدة‭ ‬بزمنٍ،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬زمن‭ ‬المرحلة‭ ‬ساعة‭ ‬أو‭ ‬يومًا‭ ‬أو‭ ‬أيامًا،‭ ‬أما‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانية‭ ‬فهي‭ ‬مرحلة‭ ‬المخاض‭ ‬ذ‭ ‬الواقع‭ ‬ما‭ ‬قبلَ‭ ‬الطلق،‭ ‬وهي‭ ‬مرحلة‭ ‬لابدّ‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مكتملة‭ ‬الشروط،‭ ‬بحيث‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬ولادة‭ ‬طبيعية،‭ ‬إذا‭ ‬وهن‭ ‬المخاض‭ ‬ولم‭ ‬يصل‭ ‬حدّ‭ ‬الطلق،‭ ‬فيجب‭ ‬ألا‭ ‬يلجأ‭ ‬المبدع‭ ‬إلى‭ ‬الولادة‭ ‬القيصرية،‭ ‬لأنَّ‭ ‬الوليد‭/ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ْ‭ ‬يُجتثّ‭ ‬من‭ ‬وجدان‭ ‬المبدع،‭ ‬يُولدُ‭ ‬ميتًا‭ ‬أو‭ ‬مُشوهًا‭ ‬خلقيًا‭ ‬أو‭ ‬معاقًا،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬الحالات‭ ‬غير‭ ‬قابل‭ ‬للبقاء‭.‬

القصّة‭ ‬القصيرة‭ ‬التقليدية‭ ‬تقوم‭ ‬أساسًا‭ ‬على‭ ‬الفكرة‭ ‬والحبكة‭ ‬والعقدة‭ ‬والنّهاية‭... ‬النّهاية‭ ‬هي‭ ‬أصعب‭ ‬ما‭ ‬يواجهُ‭ ‬المبدعُ،‭ ‬النّهاية‭ ‬غير‭ ‬المتقنة‭ ‬قدْ‭ ‬تُفسد‭ ‬الإبداع،‭ ‬المبدعُ‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬واعظًا‭ ‬ولا‭ ‬مرشدًا‭... ‬شخصيًا‭ ‬أعتمد‭ ‬السرد‭ ‬وفق‭ ‬ترتيب‭ ‬سلس‭ ‬للوقائع‭ ‬والأفكار،‭ ‬بحيث‭ ‬تنتهي‭ ‬بالمتلقي‭ ‬إلى‭ ‬الانطباع‭ ‬الذي‭ ‬أسعى‭ ‬إليه،‭ ‬فلا‭ ‬يرفضني،‭ ‬بل‭ ‬ينحاز‭ ‬بالكامل‭ ‬إلى‭ ‬قولي،‭ ‬الحديث‭ ‬يطول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬ولكن‭ ‬هناك‭ ‬القصّة‭ ‬اللمحة،‭ ‬الوقدة،‭ ‬الشرارة،‭ ‬قصيرة‭ ‬أو‭ ‬قصيرة‭ ‬جدًّا،‭ ‬وهي‭ ‬وجدانية‭ ‬بامتياز‭ ‬ذات‭ ‬لغة‭ ‬شعرية،‭ ‬هي‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬القصيدة‭.‬

قصصي‭ ‬تطرحُ‭ ‬الأسئلة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تجيب،‭ ‬لا‭ ‬أحجب‭ ‬عن‭ ‬القارئ‭ ‬حقّ‭ ‬التفكير،‭ ‬حقّ‭ ‬استنباط‭ ‬الجواب‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬بلغت‭ ‬حدّ‭ ‬شعور‭ ‬القارئ‭ ‬بأنهُ‭ ‬كاتب‭ ‬العمل،‭ ‬أكون‭ ‬قد‭ ‬بلغت‭ ‬هدفي‭ ‬وسادني‭ ‬الرضا‭ ‬والحبور‭.‬

 

عبقرية‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ

‭• ‬الكاتب‭ ‬العالمي‭ ‬الكبير‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬يعرف‭ ‬أبطال‭ ‬قصصه‭ ‬ورواياته،‭ ‬وإنه‭ ‬يلتقي‭ ‬بهم‭. ‬وقصصُكَ‭ ‬مرآة‭ ‬عاكسة‭ ‬للواقع،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬الواقع‭ ‬الليبي‭ ‬بكل‭ ‬تفاصيله،‭ ‬وأبطالك‭ ‬حقيقيون،‭ ‬كل‭ ‬حرف،‭ ‬وكل‭ ‬كلمة،‭ ‬وكل‭ ‬جملة‭ ‬تقولُ‭ ‬ذلك‭... ‬كيف‭ ‬كانت‭ ‬علاقتك‭ ‬بهم؟

‭- ‬الإجابة‭ ‬في‭ ‬سؤالك،‭ ‬أيضًا‭ ‬فيما‭ ‬قلتُ‭ ‬عن‭ ‬«زنقة‭ ‬العويلة» ‬وحي‭ ‬«سيدي‭ ‬حسين »‭ ‬وبنغازي،‭ ‬لكنني‭ ‬أريد‭ ‬أنْ‭ ‬أقولَ‭ ‬إنّني‭ ‬قرأت‭ ‬مرات‭ ‬عدة‭ ‬روايات‭ ‬وقصص‭ ‬الأسطورة‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬العقل‭ ‬الجبّار‭ ‬الذي‭ ‬ينسج‭ ‬الرواية‭ ‬كما‭ ‬بيت‭ ‬العنكبوت،‭ ‬بمنتهى‭ ‬الدقة،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يغيب‭ ‬عنه‭ ‬أي‭ ‬تفصيل‭ ‬مهما‭ ‬تناهى‭ ‬في‭ ‬صغره‭ ‬بلغة‭ ‬تضيف‭ ‬إلى‭ ‬المتلقي،‭ ‬سرد‭ ‬سلس‭ ‬متوائم،‭ ‬بغوص‭ ‬غطاس‭ ‬قدير‭ ‬في‭ ‬جزئيات‭ ‬شخوصه،‭ ‬بإدراك‭ ‬دقيق‭ ‬لعنصري‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬استفدت‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬جزئيات‭ ‬عبقرية‭ ‬هذا‭ ‬الكاتب‭ ‬العظيم‭.‬

أعرفُ‭ ‬أبطال‭ ‬قصصي،‭ ‬أبطالي‭ ‬حقيقيون‭ ‬في‭ ‬الغالب،‭ ‬أمّي‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬«كحل‭ ‬العين » ‬في‭ ‬مجموعتي‭ ‬القصصية‭ ‬التي‭ ‬أسميتها‭ ‬«كحل‭ ‬العين » .‬

‭• ‬يقولُ‭ ‬عنك‭ ‬الناقد‭ ‬الأكاديمي‭ ‬د‭. ‬عبدالجواد‭ ‬عباس‭: ‬‮«‬لعل‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬محمد‭ ‬الشويهدي‭ ‬هو‭ ‬تغطيته‭ ‬القصصية‭ ‬لمرحلة‭ ‬الخمسينيات‭ ‬والستينيات‭ ‬التي‭ ‬مرّ‭ ‬بها‭ ‬مجتمع‭ ‬بنغازي‭ ‬بالذات،‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬ومجُمل‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬للمجتمع‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‮»‬‭. ‬

‭- ‬ها‭ ‬قد‭ ‬أضاف‭ ‬د‭. ‬عباس‭ ‬إلى‭ ‬إجابتي‭ ‬وأثراها،‭ ‬أحسّ‭ ‬إحساسًا‭ ‬عميقًا‭ ‬بأنَّ‭ ‬هذا‭ ‬الناقد‭ ‬الكبير‭ ‬قدْ‭ ‬غاصَ‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬قصصي‭ ‬بقراءة‭ ‬متأنية،‭ ‬وعين‭ ‬خبيرة‭ ‬مكنته‭ ‬من‭ ‬التحليل‭ ‬الدقيق،‭ ‬والاستنتاج‭ ‬السليم،‭ ‬رغم‭ ‬أنني‭ ‬لمْ‭ ‬ألتقِ‭ ‬بهِ‭ ‬شخصيًا‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬فالتواصل‭ ‬معهُ‭ ‬مقتصرٌ‭ ‬على‭ ‬الهاتف‭ ‬بين‭ ‬حينٍ‭ ‬وآخرَ‭.‬

 

الإبداعُ‭ ‬قليلٌ‭ ‬من‭ ‬الحقيقة‭... ‬وكثيرٌ‭ ‬من‭ ‬الخيال

‭• ‬يقول‭ ‬أندريه‭ ‬مورو‭: ‬‮«‬الأدب‭ ‬بمجموعه‭ ‬مُتخيّل‮»‬‭! ‬ما‭ ‬دور‭ ‬الخيال‭ ‬والفانتازيا‭ ‬في‭ ‬قصصك؟‭ ‬البعض‭ ‬يراها‭ ‬‮«‬مُقبّل‮»‬‭ ‬وفاتح‭ ‬شهية‭ ‬للمزيد‭ ‬من‭ ‬الجذب‭ ‬والقراءة‭! ‬والسرد‭ ‬بأنواعه‭ ‬الواقع‭/ ‬الخيال،‭ ‬والخيال‭/ ‬الواقع،‭ ‬ما‭ ‬تعليقك؟

‭- ‬الإبداعُ،‭ ‬الأدب‭  ‬هو‭ ‬قليلٌ‭ ‬من‭ ‬الحقيقة،‭ ‬وكثيرٌ‭ ‬من‭ ‬الخيال،‭ ‬نقل‭ ‬الواقع‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تشذيب‭ ‬أو‭ ‬تهذيب‭ ‬وتجميل‭ ‬وتطييب،‭ ‬ليس‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬تقرير‭ ‬صحفي‭ ‬لا‭ ‬يرقى‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬الإبداع،‭ ‬القاص‭ ‬الجيد‭ ‬لابدّ‭ ‬أن‭ ‬يشدّ‭ ‬القارئ‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬الفقرة‭ ‬الأولى‭  ‬في‭ ‬القصّة،‭ ‬السطور‭ ‬الأولى،‭ ‬إمّا‭ ‬أن‭ ‬تكونَ‭ ‬طاردة‭ ‬أو‭ ‬جاذبة،‭ ‬وفي‭ ‬السطور‭ ‬الأولى‭ ‬تتجلى‭ ‬مهارة‭ ‬القاص‭ ‬وقدرته،‭ ‬القصّة‭ ‬القصيرة‭ ‬فكرة،‭ ‬جرعة‭ ‬قدْ‭ ‬تكون‭ ‬مُرّة‭ ‬المذاق،‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬مرفوضة،‭ ‬الفانتازيا‭ ‬الراقية،‭ ‬الخيال‭ ‬الجميل،‭ ‬ييسران‭ ‬ابتلاع‭ ‬الجرعة،‭ ‬ويحققان‭ ‬متعة‭ ‬القراءة،‭ ‬بحيث‭ ‬تُشبع‭ ‬القصة‭ ‬مثلًا‭ ‬رغبة‭ ‬القارئ‭ ‬في‭ ‬إضافة‭ ‬جديد‭ ‬إلى‭ ‬فكرهِ،‭ ‬ولا‭ ‬تكون‭ ‬مجرّد‭ ‬«تحصيل‭ ‬حاصل » ،‭ ‬يبتاعهُ‭ ‬القارئ‭ ‬بوقتهِ‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬عائد‭.‬

 

الواقع‭ ‬الثقافي‭ ‬كان‭ ‬معطاء‭ ‬متألقًا

‭• ‬فقدت‭ ‬الساحة‭ ‬الليبية‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬العجاف‭ ‬كبار‭ ‬الكتّاب‭ ‬والشعراء‭ ‬والمفكرين‭ ‬والفنّانين‭ ‬الليبيين،‭ ‬وتركوا‭ ‬فراغًا‭ ‬كبيرًا‭: ‬علي‭ ‬فهمي‭ ‬خشيم،‭ ‬وخليفة‭ ‬الفاخري،‭ ‬وعلي‭ ‬الفزاني،‭ ‬والصادق‭ ‬النيهوم،‭ ‬ومحمّد‭ ‬الزواوي،‭ ‬وحسن‭ ‬عريبي‭ ‬ومحمّد‭ ‬إستيته‭ ‬وغيرهم‭... ‬كيف‭ ‬تقرأ‭ ‬الواقع‭ ‬الثقافي‭ ‬الآن؟‭ ‬وبكاميرا‭ ‬الذات‭ ‬المبدعة،‭ ‬كيف‭ ‬تقيّم‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬أمس‭ ‬واليوم؟

‭- ‬الكبارُ‭ ‬يرحلونَ‭ ‬مُبكرًا،‭ ‬أتيتَ‭ ‬على‭ ‬كلّ‭ ‬القامات‭ ‬السامقة‭ ‬التي‭ ‬أثرت‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬تقريبًا،‭ ‬وأضافت‭ ‬إلى‭ ‬الفكر‭ ‬الإنساني‭ ‬وإلى‭ ‬الشعر‭ ‬والفنّ،‭ ‬كل‭ ‬ضروب‭ ‬المعرفة،‭ ‬شاركت‭ ‬في‭ ‬تخليق‭ ‬هوية‭ ‬الوجدان‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭.‬

الواقع‭ ‬الثقافي‭ ‬بالأمس‭ ‬كانَ‭ ‬معطاءً‭ ‬متألقًا،‭ ‬برموز‭ ‬ثقافية‭ ‬ثرية‭ ‬تطاولُ‭ ‬العالمية،‭ ‬تضرب‭ ‬بجذورها‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬الأرض،‭ ‬وتمتد‭ ‬بفروعها‭ ‬إلى‭ ‬فضاءات‭ ‬الدنيا‭ ‬انتماءً‭ ‬ووطنية‭ ‬وإشعاعًا‭ ‬معرفيًا‭ ‬متميزًا،‭ ‬تلك‭ ‬الرموز‭ ‬نمت‭ ‬وترعرعت‭ ‬وكبرت‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عقود،‭ ‬تلك‭ ‬الرموز‭ ‬ليست‭ ‬نبتًا‭ ‬شيطانيًا‭ ‬ظهر‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الأرض‭ ‬في‭ ‬غفلة‭ ‬من‭ ‬النماء،‭ ‬فيتطاول‭ ‬ويتسلق‭ ‬ثم‭ ‬يذبل،‭ ‬بل‭ ‬ويموت‭ ‬لكونه‭ ‬غير‭ ‬مثمر،‭ ‬هؤلاء‭ ‬الكبار‭ ‬توافرت‭ ‬لهم‭ ‬البيئة‭ ‬المواتية‭ ‬والرعاية‭ ‬المثابرة‭ ‬والفرصة‭ ‬السانحة‭ ‬والمعرفة‭ ‬الغزيرة،‭ ‬فتواكب‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬وتماهى‭ ‬مع‭ ‬استعدادهم‭ ‬الفطري‭ ‬وتكوينهم‭ ‬الذهني،‭ ‬ومواهبهم‭ ‬وقدراتهم،‭ ‬فأثمروا‭ ‬التين‭ ‬والزيتون‭ ‬والفل‭ ‬والياسمين،‭ ‬غذوا‭ ‬الوجدان‭ ‬وأمتعوه‭.‬

هؤلاءِ‭ ‬الكبار‭ ‬تركوا‭ ‬فراغًا‭ ‬كبيرًا،‭ ‬بل‭ ‬أقول‭ ‬تركوا‭ ‬رواق‭ ‬الثقافة‭ ‬شاغرًا،‭ ‬الجيل‭ ‬الواعد‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬والكتّاب‭ ‬والصحفيين‭ ‬والفنّانين‭ ‬الذي‭ ‬بدأت‭ ‬بشائر‭ ‬نبوغه‭ ‬بالأمس،‭ ‬والمأمول‭ ‬فيه‭ ‬سدّ‭ ‬الفراغ،‭ ‬أحرقه‭ ‬«الربيع‭ ‬العربي » ،‭ ‬فانزوى،‭ ‬وتوارى،‭ ‬واختفى‭.‬

   

الربيع‭ ‬الليبي‭ ‬كان‭ ‬مؤامرة‭ ‬

‭• ‬واقعنا‭ ‬العربي‭ ‬سوداوي،‭ ‬ومحبط،‭ ‬وهزيل،‭ ‬أي‭ ‬دورٍ‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تؤديه‭ ‬الثقافة‭ ‬والإبداع‭ ‬فيه؟‭ ‬قل‭ ‬لي‭: ‬كيف‭ ‬تفسّر‭ ‬صمت‭ ‬المثقفين‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬من‭ ‬حروب‭ ‬إقليمية‭ ‬مفتعلة،‭ ‬وفتن‭ ‬طائفية،‭ ‬وتبعية،‭ ‬واحتلال،‭ ‬وفرقة،‭ ‬وشراسة‭ ‬قوى‭ ‬الظلام‭ ‬ممن‭ ‬يريدون‭ ‬بنا‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬خمسة‭ ‬عشر‭ ‬قرنًا‭ ‬مضت؟‭ ‬

‭- ‬ما‭ ‬يصفهُ‭ ‬الصهيونيّ‭ ‬برنار‭ ‬هنري‭ ‬ليفي،‭ ‬عرّاب‭ ‬نكبة‭ ‬ليبيا‭ ‬في‭ ‬كتابهِ‭ ‬«يوميات‭ ‬كاتب‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الربيع‭ ‬العربي » ،‭ ‬ما‭ ‬يصفهُ‭ ‬بالربيع‭ ‬الليبي‭ ‬كانَ‭ ‬مؤامرة‭ ‬مكتملة‭ ‬الأركان،‭ ‬شأن‭ ‬كلّ‭ ‬ربيع‭ ‬أصاب‭ ‬قطرًا‭ ‬عربيًّا‭. ‬

الوطن‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬المحيط‭ ‬إلى‭ ‬الخليج‭ ‬يكادُ‭ ‬يكون‭ ‬قارة‭ ‬تطفح‭ ‬على‭ ‬بحيرات‭ ‬من‭ ‬النفط‭ ‬والغاز،‭ ‬بطون‭ ‬أراضيها‭ ‬حقول‭ ‬ذهب‭ ‬ومعادن‭ ‬ثمينة،‭ ‬موقعها‭ ‬استراتيجي‭ ‬يشرف‭ ‬على‭ ‬بحرين‭ )‬المتوسط‭ ‬والأحمر )‭ ‬وعلى‭ ‬محيط،‭ ‬حديقتها‭ ‬الخلفية‭ ‬البكر‭ ‬إفريقيا‭ ‬السمراء،‭ ‬ثرية‭ ‬مثمرة‭ ‬جذابة،‭ ‬قارة‭ ‬بكل‭ ‬هذهِ‭ ‬المواصفات‭ ‬تثير‭ ‬شهية‭ ‬الاستعمار‭ ‬العجوز،‭ ‬فيبتكر‭ ‬«الربيع‭ ‬العربي »  ‬ويُمنّي‭ ‬بربيع‭ ‬الياسمين،‭ ‬فيجتاح‭ ‬الأوطان‭ ‬ويحوز‭ ‬المغانم،‭ ‬ولا‭ ‬يتنسم‭ ‬الهنود‭ ‬الحمر‭ ‬الجدد‭ ‬إلاّ‭ ‬روائح‭ ‬البارود‭ ‬والدماء‭ ‬والموت‭.‬

الوطن‭ ‬الليبي‭ ‬بعد‭ ‬ربيع‭ ‬«ليفي »‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬وطن‭ ‬مُستباح،‭ ‬منهوب‭ ‬الأرض‭ ‬والعرض‭ ‬والقوت‭... ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬بعد‭ ‬«سايكس‭ ‬بيكو‭ ‬الثانية» ‬مُنتهك،‭ ‬إمّا‭ ‬باحتلال‭ ‬عسكري‭ ‬مباشر‭ ‬وإما‭ ‬باحتلال‭ ‬عسكري‭ ‬موارب،‭ ‬بين‭ ‬ابتزاز‭ ‬يرقى‭ ‬إلى‭ ‬الحرابة‭ ‬أو‭ ‬حروب‭ ‬استنزاف‭ ‬تخلخل‭ ‬الاستقرار،‭ ‬وتشيع‭ ‬الفوضى‭ ‬والدمار‭. ‬تصوّر‭ ‬أقصى‭ ‬أحلام‭ ‬العدو‭ ‬الصهيوني‭ ‬كان‭ ‬«الأرض‭ ‬الموعودة»  ‬من‭ ‬النّهر‭ ‬إلى‭ ‬البحر،‭ ‬نكبة‭ ‬ربيع‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬فاقت‭ ‬كلّ‭ ‬أحلام‭ ‬بني‭ ‬صهيون،‭ ‬هم‭ ‬الآن‭ ‬يتطلعون‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬موعودة‭ ‬أخرى،‭ ‬تمتد‭ ‬من‭ ‬شواطئ‭ ‬البحرَين‭ ‬الأبيض‭ ‬والأحمر‭ ‬إلى‭ ‬ضفاف‭ ‬المحيط،‭ ‬الجيوش‭ ‬العربية‭ ‬أبيدت‭ ‬بذريعة‭ ‬«حماية‭ ‬المدنيين » ،‭ ‬والحديث‭ ‬عن‭ ‬تحرير‭ ‬فلسطين‭ ‬صارَ‭ ‬هراءً‭.‬

آخر‭ ‬إحصائية‭ ‬صدرت‭ ‬عن‭ ‬المنظمة‭ ‬العربية‭ ‬للتربية‭ ‬والثقافة‭ ‬والعلوم‭ )‬ألكسو‭( ‬في‭ ‬2015‭ ‬م‭ ‬تفيد‭ ‬بأنَّ‭ ‬نسبة‭ ‬الأمية‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬بلغت‭ ‬27.1‭ ‬في‭ ‬المئة،‭ ‬وأنَّ‭ ‬عدد‭ ‬الأميين‭ ‬يقارب‭ ‬54‭ ‬مليونًا،‭ ‬هؤلاء‭ ‬غير‭ ‬القادرين‭ ‬على‭ ‬«فكّ‭ ‬الخط » ‭. ‬

الكارثة‭ ‬الأكبر‭ ‬تطول‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬جلّ‭ ‬الجامعات‭ ‬تُخرّج‭ ‬جهلة،‭ ‬يتخذون‭ ‬من‭ ‬الليسانس‭ ‬أو‭ ‬البكالوريوس‭ ‬رخصة‭ ‬تعيين‭ ‬أو‭ ‬وسيلة‭ ‬وجاهة‭.‬

لغتنا‭ ‬العربية‭ ‬مستهدفة،‭ ‬ذلك‭ ‬لأَّنَّ‭ ‬لغتك‭ ‬هويتك،‭ ‬ترمى‭ ‬بالمفردات‭ ‬الأجنبية،‭ ‬تُلوث‭ ‬بالأخطاء‭ ‬اللغوية‭ ‬والنحوية‭ ‬والإملائية،‭ ‬تقابل‭ ‬بالاستخفاف‭ ‬والسّخرية‭ ‬عند‭ ‬المشافهة،‭ ‬لغتنا‭ ‬لغة‭ ‬كتاب‭ ‬الله‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬تُطمس‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬كتّابها‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬استعراض‭ ‬المعارف‭ ‬والزهو‭ ‬بإتقان‭ ‬لغات‭. ‬هم‭ ‬لا‭ ‬يريدون‭ ‬بنا‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭ ‬قروناً،‭ ‬نحنُ‭ ‬في‭ ‬الوراء‭ ‬تمامًا،‭ ‬هم‭ ‬يروننا‭ ‬قطيعًا‭ ‬من‭ ‬البهائم،‭ ‬يُساقُ‭ ‬بالعصا‭ ‬ويطعم‭ ‬البرسيم‭. ‬الواقع‭ ‬العربي‭ ‬سوداوي‭ ‬مُحبِط،‭ ‬لا‭ ‬دور‭ ‬للثقافة‭ ‬حاليًا‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬ومناخ‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭.‬

 

‭ ‬أنا‭ ‬أكتبُ‭ ‬كيْ‭ ‬أتنفس‭... ‬كيْ‭ ‬أحيّا

‭• ‬يقول‭ ‬الكاتب‭ ‬العظيم‭ ‬آرنست‭ ‬همنجواي‭: ‬‮«‬ومتى‭ ‬أصبحت‭ ‬الكتابة‭ ‬بليتك‭ ‬الكبرى،‭ ‬ومتعتك‭ ‬الأكبر،‭ ‬فلن‭ ‬يوقفها‭ ‬منك‭ ‬سوى‭ ‬الموت‮»‬،‭ ‬لماذا‭ ‬نكتب؟‭ ‬وما‭ ‬جدوى‭ ‬الكتابة؟

‭- ‬الكتابة‭ ‬حالة‭ ‬تدهم‭ ‬المبدع‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ميعاد،‭ ‬قدْ‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬فراشهِ‭ ‬متهيئًا‭ ‬للنوم،‭ ‬قدْ‭ ‬يكون‭ ‬مبكرًا‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬إلى‭ ‬العمل،‭ ‬أثناء‭ ‬خلوة‭ ‬قراءة،‭ ‬في‭ ‬مقهى‭ ‬مع‭ ‬أصدقاء،‭ ‬أستاذي‭ ‬وصديقي‭ ‬الرائع‭ ‬الكاتب‭ ‬الكبير‭ ‬علي‭ ‬مصطفى‭ ‬المصراتي‭ ‬كان‭ ‬يهاتفني‭ ‬أو‭ ‬أهاتفهُ‭ ‬كيْ‭ ‬نلتقي‭ ‬في‭ ‬مقهى،‭ ‬في‭ ‬العادة‭ ‬تلتقي‭ ‬نخبة‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬والكتّاب،‭ ‬فيتجلى‭ ‬الشيخ‭ ‬علي‭ ‬مصطفى‭ ‬المصراتي،‭ ‬ويمتعنا‭ ‬بسرعة‭ ‬البديهة‭ ‬والنكتة‭ ‬اللاذعة،‭ ‬وفجأة،‭ ‬يخرج‭ ‬مفكرته‭ ‬الصغيرة،‭ ‬وينزوي‭ ‬ويخط‭ ‬رؤوس‭ ‬مواضيع‭ ‬أو‭ ‬أفكار،‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬يتجهم‭ ‬ويطلب‭ ‬منّي‭ ‬آمرًا‭: ‬خذني‭ ‬إلى‭ ‬البيت،‭ ‬وندرك‭ ‬أنَّ‭ ‬حالة‭ ‬الإبداع‭ ‬انتابته‭.‬

أنا‭ ‬أكتبُ‭ ‬كيْ‭ ‬أتنفس،‭ ‬كيْ‭ ‬أحيا،‭ ‬كيْ‭ ‬أتذوق‭ ‬لذة‭ ‬الإفصاح‭ ‬عن‭ ‬أفكاري‭ ‬ومشاعري،‭ ‬أعتقد‭ ‬أنني‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬أكتب‭ ‬فسأنفجر،‭ ‬فعلًا‭ ‬إنَّ‭ ‬الكتابة‭ ‬بليّة‭ ‬كبرى،‭ ‬وممتعة،‭ ‬أتمنى‭ ‬على‭ ‬الموت‭ ‬أن‭ ‬يتأنّى‭ ‬ويدعني‭ ‬أعاني‭ ‬من‭ ‬بليتي‭ ‬الممتعة،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عنه‭.‬

 

الرواية‭ ‬عملية‭ ‬مضنية

‭• ‬آخر‭ ‬أعمالك‭ ‬الإبداعية‭ ‬القصصية‭ ‬‮«‬السوق‭ ‬القبلي‭.. ‬وقصص‭ ‬أخرى‮»‬‭ ‬وقد‭ ‬أجمع‭ ‬النقاد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬قصتك‭ ‬‮«‬السوق‭ ‬القبلي‮»‬‭ ‬هي‭ ‬رواية‭ ‬قصيرة‭/ ‬نوفيلا‭... ‬ماذا‭ ‬تقول؟‭ ‬أهي‭ ‬تمرين‭ ‬كتابة‭ ‬جاد‭ ‬لرواية‭ ‬قادمة؟

‭- ‬بعدَ‭ ‬تمعّن‭ ‬إجماع‭ ‬النقّاد‭ ‬على‭ ‬أنَّ‭ ‬«السوق‭ ‬القبلي » ‭ ‬هي‭ ‬رواية‭ ‬قصيرة‭/ ‬نوفيلا،‭ ‬أدركت‭ ‬أنَّ‭ ‬«السوق‭ ‬القبلي »‭ ‬كذلك،‭ ‬أصارحك؛‭ ‬لم‭ ‬يكنْ‭ ‬واردًا‭ ‬عندي‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬كتابة‭ ‬رواية،‭ ‬كنت‭ ‬أعتقد‭ ‬دائمًا‭ ‬أنّي‭ ‬كاتب‭ ‬قصّة‭ ‬قصيرة،‭ ‬لكن‭ ‬«السوق‭ ‬القبلي » ‬تدفقت‭ ‬بشخوصها‭ ‬وأحداثها‭ ‬وأزمانها،‭ ‬فضاقت‭ ‬بهم‭ ‬مساحة‭ ‬القصّة‭ ‬القصيرة،‭ ‬اتّسعت‭ ‬الرقعة‭ ‬حتى‭ ‬حدود‭ ‬الرواية‭ ‬القصيرة،‭ ‬فكانت‭ ‬االسوق‭ ‬القبليب‭.‬

كتابة‭ ‬الرواية‭ ‬عملية‭ ‬مضنية،‭ ‬زادها‭ ‬الصبرُ‭ ‬والكفاءة‭ ‬والمكابدة‭ ‬والحرفية‭ ‬العالية،‭ ‬أتصور‭ ‬كاتب‭ ‬الرواية‭ ‬وبيده‭ ‬ألف‭ ‬خيط،‭ ‬وكل‭ ‬خيط‭ ‬مشدود‭ ‬إلى‭ ‬شخص‭ ‬أو‭ ‬مكان‭ ‬أو‭ ‬زمان‭ ‬أو‭ ‬فكرة،‭ ‬وعلى‭ ‬كاتب‭ ‬الرواية‭ ‬أن‭ ‬يُحرّك‭ ‬كل‭ ‬هذهِ‭ ‬الخيوط‭ ‬بمهارة‭ ‬وحرفية‭ ‬وفطنة‭ ‬وانتباه،‭ ‬مهما‭ ‬تضاءل‭ ‬شأن‭ ‬المشدود‭ ‬إلى‭ ‬الخيط‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬السرد،‭ ‬بحيث‭ ‬تتماهى‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬والمحور‭ ‬الرئيس‭ ‬للرواية،‭ ‬وتنتهي‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬ممتعة‭ ‬بالقارئ‭ ‬إلى‭ ‬الغاية‭ ‬من‭ ‬النصّ‭. ‬بدأت‭ ‬كتابة‭ ‬رواية‭ ‬هي‭ ‬«اربيع‭ ‬وطن » ‬قصة‭ ‬حبّ‭ ‬بين‭ ‬«ربيع » ‭ ‬و«نوارة» ‭ ‬الطالبين‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الحقوق‭ ‬قبل‭ ‬فبراير،‭ ‬تتماهى‭ ‬والربيع‭ ‬الليبي،‭ ‬وتنتهي‭ ‬بأيلولة‭ ‬ليبيا‭ ‬إلى‭ ‬الدمار‭ ‬الشامل،‭ ‬وبالحب‭ ‬البكر‭ ‬العفيف‭ ‬إلى‭ ‬كارثة‭.‬

بين‭ ‬يدي‭ ‬أيضًا‭ ‬مشروع‭ ‬مجموعة‭ ‬قصص‭ ‬قصيرة‭ ‬«رهن‭ ‬الإقامة‭ ‬الطوعية» ،‭ ‬ورغم‭ ‬تفرغي‭ ‬للقراءة‭ ‬والكتابة،‭ ‬فإن‭ ‬الأحداث‭ ‬الجارية‭ ‬في‭ ‬وطني‭ ‬تنتزعني‭ ‬من‭ ‬أجواء‭ ‬الكتابة،‭ ‬وتصيّرني‭ ‬مزاجًا‭ ‬متوترًا‭ ‬مترقبًا‭ ‬متوجسًا،‭ ‬أيضًا‭ ‬كتابة‭ ‬رواية‭ ‬قد‭ ‬تقتضي‭ ‬سنوات‭.‬

تبقى‭ ‬مشكلة‭ ‬النشر،‭ ‬فصناعة‭ ‬الكتاب‭ ‬الورقي‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬رائجة‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬النشر‭ ‬الإلكتروني‭ ‬أتى‭ ‬عليها‭ ‬تمامًا،‭ ‬الناشر‭ ‬تاجر‭ ‬تخضع‭ ‬حساباته‭ ‬للربح،‭ ‬فلا‭ ‬ألوم‭ ‬الناشرين‭ ‬الخواص،‭ ‬هم‭ ‬ليسوا‭ ‬جمعيات‭ ‬خيرية،‭ ‬كفاهم‭ ‬مصاريف‭ ‬الشحن‭ ‬الباهظة،‭ ‬ومقاص‭ ‬الرقباء‭ ‬المتحفزين‭. ‬الناشر‭ ‬يشترط‭ ‬على‭ ‬المبدع‭ ‬دفع‭ ‬تكاليف‭ ‬الطباعة،‭ ‬وعدم‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬عائد‭ ‬البيع،‭ ‬واقتصار‭ ‬التوزيع‭ ‬على‭ ‬بلد‭ ‬المنشأ،‭ ‬فدعني‭ ‬استدعي‭ ‬قول‭ ‬الشاعر‭ ‬محمود‭ ‬غنيم‭ ‬مُداعبًا‭:‬

هوّن‭ ‬عليك‭ ‬وجفّف‭ ‬دمعَكَ‭ ‬الغالي

لا‭ ‬يجمعُ‭ ‬اللهُ‭ ‬بين‭ ‬الشِّعرِ‭ ‬والمالِ

دور‭ ‬النشر‭ ‬الرسمية‭ ‬لا‭ ‬تنشر‭ ‬إلاّ‭ ‬ما‭ ‬يتوافق‭ ‬وسياساتها،‭ ‬وهذا‭ ‬حقّ‭ ‬أصيل،‭ ‬ومنطقي،‭ ‬ومبرّر‭ ‬منها،‭ ‬لكنه‭ ‬غير‭ ‬مُجاهر‭ ‬بهِ،‭ ‬وهكذا‭ ‬ما‭ ‬على‭ ‬المبدع‭ ‬إلاّ‭ ‬أنْ‭ ‬يسعى‭ ‬بين‭ ‬الصفا‭ ‬والمروة‭ ‬حتى‭ ‬يهلك‭ ‬أو‭ ‬يتوسّد‭ ‬أوراقه‭ ‬حتى‭ ‬يشيخ‭ ■