الزمن الحنون العطوف ذو الأنامل الشرسة
الغامضة
الزمن هو هذا
الامتداد السرمدي الواضح الغامض الساخر المبهج المرعب، تدور حوله علوم الفلسفة
والطبيعة والأديان والطب والتاريخ والأساطير علها تجد ثغرة تصل بها إلى معنى محدد
أو إدراك واضح. ينام على الأرض فوق طبقات جيولوجية كما تستريح القشدة فوق الفطيرة
المتقنة، يحب الحكايات والاختراعات والأكاذيب والدم والبساتين والدمار، يبدو حنونا
عطوفا وأنامله تفصل الحبل السري للوليد عن والدته ليسحبه من بين الأثداء والأحضان
ويلقي به إلى الدروب والمدارس والحقول والنساء والأولاد والمحاكم والمصانع، ثم يصنع
من هذا الحبل السري كتلا من غضون ذات ملامح مرهقة تسعى للنهاية الغامضة، أقام
للتاريخ ممالك ثم أقام للممالك تاريخا وظل يضحك دون اهتمام بمشاعر علم الاجتماع،
وليس صحيحا أن المصريين القدماء- وغيرهم من قدماء- تحدوا الزمن بهذه الصروح العتيدة
الشامخة- كما يحلو للبعض أن يصف في كتبه وأحاديثه- إنما الصحيح أن الزمن ترك على
الأرض نثارا من فتات مائدة ضخمة يقيمها بين الحين والحين لأصدقائه وندمائه الذين لا
أعرف عنهم شيئا في هذا الكون الواسع المذهل. وقد تمدد الزمن في اللغة العربية ليصبح
زمانا، ولعلها اللغة الوحيدة التي تعاملت معه بهذين اللفظين، فالزمن يكاد يعطيك
حقبة محدودة أما الزمان فيخرج على كل الأحقاب، وظل العلماء يناورون الزمن أزمانا
طويلة حتى نجح أينشتين في إدماجه داخل نظرية واحدة ليصبح البعد الرابع لأبعاد
الفراغ الثلاثة الطول والعرض والارتفاع " اختصار ضروري وشديد الإخلال لكن ما باليد
حيلة"، لكن العقل العربي العامي- ودون اهتمام بأينشتين أو نيوتن- دمج الزمان في
المكان حينما يدعو على عدوه: يخرب بيت سنينك، وعبقرية اللغة هذه جعلت البيت
"المكان" يحتوي السنين "الزمان" لحساب الخراب أي الطاقة تساوي الكتلة في مربع سرعة
الضوء، وهو القانون الخاص الذي قامت على أساسه صناعـة القنبلة الذرية لتكون
هيروشيما في اليابان هي المقصودة بخراب بيت السنين أولا ثم نجازاكي ثانيا. والقرآن
الكريم هو الكتاب الزماني المكاني السرمدي الوحيد المعروف منذ خمسة عشر قرنا، وهو
وعاء للعقل الإنساني. وجاء الفلاسفة المسلمون ليجاهدوا تحليقا وتطويعا في الزمان،
وكان منهم المتصوفة والزاهدون الذين حاولوا التخفف من الحركة والكتلة والرغبات
لحساب الزمن، غير أن البشر العاديين توقفوا في إدراكهم عند حدود الزمن التاريخي
الذي تتوالى فيه الأحداث والوقائع والنتائج لتحملها صفحات الكتب وسبورات المدارس
وأناشيد الرعاة وأساطير الهائمين في الخيال الواسع، والذي أدى بالعالم المعاصر إلى
فلسفة الوجود والعدم، تأسيسا على الزمن الوجودي الذي دبجه الألماني شوبنهاور وترجمه
العالم العظيم عبدالرحمن بدوي، وقد قرأته ولم أستطع أن أدرك ما فيه بعقلي المحدود
القاصر، ذلك أن الزمن عندي تبلور في الزمن الأخير إلى زمن روائي: يتألق فيه التعبير
اللغوي في ساحة الواقع المدرك وصولا إلى الوجدان العام "هل فهمت شيئا؟؟ " مع مراعاة
تفادي التصادم مع السلالة الكريهة التي تضع توقيعها على كل الأوراق التي في جيبك،
والتي تجيز لك حق الحركة والميراث التوريث والاقتناء والزواج والاحتكام والسفر
والمحاكمة والحصول على الماء والهواء والنقود والأولاد والبحث عمن يحمل المحفة التي
ننام - قريري العين- على خشبتها. لنتيح للآخرين صراخا يختبرون فيه الزمن الصوتي
الذي تتطلبه فنون الموسيقى. وقد أثمرت المحاولات المرهقة التي قام بها المخترعون
والمناضلون والأدباء والمفكرون إزاء الزمن عن سجادة ثمينة صغيرة يلعبون في ساحتها:
سجادة الخلود، وقد رضوا بها ورضيت بهم وأشبعت فيهم تلك النرجسية المزمنة، لكنهم لم
يتوقفوا عن استعداء الزمن وصب نقمتهم عليه، حتى اكتشف أحدهم- وهو عربي- أننا نعيب
زماننا والعيب فينا، وما لزماننا عيب سوانا، فظل الزمن يضحك حتى ظهرت أنيابه، فتوقف
الجميع رعبا من هول سطوته الباطشة.