كان من رواده نجيب محفوظ مقهى أحمد عرابي... فتوة الحسينية

كان من رواده نجيب محفوظ مقهى أحمد عرابي... فتوة الحسينية

عالم‭ ‬الفتوات‭ ‬له‭ ‬مذاق‭ ‬خاص،‭ ‬جذب‭ ‬الأديب‭ ‬المصري‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬فعاش‭ ‬بينهم،‭ ‬بل‭ ‬وجلس‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المقاهي‭ ‬التي‭ ‬تخصهم،‭ ‬وأشهرها‭ ‬مقهى‭ ‬أحمد‭ ‬عرابي،‭ ‬فتوة‭ ‬الحسينية،‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬الستينيات‭ ‬وأوائل‭ ‬السبعينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬حينما‭ ‬كان‭ ‬يسكن‭ ‬محفوظ‭ ‬على‭ ‬مقربة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الحي‭. ‬وأمتعنا‭ ‬برواياته‭: ‬أولاد‭ ‬حارتنا،‭ ‬الحرافيش،‭ ‬الشيطان‭ ‬يعظ،‭ ‬النبوت،‭ ‬وفي‭ ‬فترة‭ ‬الثمانينيات‭ ‬تحول‭ ‬بعضها‭ ‬إلى‭ ‬أفلام‭ ‬شهدت‭ ‬نجاحًا‭ ‬جماهيريًا‭ ‬منقطع‭ ‬النظير‭. ‬

 

قد‭ ‬يظن‭ ‬كثيرون‭ ‬أن‭ ‬الفتوات‭ ‬اقتصر‭ ‬دورهم‭ ‬على‭ ‬المعارك‭ ‬فقط،‭ ‬لكن‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬أنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يحمون‭ ‬القاهرة‭ ‬المحروسة‭ ‬بموافقة‭ ‬البوليس،‭ ‬فلكل‭ ‬حارة‭ ‬فتوتها‭ ‬الذي‭ ‬يحمي‭ ‬سكانها،‭ ‬ينفق‭ ‬على‭ ‬الفقراء‭ ‬من‭ ‬الأموال‭ ‬التي‭ ‬يحصل‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬الأغنياء،‭ ‬سلاحه‭ ‬النبوت‭ ‬المصنوع‭ ‬من‭ ‬شجر‭ ‬الليمون،‭ ‬يعاونه‭ ‬بعض‭ ‬الرجال‭ ‬الأقوياء،‭ ‬يعرفون‭ ‬بالمشاديد‭.‬

‭ ‬تمتع‭ ‬الفتوة‭ ‬بنظرات‭ ‬قوية‭ ‬ثابتة،‭ ‬أما‭ ‬الصفات‭ ‬الجسدية،‭ ‬فقد‭ ‬أشار‭ ‬إليها‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬«الحرافيش» ‭: ‬الرأس‭ ‬ضخم،‭ ‬الطول‭ ‬فارع،‭ ‬الساق‭ ‬جذع‭ ‬شجرة،‭ ‬التقاطيع‭ ‬غليظة،‭ ‬والعرض‭ ‬منبسط‭. ‬

جدير‭ ‬بالذكر‭ ‬أن‭ ‬الفتوات‭ ‬كان‭ ‬لهم‭ ‬قانونهم‭ ‬الخاص‭ )‬العرف)‭  ‬،‭ ‬ وإذا‭ ‬ارتكب‭ ‬الرفيق‭ ‬جريمة‭ ‬قتل‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬وجه‭ ‬حق،‭ ‬فإن‭ ‬رفيقه‭ ‬يتبرأ‭ ‬منه‭ ‬أمام‭ ‬الجميع‭.‬

‭ ‬ويذكر‭ ‬التاريخ‭ ‬لنا‭ ‬مواقف‭ ‬لا‭ ‬تنسى،‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭: ‬تلك‭ ‬المعركة‭ ‬التي‭ ‬دارت‭ ‬بين‭ ‬فتوات‭ ‬الحسينية‭ ‬وفتوات‭ ‬حي‭ ‬القبيسي‭ ‬-‭ ‬الظاهر‭ ‬الآن‭ ‬-‭ ‬المجاور‭ ‬له،‭ ‬عام‭ ‬1909م،‭ ‬وبسبب‭ ‬الثأر‭ ‬قامت‭ ‬معركة‭ ‬أشرس‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1929‭ ‬دارت‭ ‬أحداثها‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬السكاكيني‭. ‬ومن‭ ‬الطريف‭ ‬أن‭ ‬أحمد‭ ‬عرابي‭ ‬فتوة‭ ‬الحسينية‭ ‬حوّل‭ ‬المقهى‭ ‬الذي‭ ‬يمتلكه‭ ‬إلى‭ ‬محكمة‭ ‬عرفية‭ ‬يتقاضى‭ ‬فيها‭ ‬المتخاصمون،‭ ‬فيقوم‭ ‬بإصدار‭ ‬حكمه‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ينفذ‭ ‬في‭ ‬الحال‭. ‬

نعود‭ ‬إلى‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬رواد‭ ‬هذا‭ ‬المقهى،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الماضية‭ ‬مقهى‭ ‬لكبار‭ ‬الشخصيات،‭ ‬لا‭ ‬تمارس‭ ‬فيه‭ ‬أي‭ ‬ألعاب،‭ ‬بل‭ ‬يسوده‭ ‬الهدوء،‭ ‬ويتبادل‭ ‬رواده‭ ‬أطراف‭ ‬الحديث‭ ‬حول‭ ‬قضايا‭ ‬الأدب‭ ‬والسياسة‭ ‬وأحوال‭ ‬المجتمع‭. ‬

ومما‭ ‬يذكر‭ ‬أن‭ ‬فتوة‭ ‬الحسينية‭ ‬كتب‭ ‬مذكراته‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬أيامه‭ ‬وجاءت‭ ‬المقدمة‭ ‬بقلم‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭. ‬ومع‭ ‬الأسف‭ ‬تحول‭ ‬هذا‭ ‬المقهى‭ ‬كبير‭ ‬الحجم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتوسط‭ ‬ميدان‭ ‬الجيش‭ ‬-‭ ‬فاروق‭ ‬سابقًا‭ ‬-‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬حي‭ ‬الحسينية،‭ ‬إلى‭ ‬محال‭ ‬تجارية‭ ‬عدة‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬التسعينيات‭. ‬

والحديث‭ ‬عن‭ ‬فتوات‭ ‬الحسينية‭ ‬يقفز‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬ظروف‭ ‬إنشاء‭ ‬هذا‭ ‬الحي‭ ‬من‭ ‬الزاويتين‭ ‬التاريخية‭ ‬والجغرافية،‭ ‬حيث‭ ‬تعانق‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬ليخرج‭ ‬لنا‭ ‬هذا‭ ‬النتاج‭ ‬المتميز‭. ‬

تشير‭ ‬الوثائق‭ ‬التاريخية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬القاهرة‭ ‬كانت‭ ‬مقسمة‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬العثماني‭ ‬إلى‭ ‬ثلاثة‭ ‬وستين‭ ‬حيًا‭ ‬أو‭ ‬حارة،‭ ‬لكل‭ ‬منها‭ ‬بوابة‭ ‬تتقدم‭ ‬مدخل‭ ‬الشارع‭ ‬المؤدي‭ ‬إليها،‭ ‬مع‭ ‬وجود‭ ‬وظيفة‭ ‬شيخ‭ ‬الحارة،‭ ‬وهو‭ ‬يمثل‭ ‬شيخ‭ ‬الطائفة‭ ‬التي‭ ‬تسكن‭ ‬فيها،‭ ‬وهو‭ ‬واسطة‭ ‬الاتصال‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬الحاكمة‭ ‬والرعية‭. ‬

وكما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭: ‬«النجوم‭ ‬الزاهرة»‭ ‬لابن‭ ‬تغري‭ ‬بردي،‭ ‬و«صبح‭ ‬الأعشى»‭ ‬للقلقشندي،‭ ‬و«الخطط‭ ‬التوفيقية»‭ ‬لعلي‭ ‬مبارك،‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الحي‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬الأمر‭ ‬حارة‭ ‬كبيرة‭ ‬تقع‭ ‬خارج‭ ‬سور‭ ‬القاهرة‭ ‬الفاطمي‭ ‬تجاه‭ ‬باب‭ ‬الفتوح،‭ ‬وهو‭ ‬منسوب‭ ‬لجماعة‭ ‬الأشراف‭ ‬الحسينية‭ ‬الذين‭ ‬قدموا‭ ‬من‭ ‬الحجاز‭ ‬أيام‭ ‬الملك‭ ‬الكامل‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬العادل‭ ‬الأيوبي‭ ‬وبنوا‭ ‬المدابغ،‭ ‬وأصبح‭ ‬ثماني‭ ‬حارات‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬المملوكي،‭ ‬وما‭ ‬زال‭ ‬يحتفظ‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬مظاهره‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭. ‬

ومن‭ ‬جانب‭ ‬آخر،‭ ‬أشار‭ ‬تقي‭ ‬الدين‭ ‬المقريزي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬«الخطط‭ ‬والآثار »‭ )‬طبعة‭ ‬بولاق‭ ‬1270هـ‭ ( ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬الهجري‭ ‬شهد‭ ‬مجيء‭ ‬طائفة‭ ‬من‭ ‬الأويرانية‭ ‬-‭ ‬جنود‭ ‬طوغاي‭ ‬ابن‭ ‬هولاكو‭ ‬التتري‭ ‬الذي‭ ‬قُتل‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬أخيه‭ ‬الملك‭ ‬غازان‭ ‬-‭ ‬ونزلوا‭ ‬بحي‭ ‬الحسينية،‭ ‬وكانوا‭ ‬يتمتعون‭ ‬بالجمال،‭ ‬ووصفوا‭ ‬بالشجاعة،‭ ‬وكان‭ ‬كل‭ ‬منهم‭ ‬يسمى‭ ‬بالبدر‭ ‬قبل‭ ‬ذكر‭ ‬اسمه،‭ ‬وكانوا‭ ‬يرتدون‭ ‬لباس‭ ‬الفتوة‭ ‬ويحملون‭ ‬السلاح‭. ‬

وبذلك‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬لقب‭ ‬فتوات‭ ‬الحسينية‭ ‬ظهر‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬الهجري،‭ ‬وكان‭ ‬لهم‭ ‬نظامهم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الذي‭ ‬يبعد‭ ‬كل‭ ‬البعد‭ ‬عن‭ ‬الصفات‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬القرون‭ ‬التالية‭ ‬من‭ ‬التشاجر‭ ‬والتعارك‭ ‬وسفك‭ ‬الدماء‭. ‬

هذا‭ ‬النظام‭ ‬تمتد‭ ‬جذوره‭ ‬إلى‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬الهجري،‭ ‬وعرف‭ ‬بفتوة‭ ‬الفروسية‭ ‬التي‭ ‬تقتضي‭ ‬التمسك‭ ‬بالفضائل‭ ‬وارتداء‭ ‬سراويل‭ ‬بها‭ ‬رسم‭ ‬لكأس‭ ‬الفتوة‭ ‬وممارسة‭ ‬الصيد‭ ‬ورمي‭ ‬البندق‭ ‬وحمل‭ ‬السلاح،‭ ‬ليحصل‭ ‬بعدها‭ ‬الفتى‭ ‬على‭ ‬«عهد‭ ‬الفتوة» ،‭ ‬وكأنها‭ ‬إجازة‭ ‬له‭ ‬بالممارسة،‭ ‬ومع‭ ‬مرور‭ ‬الزمن‭ ‬انتشرت‭ ‬الفتوة‭ ‬بين‭ ‬الطبقات‭ ‬المنحطة،‭ ‬فانحرفت‭ ‬عن‭ ‬هدفها‭ ‬النبيل،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬شيخ‭ ‬الفتوة‭ ‬يجمع‭ ‬حوله‭ ‬الأشرار‭ ‬والمتمردين‭ ‬ليسخرهم‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬الفساد،‭ ‬لذا‭ ‬أفتى‭ ‬معظم‭ ‬العلماء‭ ‬آنذاك‭ ‬بالقضاء‭ ‬عليها‭ ‬باعتبارها‭ ‬فتوة‭ ‬شيطان‭■