فاروق شوشة ناقدًا للجمال

فاروق شوشة ناقدًا للجمال

لا‭ ‬تكتمل‭ ‬دراسة‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الإلمام‭ ‬بإسهامات‭ ‬الشاعر‭ ‬فاروق‭ ‬شوشة‭ ‬المتميزة‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬وتقييم‭ ‬الشعراء‭ ‬المعاصرين،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الكتابات‭ ‬التي‭ ‬اقتنصها‭ ‬منه‭ ‬الزمن‭ ‬الصحفي‭ ‬الصاخب‭ ‬ناقدًا‭ ‬ومؤصلا‭ ‬للجمال‭ ‬في‭ ‬الشاعرية‭ ‬والأشعار‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭. ‬كان‭ ‬شوشة‭ ‬قادرًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يموضع‭ )‬ولا‭ ‬نقول‭ ‬يضع‭ ‬فحسب‭( ‬كل‭ ‬شاعر‭ ‬في‭ ‬مكانه‭ ‬الصحيح‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الشعر‭ ‬العــــربي‭ ‬وفي‭ ‬موضعه‭ ‬الأسمــــــى‭ ‬في‭ ‬ديــــوان‭ ‬الشِعر‭ ‬العربي‭ ‬كذلك‭.‬

 

كانت‭ ‬ثقافة‭ ‬فاروق‭ ‬شوشة‭ ‬الواسعة‭ ‬ذات‭ ‬الروافد‭ ‬الحية‭ ‬والحيوية‭ ‬خير‭ ‬معوان‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬رسم‭ ‬واستقصاء‭ ‬الصورة‭ ‬المكتملة‭ ‬لنهر‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬ونهره‭ ‬المتدفق‭ ‬بما‭ ‬يحتويه‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬روافد‭ ‬وتفرعات،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬قادرًا،‭ ‬بحكم‭ ‬ذائقته‭ ‬وشاعريته‭ ‬وفلسفته‭ ‬المعرفية،‭ ‬متمكنًا‭ ‬من‭ ‬تمييز‭ ‬طبقات‭ ‬فن‭ ‬القول‭ ‬الشعري‭ ‬وغير‭ ‬الشعري‭ ‬صورة‭ ‬ولفظًا‭ ‬ودلالة‭ ‬وإيحاء‭ ‬وإبداعًا‭.‬

وإذا‭ ‬تصورنا‭ ‬أنفسنـــا‭ ‬قــادرين‭ ‬على‭ ‬رسم‭ ‬صورة‭ ‬سينمائية‭ ‬سريعة‭ ‬التعاقب‭ ‬لآرائه‭ ‬المتعددة‭ ‬في‭ ‬شعرائنا‭ ‬المعاصرين‭ ‬فإننا‭ ‬نكتشف‭ ‬أنه‭ ‬تفوّق‭ ‬على‭ ‬معاصريه‭ ‬جميعًا‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬أعظم‭ ‬الأقلام‭ ‬شمولًا‭ ‬وإحاطة‭ ‬بمعاصــريه‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬أطيافهم،‭ ‬ولنمض‭ ‬معه‭ ‬بضع‭ ‬خطوات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الطريق‭. ‬

كان‭ ‬شوشة‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لا‭ ‬يخفــــي‭ ‬إعجابه‭ ‬العميق‭ ‬بمجمل‭ ‬الإنتاج‭ ‬الفكري‭ ‬والشعري‭ ‬لثلّة‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬تحظَ‭ ‬أعمالهم‭ ‬بما‭ ‬تستحق‭ ‬من‭ ‬التقدير‭ ‬الفائق‭ ‬للموهبة‭ ‬والتفرد،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمة‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشاعر‭ ‬القاص‭ ‬حسين‭ ‬عفيف‭ ‬الذي‭ ‬تحدّث‭ ‬عنه‭ ‬شوشة‭ ‬بأكثر‭ ‬العبارات‭ ‬إنصافًا،‭ ‬حيث‭ ‬وصفه‭ ‬بأنه‭ ‬«كان‭ ‬وضيء‭ ‬السمت‭ ‬والمحيّا،‭ ‬نحيلًا‭ ‬كأشد‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬النحول،‭ ‬لكنه‭ ‬النحول‭ ‬الذي‭ ‬يصيب‭ ‬العشاق‭ ‬المستهامين،‭ ‬خفيض‭ ‬الصوت‭ ‬والنبرة،‭ ‬يخطو‭ ‬في‭ ‬حياء‭ ‬جمّ،‭ ‬ويتحدث‭ ‬في‭ ‬ألفة‭ ‬ممزوجة‭ ‬بالتواضع» ،‭ ‬كما‭ ‬وصفه‭ ‬بأنه‭ ‬«كان‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الكتوم‭ ‬الذي‭ ‬يقتصد‭ ‬في‭ ‬البوح،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يتكلم‭ ‬كثيرًا،‭ ‬ولا‭ ‬يثرثر،‭ ‬أما‭ ‬مقطوعاته‭ ‬النثرية‭ ‬فقد‭ ‬وصفها‭ ‬بأنها‭ ‬متوهجة‭ ‬بالشاعرية،‭ ‬والإيقاع‭ ‬الداخلي،‭ ‬والغنى‭ ‬الروحي،‭ ‬والتأمل‭ ‬الشفيف» ‭.‬

 

حسين‭ ‬عفيف

كان‭ ‬شوشة‭ ‬متيمًا‭ ‬برواية‭ ‬عفيف‭ ‬«زينات» ،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أنها‭ ‬تكشف‭ - ‬في‭ ‬رأي‭ ‬شوشة‭ - ‬عن‭ ‬«صدمته‭ ‬في‭ ‬تجارب‭ ‬شبابه‭ ‬الأولى،‭ ‬وتضم‭ ‬أصداء‭ ‬وظلالًا‭ ‬وأطيافًا‭ ‬لهذا‭ ‬الحب‭ ‬الأول،‭ ‬وهذه‭ ‬الشحنة‭ ‬العاطفية‭ ‬المبكرة‭ ‬التي‭ ‬أوصلته‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬حزينة،‭ ‬جعلته‭ ‬يكتفي،‭ ‬طوال‭ ‬حياته،‭ ‬بالغناء‭ ‬للمرأة،‭ ‬والعزف‭ ‬على‭ ‬أوتار‭ ‬الحب،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقترب‭ ‬منها‭ ‬اقترابًا‭ ‬حقيقيًا،‭ ‬يجعل‭ ‬منه‭ ‬زوجًا‭ ‬وأبًا،‭ ‬فظل‭ ‬عزبًا‭ ‬حتى‭ ‬رحيله» ‭.‬

وقد‭ ‬اكتشف‭ ‬شوشة‭ ‬التأثر‭ ‬الواضح‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬عفيف‭ ‬«الأرغن»‭ ‬بشاعر‭ ‬الهند‭ ‬والإنسانية‭ ‬طاغور،‭ ‬في‭ ‬قالب‭ ‬شعره،‭ ‬وموضوعات‭ ‬تجاربه‭ ‬وصوره،‭ ‬وفي‭ ‬تطور‭ ‬حياته‭ ‬العاطفية،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬روح‭ ‬التأمل‭ ‬الشفيف،‭ ‬ومحاولة‭ ‬النفاذ‭ ‬إلى‭ ‬الأسرار‭ ‬الأولى‭ ‬للحياة‭ ‬والكون،‭ ‬والتوحد‭ ‬مع‭ ‬الطبيعة‭ ‬إحساسًا‭ ‬ونبضًا‭ ‬وعاطفة‭.‬

وهو‭ ‬يقرأ‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬أقوال‭ ‬عفيف‭ ‬في‭ ‬ديوانه‭ ‬«الأرغن»‭ ‬هذه‭ ‬الفقرة‭ ‬المشهورة‭:‬

 

كان‭ ‬الليل‭ ‬يعشقها‭ ‬وهي‭ ‬لم‭ ‬تزل‭ ‬في‭ ‬المهد

فحنا‭ ‬الظلام‭ ‬عليها‭ ‬وهي‭ ‬نائمة،‭ ‬وكحّل‭ ‬أجفانها‭ ‬بقُبلة

وحبا‭ ‬القمر‭ ‬على‭ ‬سفوح‭ ‬الرُّبى

ورسم‭ ‬على‭ ‬فمها‭ ‬ابتسامة

وفي‭ ‬الصباح‭ ‬هرع‭ ‬الضوء‭ ‬لعينيها

فقامت‭ ‬للحْظها‭ ‬قيامة

وعصر‭ ‬الورد‭ ‬ورقه‭ ‬على‭ ‬وجنتيها‭ ‬فتضرجتا

ثم‭ ‬سكب‭ ‬الفجرُ‭ ‬نداه‭ ‬على‭ ‬جسدها‭ ‬فتعطر

ولقد‭ ‬مال‭ ‬الغصن‭ ‬يُرضعها‭ ‬من‭ ‬لبنه،

فشبت‭ ‬ممشوقة

وهبت‭ ‬عليها‭ ‬نسمة‭ ‬صبا‭ ‬علمتها‭ ‬التثنّي

كما‭ ‬غرّد‭ ‬بلبل‭ ‬فلقّنها‭ ‬الكلام

وفي‭ ‬ذات‭ ‬خريف،‭ ‬بزغ‭ ‬صدرها‭ ‬مع‭ ‬نضج‭ ‬الرمان،

فعشقتها

 

على‭ ‬صعيد‭ ‬آخر،‭ ‬يذكر‭ ‬شوشة‭ ‬أن‭ ‬الناقدين‭ ‬العظيمين‭ ‬محمد‭ ‬غنيمي‭ ‬هلال‭ ‬ومحمد‭ ‬مندور‭ ‬في‭ ‬مناقشتهما‭ ‬لشعر‭ ‬عفيف،‭ ‬في‭ ‬برنامج‭ ‬«مع‭ ‬النقاد» ،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬شوشة‭ ‬نفسه‭ ‬يعده،‭ ‬اتفقا‭ ‬على‭ ‬وجود‭ ‬نزعة‭ ‬أبيقورية‭ ‬نهمة‭ ‬تتوقف‭ ‬عند‭ ‬تفاصيل‭ ‬الجسد،‭ ‬في‭ ‬نشوة‭ ‬حسية‭ ‬عارمة‭ ‬تجاوز‭ ‬نزعته‭ ‬الصوفية‭ ‬المتأملة،‭ ‬والمتطهرة،‭ ‬التي‭ ‬تسود‭ ‬معظم‭ ‬قصائده،‭ ‬لكن‭ ‬حيرة‭ ‬الشاعر‭ ‬الكبرى‭ ‬أمام‭ ‬مصير‭ ‬الإنسان‭ ‬والحياة‭ ‬والكــــون‭ ‬ترتطم‭ ‬بافتتانه‭ ‬بالجمال‭ ‬البشري‭ ‬في‭ ‬تجلياته‭ ‬المحسوسة،‭ ‬وكأنه‭ ‬يعيش‭ ‬صراعًا‭ ‬بين‭ ‬المطلق‭ ‬والنسبي،‭ ‬الخالد‭ ‬والفاني،‭ ‬الباقي‭ ‬والزائل،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬يختلف‭ ‬فيه‭ ‬عفيف‭ ‬عن‭ ‬طاغور،‭ ‬ويبتعد‭ ‬به‭ ‬عن‭ ‬عالمه‭ ‬ابتعادًا‭ ‬كليًا‭.‬

ويلفت‭ ‬شوشة‭ ‬نظرنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أروع‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬عفيف‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يضع‭ ‬كلمة‭ ‬«شعر»‭ ‬على‭ ‬دواوينه،‭ ‬بدءًا‭ ‬بديوان‭ ‬«الأرغن»،‭ ‬فديوان‭ ‬«الغدير»،‭ ‬فـ‭ ‬«الغسق»،‭ ‬فـ‭ ‬«حديقة‭ ‬الورد»،‭ ‬فديوانه‭ ‬الأخير‭ ‬«عصفورة‭ ‬الكناريا»‭.‬

وكان‭ ‬عفيف‭ ‬حريصًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يصف‭ ‬ديوانه‭ ‬«الغسق»‭ ‬بأنه‭ ‬ديوان‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬المنثور،‭ ‬وقد‭ ‬أثبت‭ ‬هذا‭ ‬الوصف‭ ‬على‭ ‬غلاف‭ ‬الديوان‭.‬

 

عبدالعليم‭ ‬عيسى

وكما‭ ‬كتب‭ ‬شوشة‭ ‬بهذه‭ ‬الروح‭ ‬عن‭ ‬عفيف،‭ ‬فإنه‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬الشاعر‭ ‬العظيم‭ ‬عبدالعليم‭ ‬عيسى،‭ ‬واصفًا‭ ‬إياه‭ ‬بأنه‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الكبار‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يحظوا‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬بما‭ ‬يستحقون‭ ‬من‭ ‬مجد‭ ‬ومن‭ ‬دراسة‭. ‬

وكان‭ ‬شوشة‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬لعيسى‭ ‬شخصية‭ ‬فريدة‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬طغيان‭ ‬الشخصيات‭ ‬التقليدية‭ ‬وغير‭ ‬المتميزة،‭ ‬وقد‭ ‬وصف‭ ‬شخصيته‭ ‬هذه‭ ‬بأنها‭ ‬كانت‭ ‬لها‭ ‬أبعادها‭ ‬الروحية‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬حد،‭ ‬ورؤيتها‭ ‬الواقعية‭ ‬المادية‭ ‬للصراع‭ ‬البشري‭ ‬في‭ ‬ضراوته‭ ‬وطغيانه،‭ ‬وأنه‭ ‬كان‭ ‬هادئًا،‭ ‬وقورًا،‭ ‬وذا‭ ‬ملامح‭ ‬إنسانية‭ ‬صافية،‭ ‬وصوت‭ ‬عميق‭ ‬متقطع‭. ‬

ووصفه،‭ ‬في‭ ‬فقرة‭ ‬أخرى‭ ‬بأنه‭ ‬كان‭ ‬فارسًا‭ ‬نبيلًا‭ ‬ودودًا‭ ‬من‭ ‬فرسان‭ ‬عصر‭ ‬الرومانسية‭ ‬الذين‭ ‬امتلأ‭ ‬وجدانهم‭ ‬بالزخم‭ ‬العاطفي‭ ‬العارم،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬بالانعطاف‭ ‬الشديد‭ ‬تجاه‭ ‬المسحوقين‭ ‬والمستذلين‭ ‬الذين‭ ‬يكابدون‭ ‬الظلم‭ ‬وقسوة‭ ‬الحياة،‭ ‬ويتشوقون‭ ‬إلى‭ ‬الحرية،‭ ‬ويكدحون‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬غد‭ ‬أفضل،‭ ‬ولهذا‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬هذا‭ ‬التكوين‭ ‬الرومانسي‭ ‬الواقعي‭ ‬الروحي‭ ‬المادي،‭ ‬السلفي‭ ‬التجديدي،‭ ‬الملتزم‭ ‬التنويري،‭ ‬وقد‭ ‬أدى‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬قلقه‭ ‬وحيرته،‭ ‬وانجذابه‭ ‬وشروده،‭ ‬ومعاناته‭ ‬وتوهجه،‭ ‬وتحولاته‭ ‬المستمرة‭ ‬من‭ ‬الذاتي‭ ‬الخاص‭ ‬إلى‭ ‬الإنساني‭ ‬العام‭.‬

وكان‭ ‬شوشة‭ ‬يكرر‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬عيسى‭ ‬لم‭ ‬ينل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يستحقه‭ ‬من‭ ‬التقدير،‭ ‬وإنه‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬المسؤولين‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬النتيجة‭ ‬بسبب‭ ‬انطوائيته‭ ‬وعزوفه‭ ‬وترفّعه،‭ ‬لكنّ‭ ‬الحياة‭ ‬الأدبية‭ ‬نفسها‭ ‬شاركت‭ ‬في‭ ‬ظلمه‭ ‬حين‭ ‬جرفها‭ ‬أصحاب‭ ‬الطبول‭ ‬الجوفاء‭ ‬جميعًا‭ ‬حتى‭ ‬انصرفت‭ ‬عن‭ ‬تقدير‭ ‬أمثاله‭ ‬النوادر‭ ‬من‭ ‬الأفذاذ‭.‬

 

جبل‭ ‬الجليد

والحق‭ ‬أن‭ ‬عبدالعليم‭ ‬عيسى‭ ‬كان‭ ‬تجسيدًا‭ ‬للقيم‭ ‬والفضائل‭ ‬إنسانًا‭ ‬وشاعرًا،‭ ‬في‭ ‬زمان‭ ‬ندر‭ ‬فيه‭ ‬تحقيق‭ ‬هذا‭ ‬التجانس‭ ‬والتماثل‭ ‬بين‭ ‬المبدع‭ ‬وإبداعه،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬شعره،‭ ‬كما‭ ‬وصفه‭ ‬شوشة،‭ ‬صورة‭ ‬لحقيقته‭ ‬الإنسانية،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬إنسانيته‭ ‬مرآة‭ ‬لتجسُّد‭ ‬شاعريته،‭ ‬وكان‭ ‬لكثرة‭ ‬ما‭ ‬يمتلئ‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬وعي‭ ‬وثقافة‭ ‬وخبرة‭ ‬وحكمة‭ ‬يبدو‭ ‬لنا‭ ‬كجبل‭ ‬الجليد‭ ‬لا‭ ‬يظهر‭ ‬منه‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬إلا‭ ‬أقل‭ ‬القليل،‭ ‬بينما‭ ‬حقيقته‭ ‬الممتلئة‭ ‬والمكتنزة‭ ‬خافية‭ ‬ومستمرة‭ ‬لا‭ ‬نتعرف‭ ‬إليها‭ ‬إلا‭ ‬بإدمان‭ ‬الصحبة،‭ ‬وطول‭ ‬المكاشفة،‭ ‬وثبات‭ ‬المودة،‭ ‬والصداقة،‭ ‬فإذا‭ ‬بنا‭ ‬نكتشف‭ ‬فيه‭ ‬عالمًا‭ ‬رحبًا‭ ‬من‭ ‬الجمال،‭ ‬وأفقًا‭ ‬ساميًا‭ ‬من‭ ‬الصفاء‭ ‬والنقاء،‭ ‬وقلبًا‭ ‬مليئًا‭ ‬بالمحبة‭ ‬والرحمة‭ ‬والتعاطف‭ ‬والتسامح‭. ‬

ويرى‭ ‬شوشة‭ ‬بأمثلة‭ ‬دالة‭ ‬وواضحة‭ ‬يذكرها‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬العظيم‭ ‬أن‭ ‬عيسى‭ ‬وجد‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬محمود‭ ‬حسن‭ ‬إسماعيل‭ ‬النموذج‭ ‬الذي‭ ‬يبحث‭ ‬عنه،‭ ‬فهو‭ ‬ينتمي‭ ‬مثله‭ ‬إلى‭ ‬عالَم‭ ‬القرية‭ ‬والريف،‭ ‬وهو‭ ‬يعيش‭ ‬مثله‭ ‬واقع‭ ‬الفلاح‭ ‬المصري،‭ ‬والأغلال‭ ‬التي‭ ‬تقيده‭ ‬في‭ ‬القهر‭ ‬والجهل‭ ‬والتخلف،‭ ‬كما‭ ‬وجد‭ ‬فيه‭ ‬أيضًا‭ ‬ذلك‭ ‬الجدل‭ ‬بين‭ ‬الانتماء‭ ‬إلى‭ ‬شجرة‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬والاندفاع‭ ‬إلى‭ ‬التجديد‭ ‬والمغامرة‭ ‬والاختلاف‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬وكان‭ ‬طبيعيًا‭ ‬أن‭ ‬يتسلل‭ ‬المعجم‭ ‬الشعري‭ ‬لمحمود‭ ‬إسماعيل،‭ ‬وعالم‭ ‬صوره‭ ‬وتراكيبه‭ ‬وأبنيته‭ ‬اللغوية‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬القصائد‭ ‬الأولى‭ ‬لعبدالعليم‭ ‬عيسى‭.‬

 

اعتقال‭ ‬كزلزال

كذلك‭ ‬يرى‭ ‬شوشة‭ ‬أن‭ ‬صدمة‭ ‬الاعتقال‭ ‬كانت‭ ‬بمنزلة‭ ‬الزلزال‭ ‬الذي‭ ‬اعترض‭ ‬مسيرة‭ ‬عيسى‭ ‬الشعرية‭ ‬والفكرية،‭ ‬وقد‭ ‬جعلته‭ ‬هذه‭ ‬الصدمة‭ ‬الزلزالية‭ ‬يعيد‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة،‭ ‬وكانت‭ ‬السنتان‭ ‬اللتان‭ ‬قضاهما‭ ‬في‭ ‬المعتقل‭ ‬كفيلتين‭ ‬بالمراجعة‭ ‬والتأمل‭ ‬والإخلاص‭ ‬الشعري،‭ ‬والخلاص‭ ‬من‭ ‬تأثير‭ ‬محمود‭ ‬حسن‭ ‬إسماعيل‭: 

«وجد‭ ‬عبدالعليم‭ ‬عيـــسى‭ ‬إذن‭ ‬طريقه‭ ‬وقصيدته،‭ ‬وبدأ‭ ‬ينسج‭ ‬ملامح‭ ‬عالَمه‭ ‬الشعري‭ ‬الذي‭ ‬تجيش‭ ‬فيه‭ ‬تيارات‭ ‬أبوللو‭ ‬العاتية،‭ ‬وتأملات‭ ‬جماعة‭ ‬الديوان‭ )‬العقاد‭ ‬والمازني‭ ‬وشكري‭( ‬واستبطانها‭ ‬العميق‭ ‬لاهتزازات‭ ‬الوجدان،‭ ‬وانطلاقات‭ ‬المهجريين‭ ‬ومغامراتهم‭ ‬الفنـــية‭ ‬والإنسانية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إبداع‭ ‬نموذج‭ ‬جديد،‭ ‬وظل‭ ‬عيسى،‭ ‬بحكم‭ ‬طبيعته‭ ‬الهادئة‭ ‬المتأملة،‭ ‬وعكوفه‭ ‬وانطوائه‭ ‬الشديد،‭ ‬وبُعده‭ ‬عن‭ ‬الانغماس‭ ‬في‭ ‬أجواء‭ ‬الحياة‭ ‬الأدبية،‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬روح‭ ‬جماعة‭ ‬الديوان،‭ ‬خاصة‭ ‬العقاد،‭ ‬تمامًا‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬المعري،‭ ‬شاعره‭ ‬الأثير‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬شعراء‭ ‬تراثنا‭ ‬العربي،‭ ‬تجذبه‭ ‬بصيرته‭ ‬النافذة،‭ ‬وتفلسفه‭ ‬العميق،‭ ‬وسخريته‭ ‬بالحياة‭ ‬والأحياء» ‭.‬

 

بدوي‭ ‬الجبل

أما‭ ‬كتابة‭ ‬شوشة‭ ‬عن‭ ‬بدوي‭ ‬الجبل‭ ‬فهي‭ ‬الكتابة‭ ‬التي‭ ‬تعلي‭ ‬من‭ ‬التقدير‭ ‬الفني‭ ‬فوق‭ ‬الإعجاب‭ ‬النفسي‭ ‬بمراحل،‭ ‬وكان‭ ‬شوشة‭ ‬قد‭ ‬وجد‭ ‬في‭ ‬نماذج‭ ‬بدوي‭ ‬الجبل‭ ‬الشعرية‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يحده‭ ‬عند‭ ‬غيره،‭ ‬وهو‭ ‬لهذا‭ ‬يقف‭ ‬أمام‭ ‬قصائده‭ ‬وأمام‭ ‬مجمل‭ ‬إنتاجه‭ ‬بالتحليل‭ ‬الوافي،‭ ‬مقترنًا‭ ‬بالاندهاش‭ ‬الصادق‭ ‬من‭ ‬العبقرية‭.‬

وهو‭ ‬يقول‭ ‬بعبارة‭ ‬صريحة‭ ‬إن‭ ‬شعر‭ ‬بدوي‭ ‬الجبل‭ ‬تميز‭ ‬بمقاربة‭ ‬لشعر‭ ‬الفحول،‭ ‬وبلغة‭ ‬شعرية‭ ‬تتميز‭ ‬بالجدة‭ ‬والأناقة‭ ‬والترف،‭ ‬والافتنان‭ ‬في‭ ‬إبداع‭ ‬الصورة‭ ‬الشعرية،‭ ‬واستدعاء‭ ‬تقاليد‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬أزهى‭ ‬عصور‭ ‬ازدهاره‭ ‬عند‭ ‬شعرائه‭ ‬الكبار‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬المتنبي،‭ ‬والبحتري،‭ ‬وأبي‭ ‬تمام،‭ ‬والمعري،‭ ‬والشريف‭ ‬الرضي‭.‬

ويصل‭ ‬شوشة‭ ‬بلا‭ ‬وجــل‭ ‬إلـــى‭ ‬القــــول‭ ‬بأن‭ ‬بدوي‭ ‬الجبل‭ ‬كان‭ ‬«متنبي‭ ‬القرن‭ ‬العشرين»،‭ ‬وأنه‭ ‬وجه‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬سورية،‭ ‬وحقيقته‭ ‬وخلاصته‭!‬

وهو‭ ‬يضرب‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المثل‭ ‬بأن‭ ‬بدوي‭ ‬الجبل‭ ‬في‭ ‬تمجيد‭ ‬هنانو‭ ‬هو‭ ‬المتنبي‭ ‬في‭ ‬تعظيم‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭: ‬شمم‭ ‬أنف،‭ ‬وجزالة‭ ‬نظم،‭ ‬وقوة‭ ‬بيان،‭ ‬ورنين‭ ‬قواف‭ ‬وأوزان‭.‬

ويبدو‭ ‬لي‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يوافق‭ ‬أدونيس‭ ‬على‭ ‬وصفه‭ ‬العبقري‭ ‬الملتبس‭ ‬لبدوي‭ ‬الجبل‭ ‬بأنه‭ ‬خاتمة‭ ‬وفاتحة‭: ‬خاتمة‭ ‬كأبهى‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬الخواتيم‭ ‬سموًا‭ ‬ومجدًا،‭ ‬وفاتحة‭ ‬لنبض‭ ‬شعري‭ ‬جديد‭ ‬ومنعطف‭ ‬يؤذن‭ ‬بتاريخ‭ ‬شعري‭ ‬جديد‭. ‬

ويشيد‭ ‬شوشة‭ ‬بطليعة‭ ‬روائع‭ ‬بدوي‭ ‬الجبل،‭ ‬وهي‭ ‬قصيدته‭ ‬«اللهب‭ ‬القدسي»‭ ‬التي‭ ‬يحفظها‭ ‬محبّو‭ ‬شعره‭ ‬ومنشدوه‭ ‬باعتبارها‭ ‬مزموره‭ ‬الشعري‭ ‬البديع،‭ ‬الناطق‭ ‬بكل‭ ‬عذوبة‭ ‬شعره‭ ‬وتدفقه،‭ ‬وانعطاف‭ ‬نفسه‭ ‬مع‭ ‬كبرياء‭ ‬العاشق‭ ‬الذي‭ ‬يتجاوز‭ ‬في‭ ‬داخله‭ ‬شموخ‭ ‬الجبل،‭ ‬وجيَشان‭ ‬البحر،‭ ‬ورقّة‭ ‬النسيم،‭ ‬وسماحة‭ ‬الشاعر‭ ‬الإنسان‭:‬

 

تــــــــزيّـــــنَ‭ ‬الــــــــوردُ‭ ‬ألـــــــوانًـــــا‭ ‬ليفتـــننــا

أيـــــحــــــلـــــفُ‭ ‬الوردُ‭ ‬أنــــا‭ ‬ما‭ ‬فــــتــــناه؟

يا‭ ‬مَن‭ ‬سقانا‭ ‬كؤوس‭ ‬الهجر‭ ‬مُترعةً

بكى‭ ‬بساط‭ ‬الهوى‭ ‬لمّا‭ ‬طويناه

إن‭ ‬كان‭ ‬يذكرُ‭ ‬أو‭ ‬يَنسى‭ ‬فلا‭ ‬سلِمَت

عيني‭ ‬ولا‭ ‬كبدي‭ ‬إن‭ ‬كنتُ‭ ‬أنساه

طفولةُ‭ ‬الروح‭ ‬أغلى‭ ‬ما‭ ‬أدلّ‭ ‬به

والحب‭ ‬أعنفه‭ ‬عندي‭ ‬وأوفاه

قلبي‭ ‬الذي‭ ‬لوّنَ‭ ‬الدنيا‭ ‬بجذوته

أحلى‭ ‬من‭ ‬النور‭ ‬نعماه‭ ‬وبؤساه

لم‭ ‬يُردِه‭ ‬ألفُ‭ ‬جرح‭ ‬من‭ ‬فواجعه

حتى‭ ‬أصيب‭ ‬بسهمٍ‭ ‬منك‭ ‬أرداه

إن‭ ‬نحمل‭ ‬الحزنَ‭ ‬لا‭ ‬شكوى‭ ‬ولا‭ ‬ملل

غدرُ‭ ‬الأحبة‭ ‬حزنٌ‭ ‬ما‭ ‬احتملناه

 

ملَك‭ ‬عبدالعزيز

بهذا‭ ‬القدر‭ ‬من‭ ‬التعظيم‭ ‬كان‭ ‬شـــوشة‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬موهبة‭ ‬حقيقية،‭ ‬وإني‭ ‬لأذكـــر‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬في‭ ‬«الأهرام»‭ ‬عند‭ ‬وفاة‭ ‬الشاعرة‭ ‬ملك‭ ‬عبدالعزيز،‭ ‬حيث‭ ‬قال‭ ‬«إن‭ ‬الحياة‭ ‬الأدبية‭ ‬المصرية‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬شاعرة‭ ‬أكثر‭ ‬رقّة‭ ‬وحساسية‭ ‬وصفاء‭ ‬وجدان‭ ‬واكتمال‭ ‬شخصية‭ ‬منها،‭ ‬فقد‭ ‬أجاد‭ ‬شعرها‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬علاقتها‭ ‬الحميمية‭ ‬بالطبيعة،‭ ‬وكانت‭ ‬أشعارها‭ ‬في‭ ‬الطبيعة‭ ‬بمنزلة‭ ‬مرآة‭ ‬انعكست‭ ‬عليها‭ ‬مواقفها‭ ‬وانطباعاتها‭ ‬من‭ ‬الحياة،‭ ‬بعد‭ ‬ما‭ ‬صادفته‭ ‬من‭ ‬مشكلاتها‭ ‬وأهوالها،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬من‭ ‬بداياتها‭ ‬الرومانســية،‭ ‬كما‭ ‬عكس‭ ‬نزعاتها‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬الوجودية‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المراحل،‭ ‬ومن‭ ‬التصوف‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬أخرى».‬

 

إبراهيم‭ ‬العريض

وحين‭ ‬يكتب‭ ‬شوشـــة‭ ‬عن‭ ‬الشاعر‭ ‬البحريني‭ ‬الكبير‭ ‬إبراهيم‭ ‬العريض‭ ‬فإنــه‭ ‬يجــــاهـــر‭ ‬بموافقتـــه‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬الصورة‭ ‬في‭ ‬كتابــات‭ ‬النقاد‭ ‬والباحثين‭ ‬والدارسين،‭ ‬وهو‭ ‬أنـــه‭ ‬يمثّل‭ ‬«الأبوة‭ ‬الرومانسية‭ ‬المهيـــمنــة،‭ ‬وأن‭ ‬تجربته‭ ‬الشعرية‭ ‬مثقلــة‭ ‬بالانـــزياح‭ ‬نحـــو‭ ‬مخيلة‭ ‬نموذجــــية‭ ‬ترتقي‭ ‬بوظيفة‭ ‬الشعر،‭ ‬وترتفـــع‭ ‬به‭ ‬عن‭ ‬مجرد‭ ‬الانشغال‭ ‬بالحياة‭ ‬الاجتماعــــية،‭ ‬وتفاصيــــل‭ ‬الواقـــع،‭ ‬وتستر‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬كون‭ ‬أشمل‭ ‬وأجمـــل‭ ‬وأكثـــر‭ ‬مثالــــيـــة،‭ ‬مهمـــا‭ ‬يدفع‭ ‬الشاعر‭ ‬لذلــــك‭ ‬من‭ ‬ثمن‭ ‬البقــاء‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬المجتمع‭ ‬والثقافة‭: ‬منفيًّا،‭ ‬ومعارضًا،‭ ‬ومعتقلًا،‭ ‬ومغتربًا،‭ ‬ومعذبًا،‭ ‬ومقهورًا،‭ ‬ومهمشًا‭... ‬إلخ»‭.‬

 

إبراهيم‭ ‬عيسى

في‭ ‬مقابل‭ ‬هذا‭ ‬التصوير‭ ‬البانورامي‭ ‬للعريض،‭ ‬فإن‭ ‬شوشة‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬إبراهيم‭ ‬عيسى‭ ‬كان‭ ‬شاعرًا‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬فريد،‭ ‬وأن‭ ‬«شعره‭ ‬لا‭ ‬ينفصل‭ ‬عن‭ ‬حياته،‭ ‬وحياته‭ ‬لا‭ ‬تنفصل‭ ‬عن‭ ‬شعره،‭ ‬وأن‭ ‬التداخل‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬والحياة‭ ‬كان‭ ‬يجعله‭ ‬يخلط‭ ‬بينهما،‭ ‬وعندئذ‭ ‬يثور‭ ‬وينفعل‭ ‬ويخرج‭ ‬عن‭ ‬هدوئه‭ ‬السمح،‭ ‬وشفافيته‭ ‬الندية،‭ ‬ورقّته‭ ‬الآسرة،‭ ‬وكأنه‭ ‬ريح‭ ‬عاصف‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬إهابه‭ ‬الهادئ‭ ‬حين‭ ‬تصدمها‭ ‬تقلبات‭ ‬الدنيا،‭ ‬وغدر‭ ‬الأصدقاء‭ ‬والإخوان»،‭ ‬«وهو‭ ‬الذي‭ ‬يوشك‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬طفلًا‭ ‬في‭ ‬وداعته،‭ ‬صوفيًا‭ ‬في‭ ‬وفائه‭ ‬وصفائه‭ ‬ورحابة‭ ‬قلبه‭ ‬وروحه،‭ ‬وإنسانيته‭ ‬الفياضة‭ ‬الغامرة»‭.‬

وهو‭ ‬يتعمق‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬فيشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬إبراهيم‭ ‬عيسى‭ ‬عرف‭ ‬منذ‭ ‬شبابه‭ ‬بتدفق‭ ‬روحه‭ ‬المرحة،‭ ‬وجمال‭ ‬معابثاته‭ ‬مع‭ ‬رفاقه‭ ‬الشعراء،‭ ‬ومعارفه‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭. ‬

كما‭ ‬عرف‭ ‬بتعليقاته‭ ‬اللاذعة‭ ‬التي‭ ‬يسوقها‭ ‬دومًا‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬أدبية‭ ‬عفة،‭ ‬وصياغة‭ ‬بيانية‭ ‬بديعة‭.‬

 

أحمد‭ ‬خميس

وعلى‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬اكتشف‭ ‬شوشة‭ ‬تأثر‭ ‬عفيف‭ ‬بطاغور‭ ‬وتأثر‭ ‬عبدالعليم‭ ‬عيسى‭ ‬المبكر‭ ‬بمحمود‭ ‬حسن‭ ‬إسماعيل‭ ‬ثم‭ ‬بالمعري،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬أحمد‭ ‬خميس‭ ‬كان‭ ‬الأقرب‭ ‬إلي‭ ‬نموذج‭ ‬الشاعر‭ ‬الملاح‭ ‬علي‭ ‬محمود‭ ‬طه،‭ ‬في‭ ‬هيامه‭ ‬بالطبيعة‭ ‬والجمال،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬رحلاته‭ ‬الصيفية‭ ‬المتتابعة‭ ‬إلى‭ ‬أوربا،‭ ‬وبحثه‭ ‬عن‭ ‬مواطن‭ ‬الفتنة‭ ‬والانطلاق،‭ ‬وتصيّد‭ ‬لحظات‭ ‬المتعة‭ ‬والنشوة،‭ ‬وأنه‭ ‬كان‭ ‬ذكيًا‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬صيغة‭ ‬الرباعيات‭ ‬التي‭ ‬اختارها‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬قصائده‭ ‬البديعة،‭ ‬وقد‭ ‬ضمن‭ ‬هذه‭ ‬الرباعيات‭ ‬نفثات‭ ‬وجدانه،‭ ‬وأشواق‭ ‬روحه‭.‬

وهو‭ ‬يضرب‭ ‬المثل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬بقول‭ ‬أحمد‭ ‬خميس‭ ‬محاكيًا‭ ‬لغة‭ ‬علي‭ ‬محمود‭ ‬طه‭ ‬وتقسيماته‭ ‬النغمية‭ ‬والإيقاعية‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬عنوانها‭ ‬«رقصة»:‬

أي‭ ‬همس‭ ‬حالم‭ ‬الإيقاع‭ ‬نشوان‭ ‬الصدى

طاف‭ ‬كالفرحة،‭ ‬كالنجوى،‭ ‬كلآلاء‭ ‬الندى

حين‭ ‬ناداني‭ ‬وحيّا‭ ‬أو‭ ‬هو‭ ‬يلقي‭ ‬لي‭ ‬يدا

قلت‭: ‬أهلًا‭ ‬فتثنى‭ ‬ورنا

وتبدى‭ ‬لي‭ ‬الرفيق‭ ‬المحسنا

نظرة‭ ‬ثم‭ ‬دعاني‭ ‬قائلًا‭ ‬في‭ ‬همستين‭:‬

أيها‭ ‬المفتون‭ ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬شربنا‭ ‬قدحين؟

قلت‭: ‬هات‭ ‬فأنا‭ ‬سمع‭ ‬وأصداء‭ ‬وعين

‭***‬

وعلى‭ ‬اللحن‭ ‬نفسه‭ ‬يعزف‭ ‬شعر‭ ‬أحمد‭ ‬خميس‭ ‬فيقول‭:‬

يا‭ ‬أخا‭ ‬الغرب،‭ ‬ليالي‭ ‬الشرق‭ ‬عشق‭ ‬وهوى

وضفاف‭ ‬طمى‭ ‬الحب‭ ‬عليها‭ ‬وارتوى

وشباب‭ ‬خالد‭ ‬الفتنة‭ ‬معبود‭ ‬الروا

فتعال‭ ‬اسكب‭ ‬على‭ ‬روحي‭ ‬وقلبي‭ ‬غنوتين

وترفق‭ ‬يا‭ ‬أخا‭ ‬الغرب‭ ‬وخذها‭ ‬قبلتين

فأنا،‭ ‬آه‭... ‬أنا‭ ‬سمع‭ ‬وأصداء‭ ‬وعين

 

فوزي‭ ‬العنتيل

وصف‭ ‬شوشة‭ ‬صديقه‭ ‬الشاعر‭ ‬فوزي‭ ‬العنتيل‭ ‬بأنه‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬أعذب‭ ‬الأصوات‭ ‬الشعرية‭ ‬وأكثرها‭ ‬تميزًا‭ ‬وأصالة‭ ‬بين‭ ‬شعراء‭ ‬جيله،‭ ‬الذين‭ ‬كانت‭ ‬قصائدهم‭ ‬ملء‭ ‬السمع‭ ‬والبصر،‭ ‬وحديث‭ ‬الناس‭ ‬طوال‭ ‬الخمسينيات‭: ‬محمد‭ ‬الفيتوري،‭ ‬وكمال‭ ‬نشأت،‭ ‬وإبراهيم‭ ‬عيسى،‭ ‬وصلاح‭ ‬عبدالصبور‭.‬

ويشير‭ ‬شوشة‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬لشدة‭ ‬اقتراب‭ ‬العنتيل‭ ‬من‭ ‬أولهم‭ ‬وثانيهم‭ )‬نفسيًا‭ ‬وفنيًا‭( ‬فقد‭ ‬كوّن‭ ‬الثلاثة‭ ‬رابطة‭ ‬النهر‭ ‬الخالد،‭ ‬وكانت‭ ‬قصائدهم‭ ‬تنشر‭ ‬موقّعة‭ ‬باسم‭ ‬هذه‭ ‬الرابطة‭ ‬التي‭ ‬ائتلف‭ ‬فيها‭ ‬مبدعون‭ ‬من‭ ‬السودان‭ ‬ومصر،‭ ‬نهجوا‭ ‬نهجًا‭ ‬تحرريًا‭ ‬وتجديديًا‭ ‬واضحًا‭.‬

ويذكر‭ ‬أن‭ ‬العنتيل‭ ‬كان‭ ‬شاعرًا‭ ‬وإنسانًا‭ ‬كالنسيم،‭ ‬لم‭ ‬يعرفه‭ ‬أحد‭ ‬إلا‭ ‬أحبه،‭ ‬وبادله‭ ‬حبًا‭ ‬بحب،‭ ‬وكان‭ ‬فيض‭ ‬إنسانيته‭ ‬ينسكب‭ ‬مودة‭ ‬ودفئًا‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مَنْ‭ ‬حوله‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬حتى‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يعرفهم‭ ‬حق‭ ‬المعرفة،‭ ‬ولا‭ ‬تربطه‭ ‬بهم‭ ‬علاقة،‭ ‬وكان‭ ‬شعره‭ ‬ـ‭ ‬في‭ ‬صفائه‭ ‬وعمقه‭ ‬وشفافيته‭ ‬ـ‭ ‬صورة‭ ‬لهذا‭ ‬كله،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تبنت‭ ‬الصيغة‭ ‬الشعرية‭ ‬لشعراء‭ ‬المدرسة‭ ‬الرومانسية‭ ‬«شعراء‭ ‬جماعة‭ ‬أبوللو»،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مرحلته‭ ‬الثانية‭ ‬التي‭ ‬تبنت‭ ‬الصيغة‭ ‬الشعرية‭ ‬لحركة‭ ‬الشعر‭ ‬الجديد‭ ‬أو‭ ‬الشعر‭ ‬الحر،‭ ‬فكان‭ ‬من‭ ‬روادها‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬بعد‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬الشرقاوي‭ ‬وصلاح‭ ‬عبدالصبور‭.‬

 

كمال‭ ‬نشأت

كان‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬أوصاني‭ ‬بهم‭ ‬أستاذي‭ ‬فاروق‭ ‬شوشة‭ ‬هو‭ ‬الشاعر‭ ‬كمال‭ ‬نشأت،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ - ‬كما‭ ‬ذكرنا‭ - ‬يعتز‭ ‬به‭ ‬وبزميليه‭ ‬في‭ ‬رابطة‭ ‬النهر‭ ‬الخالد‭: ‬العنتيل،‭ ‬والفيتوري‭. ‬

وفي‭ ‬رأي‭ ‬شوشة‭ ‬أن‭ ‬شعر‭ ‬كمال‭ ‬نشأت‭ ‬كان‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬الصيغتين‭ ‬العمودية‭ ‬والحرة،‭ ‬وأنه‭ ‬كان‭ ‬منتميًا‭ ‬بوجدانه‭ ‬الشعري‭ ‬إلى‭ ‬الموجات‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬أبوللو‭ ‬الشعرية،‭ ‬«وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يجعله‭ ‬معدودًا‭ ‬ضمن‭ ‬رواد‭ ‬الحركة‭ ‬الواقعية‭: ‬شعراء‭ ‬الموجة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬الشعر‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬مثل‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور،‭ ‬وأحمد‭ ‬عبدالمعطي‭ ‬حجازي»‭. ‬لكن‭ ‬قصائده‭ ‬في‭ ‬رأي‭ ‬شوشة‭ ‬كانت‭ ‬مواكبة‭ ‬تمامًا‭ ‬لتيار‭ ‬الحداثة‭ ‬الشعرية‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الجديد،‭ ‬أو‭ ‬الشعر‭ ‬الحر‭■