السرد الشذري وتصدع الذات في رواية«قصتي الأخرى» للمزروعي
تثير مسألة تحليل السرد في الكتابة الروائية الحديثة تساؤلات عديدة، تتصل بطبيعة بناء العمل السردي نفسه. تساؤلات يكرسها الاعتقاد السائد بأن النص السردي الحديث، بانتهاكه لحدود الأجناس الأدبية وتقويضها لمفهوم الحبكة، قد استغنى تمامًا عن البنية أو البناء العام للنص. وعلى الرغم من كون هذا البناء ضروريا، فإنه ليس معطى جاهزًا. فإذا كانت حدود التركيب النحوي، والمعجم، وطرائق التفكير وضرورات التواصل تتضمن مبدأ البنية، فإن المتلقي هو الذي يعيد تشكيل بنية النص السردي من خلال منظوره الخاص.
يتعلق الأمر، إذن، بعملية وصفية/ تأويلية تتحدد ملامحها بنوعية الأسئلة التي يطرحها المتلقي في أثناء سيرورة القراءة. وكذا بنوعية الأجوبة التي يقدمها، أو لا يقدمها، العمل الأدبي.
من خلال هذا التصور العام، سنحاول رصد أهم مظهر من مظاهر بنية الخطاب السردي في رواية «قصتي الأخرى» للروائية فاطمة المزروعي. لعل أول ما يثير انتباه القارئ في رواية «قصتي الأخرى» هو جمالية العنوان، حيث تستعين الروائية بتقنية العدول والانحراف، معتمدة لغة الازدواجية الدلالية.
فإذا كانت قصة السارد متضمنة في الرواية من خلال تفاصيل الحكاية، فإن هذه الأخيرة تحمل قصة/حكاية أخرى، وكأننا أمام متن حكائي مزدوج، أو حكاية بوجهين مختلفين.
يرتبط هذا الوجه المزدوج للحكاية بشخصيات الرواية وأحداثها التي تنساب كالماء، من أجل إزالة البقايا العالقة في الروح والجسد على السواء، وفي ذلك تجدد واستمرار لحياتها.
تفتتح الروائية فاطمة المزروعي هذا النص الروائي بإهداء متميز اإلى من تكسرت أحلامهم على صخرة الواقع، فنهضوا ينفضون خيبة الأمل والوقت... وعادوا للمسير بحب وأمل قويب )ص5 ).
يشكل هذا الإهداء بوصلة قراءة النص وموجهها، كما يعلن عن بنية سردية تحكمها حركية الانكسار والنهوض/التجاوز. تمتد هذه الحركية على طول 314 صفحة، تشكل المساحة النصية للرواية، وتتوزع على 24 لوحة سردية.
يمكن أن تخضع هذه النصوص/ اللوحات لترتيب أو تغيير أماكنها من دون أن تصيب شكل الرواية أو مضمونها بأذى أو تضعف ديناميكية السرد أو منطق ترابط الأحداث الرئيسة فيها. تمكنت المزروعي من الكشف عن عرض الأحداث المتراكمة والموضوعات التي تشكل نسيج نص الرواية من دون الحاجة إلى وجود فواصل متدرجة بين اللوحات المشكلة للنص. وبهذا يكون لهذا الإهداء وظيفة توجيهية إلى الذين عاشوا الغربة في مدينتهم التي تاه فيها بطل الـــــرواية/ شخصية عنان. لكنها غربة الإنسان عامة في كل زمان ومكان. وربما كان الإنسان المعاصر أكثر عرضة لتصدع الذات والغربة، وانعدام مشاعر القدرة وفقدان الإحساس بالأمن والسكينة. إنها شبيهة بغربة أبي حيان التوحيدي في مدينته وعصره.
يتجلى هذا المظهر في الشذرية، هذه الأخيرة التي تشي بتصدع الذات الساردة أو بقية شخصيات النص وتأزمها.
لقد تم بنـــــاء هذه الرواية عــــــلى شكــل لوحات / مشاهد، كل لوحة تسرد لنا فصلا من فصول حياة شخصية من الشخصيات الرواية «عنان ذ السارد والشخصية الرئيسة - شخصية السيد فوزي، شخصية مروان، شخصية فارس، شخصية شجون... إلخ».
السرد الشذري
تعتبر الشذرية من أهم المواضيع التي استأثرت باهتمام عديد من المنظرين والفلاسفة والكتاب على السواء، وعلى رأسهم: أدورنو، بنيامين، الرومانسيون الألمان...إلخ. واقترنت الشذرية في الرواية الأوربية برواية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث تميزت بتفكك التركيب السردي وأزمة الذات الساردة. وتجلت في روايات كافكا، وموزيل، وبروست، وجويس، التي جسدت أزمة الفردية الليبرالية المأخوذة من شراك التشيؤ واندحار القيم وازدواجيتها، وكذا انحسار الاستقلالية وروح المبادرة في ظل الرأسمالية الاحتكارية.
أما في الأدب العربي الحديث، فقد ارتبط السرد الشذري في مجال كتابة النص الروائي والنص القصصي بخاصة، بالدعوة إلى تجاوز القوالب الجاهزة وإبراز الطابع الإشكالي للكتابة، المرتبط بإشكالية التواصل والتعبير عن الذات في مجتمع يطبعه التفكك والالتباس واللايقين.
ولعل أول ملمح للسرد للشذري في رواية «قصتي الأخرى» لفاطمة المزروعي هو انتهاك المفهوم التقليدي للحبكة الذي يقتضي وجود حكاية نواة يتم تطويرها على امتداد المساحة النصية لهذا النص الروائي، وفق سرد ذي تسلسل كرونولوجي تحكمه بداية ونهاية ترسمان الأفق العام لمسار الحدث السردي. إن تركيب السرد في رواية «قصتي الأخرى» لا تنظمه حبكة سردية صارمة تعمل على رصد حياة الشخصية المحورية (شخصية عنان)، رصدًا خطيًا. لكنها تعمل على تفريع السرد وتكسير تعاقبية الزمن، ما يمنح نص الرواية بناء سرديا دائريا. هذا الأخير الذي يقوض تراتبية الزمن ويمحو ما سيّجته التخوم المصطنعة بين بداية السرد ونهايته، يعطي الانطباع بأننا حيال زمن واحد، مطلق، يتلبس مجرى ثابت، لأن كل شيء فيه يمضي كيفما يعود.
إن فصول «قصتي الأخرى» المؤلفة من أربعة وعشرين فصلا، ليست في واقع الأمر سوى دوائر أو حلقات شبه مستقلة ومتداخلة في الوقت نفسه، تسمح بقراءة الرواية انطلاقًا من مداخل متعددة، ترتبط بحيوات شخصيات عدة: شخصية الأب والأم )ص ، (7 شخصية سعيد )ص 35) ، شخصية أيمن (ص،( 51 شخصية العم نبيل )ص ،( 71 شخصية سامي )ص ،( 81 شخصية السيد فوزي )ص ،( 139 شخصية مروان )ص ،( 193 شخصية فارس )ص ،( 227 شخصية شجون )ص.( 267
تدور هذه الشخصيات في فلك الشخصية المحورية عنان، فكأن حيوات هذه الشخصيات المختلفة عبارة عن نوع من التشظي والتوليد الدلالي لحياة شخصية عنان. وفي هذا التحول يتشظى السرد ويتفرع، على الرغم من كونه يظل مرتبطًا بشخصية عنان )الشخصية المحورية) ، سواء من خلال تفاصل الحياة والأزمة والفضاءات التي طبعت عميقًا ذاكرة ومخيلة عنان )طفولته الأولى( المتوزعة بين ما عاشه في بيت أبويه «استيقظت، لم أكن بوعيي، لكن حالما تلملمت الذكريات في رأسي، هرعت صارخا: أخي» )ص ،( 87 أو من خلال ما عاشه في أثناء تشرده «إنني مجرد شريد تائه يواجه خطر الموت كل يوم ولا يحق له الطموح» )ص.( 181
بهذا تعد ذاكرة شخصية عنان بمنزلة ذلك المولّد للسرد، يعيد ويستعيد حمولة ذكرياته على نحو متجدد وبلا انقطاع بقصد بناء لوحات سردية عبارة عن مشاهد من سيرة طفولة عنان وحياته اللاحقة ونضالاته اليومية من أجل تجاوز أزماته النفسية والاقتصادية، مما يخلق حركتين سرديتين، الأولى ترتبط بتصدع الذات سواء بالنسبة إلى الشخصية المحورية أو بقية الشخصيات التي تدور في فلكها. أما الثانية فتحاول لملمة شتات هذه الذات المتصدعة وإعادة ترميمها من جديد.
تصدع الذات
يكشف هذا السرد الشذري الذي هيمن على رواية «قصتي الأخرى» عن تعقيدات الحياة الداخلية للشخصية المحورية للرواية )شخصية عنان) ، من خلال سبر عوالمها النفسية والوجدانية والشعورية المضطربة، بدءًا من نص «لغات عديدة للحب»، حيث تعرض عنان وأخوه سامي للتهميش والاضطهاد من قبل زملائهما نتيجة ما تسببه التجارة غير الشرعية التي يمارسها والدهما.
وتعتمد سيرورة تشخيص الفكر الداخلي للشخصية، المهيمن على الرواية، على طرق فنية عدة، أبرزها المحكي النفسي وكذا المونولوج المنقول والمونولوج المسرود. وتجلى هذا النوع من السرد بشكل مكثف في نص «شذرات أحلام» )ص ، ( 51 نص «الأسماء تكشف» )ص .( 87 يقول السارد: «لا يوجد شخص واحد اسمه عنان. عنان ينطلق على الشوك ويجابه إعصارًا داخله وخارجه. ويبرم قسمًا أنه لن ينسى العم نبيل ولن ينسى شقيقه سامي»(ص 94).
يسمح هذا النوع من السرد عند الروائية فاطمة المزروعي بالتوغل في أعماق الشخصيات، واستجلاء ما تعيشه من حالات الإحباط والقلق والتوتر والاغتراب التي تتجاذبها، وتطبع مواقفها وسلوكها ورؤيتها للعالم «في صبيحة يوم جديد، وأنا والقط جنبا إلى جنب نتكئ على حاوية قمامة في زاوية عميقة داخل زقاق ضيق مظلم نتن. نمت هنا خوفًا من المجرمين والسكيرين والمدمنين. ففي حياة الشارع وبعد منتصف الليل عليك أن تتوقع في أي لحظة أن خطرًا يستهدف جسدك») .ص 125).
يبدأ النص منذ البداية بالمواجهة المباشرة بين بطل الرواية والمدينة «وكانت مدينتنا قد ودعت الطهارة التي ميزتها خلال عقود ماضية» )ص.(52
غربة وانكسار
وكانت النتيجة الغربة والانكسار، لأن العيش فيها لا يورث إلا اغترابًا ومعاناة، وإحساسًا بالضعف أمام تسلط الزمن وقسوة المكان وتدهور سلوك الناس.
لقد غدت مدينة السارد ممسوخة، فعلى الرغم من كونها كثيفة الأفراد، فإن الشخصية المحورية )عنان ( لا تشعر إلا بالغربة والهشاشة الوجودية، لأن ما عرفته مدينة السارد من تحول، قد هبط بقيمة الشخصية / الفرد إلى حد أدنى، بل حوله إلى رقم من الأرقام العديدة والمسميات المختلفة. وحتى كثرة العناوين الفرعية في الرواية تعد علامة من علامات هذا العدد الهائل من الأشياء التي جعلت الشخصية غير قادرة على التخلص من غربتها الوجدانية التي أصبحت عليها.
إنها هنا شيء من الأشياء، بل هي أشد الأشياء عجزًا نتيجة اضطرابها ووهنها. فقد ولدت هذه الغربة شعورًا بالخوف «الخوف من الآخرين، الخوف من المستقبل، بل الخوف من الحاضر نفسه».
يتجاوز الاغتراب في هذه المدينة اغتراب الأشخاص إلى اغتراب كل الأشياء. إنها تفقد خصوصيتها وشخصيتها، وهنا يفقد الإنسان إنسانيته، ويتحول إلى مسخ غريب عن البشر.
إنها بمنزلة معركة في أدغال المدن، كما يرى بريخت. وبهذا تعيش شخصية عنان معركة روحية وجدانية وليست معركة جسدية، لأن الاغتراب والانكسار اللذين عاشهما يتجاوزان الجسدي إلى الروحي. هذه الأخيرة التي تفقد صفاءها ونقاءها وما كانت عليه في البداية، حيث «كانت المدينة التي نشأت فيها. كان السلام يعمر أرجاءها لدرجة لا أستطيع وصفها لك» )ص7 ).
يتسم السرد عند الروائية فاطمة المزروعي من خلال روايتها «قصتي الأخرى» بالكثافة والتحول الحدثي السريع. إنها سمات أمكننا معاينتها من خلال تناول بعض مظاهر السرد في الرواية، وبخاصة مظهر الشذرية الذي يؤشر على خصوصية جمالية وإبداعية في هذا النص الروائي.
كما تشتغل الرواية على ثيمة الهوية والاغتراب الذاتي، وهو اغتراب ناتج عن قمع اجتماعي وسياسي، يضاف إليه وجه آخر يتجلى في الغربة داخل الوطن ومواجهة الآخر الذي يعمّق هذا الاغتراب عبر استعادات ماضوية ومقارنات متعددة في السلوك الحياتي والثقافي والمعيشي.
فكيف يتم تجاوز هذا الوضع؟ من خلال هذا السؤال، تتوالد موضوعات أخرى، أهمها فكرة الحرمان االحرمان من الحرية، من العيش، من التمتع بحياة الطفولة، المحرمات الاجتماعية، الخوف من الآخرب. وبهذا يلامس النص الروائي جوانب إنسانية عديدة، على المستوى السيكولوجي والسيوسولوجي والثقافي■