السرد الشذري وتصدع الذات في رواية«قصتي الأخرى» للمزروعي

السرد الشذري وتصدع الذات  في رواية«قصتي الأخرى» للمزروعي

تثير‭ ‬مسألة‭ ‬تحليل‭ ‬السرد‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية‭ ‬الحديثة‭ ‬تساؤلات‭ ‬عديدة،‭ ‬تتصل‭ ‬بطبيعة‭ ‬بناء‭ ‬العمل‭ ‬السردي‭ ‬نفسه‭. ‬تساؤلات‭ ‬يكرسها‭ ‬الاعتقاد‭ ‬السائد‭ ‬بأن‭ ‬النص‭ ‬السردي‭ ‬الحديث،‭ ‬بانتهاكه‭ ‬لحدود‭ ‬الأجناس‭ ‬الأدبية‭ ‬وتقويضها‭ ‬لمفهوم‭ ‬الحبكة،‭ ‬قد‭ ‬استغنى‭ ‬تمامًا‭ ‬عن‭ ‬البنية‭ ‬أو‭ ‬البناء‭ ‬العام‭ ‬للنص‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كون‭ ‬هذا‭ ‬البناء‭ ‬ضروريا،‭ ‬فإنه‭ ‬ليس‭ ‬معطى‭ ‬جاهزًا‭. ‬فإذا‭ ‬كانت‭ ‬حدود‭ ‬التركيب‭ ‬النحوي،‭ ‬والمعجم،‭ ‬وطرائق‭ ‬التفكير‭ ‬وضرورات‭ ‬التواصل‭ ‬تتضمن‭ ‬مبدأ‭ ‬البنية،‭ ‬فإن‭ ‬المتلقي‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يعيد‭ ‬تشكيل‭ ‬بنية‭ ‬النص‭ ‬السردي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬منظوره‭ ‬الخاص‭.‬

 

‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر،‭ ‬إذن،‭ ‬بعملية‭ ‬وصفية‭/ ‬تأويلية‭ ‬تتحدد‭ ‬ملامحها‭ ‬بنوعية‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬يطرحها‭ ‬المتلقي‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬سيرورة‭ ‬القراءة‭. ‬وكذا‭ ‬بنوعية‭ ‬الأجوبة‭ ‬التي‭ ‬يقدمها،‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬يقدمها،‭ ‬العمل‭ ‬الأدبي‭. 

من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬العام،‭ ‬سنحاول‭ ‬رصد‭ ‬أهم‭ ‬مظهر‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬بنية‭ ‬الخطاب‭ ‬السردي‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬«قصتي‭ ‬الأخرى»‭ ‬للروائية‭ ‬فاطمة‭ ‬المزروعي‭. ‬لعل‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬انتباه‭ ‬القارئ‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬«قصتي‭ ‬الأخرى»‭ ‬هو‭ ‬جمالية‭ ‬العنوان،‭ ‬حيث‭ ‬تستعين‭ ‬الروائية‭ ‬بتقنية‭ ‬العدول‭ ‬والانحراف،‭ ‬معتمدة‭ ‬لغة‭ ‬الازدواجية‭ ‬الدلالية‭. ‬

فإذا‭ ‬كانت‭ ‬قصة‭ ‬السارد‭ ‬متضمنة‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحكاية،‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬تحمل‭ ‬قصة‭/‬حكاية‭ ‬أخرى،‭ ‬وكأننا‭ ‬أمام‭ ‬متن‭ ‬حكائي‭ ‬مزدوج،‭ ‬أو‭ ‬حكاية‭ ‬بوجهين‭ ‬مختلفين‭. ‬

يرتبط‭ ‬هذا‭ ‬الوجه‭ ‬المزدوج‭ ‬للحكاية‭ ‬بشخصيات‭ ‬الرواية‭ ‬وأحداثها‭ ‬التي‭ ‬تنساب‭ ‬كالماء،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إزالة‭ ‬البقايا‭ ‬العالقة‭ ‬في‭ ‬الروح‭ ‬والجسد‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬تجدد‭ ‬واستمرار‭ ‬لحياتها‭.‬

تفتتح‭ ‬الروائية‭ ‬فاطمة‭ ‬المزروعي‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬الروائي‭ ‬بإهداء‭ ‬متميز‭ ‬اإلى‭ ‬من‭ ‬تكسرت‭ ‬أحلامهم‭ ‬على‭ ‬صخرة‭ ‬الواقع،‭ ‬فنهضوا‭ ‬ينفضون‭ ‬خيبة‭ ‬الأمل‭ ‬والوقت‭... ‬وعادوا‭ ‬للمسير‭ ‬بحب‭ ‬وأمل‭ ‬قويب ‭ )‬ص5‬ ).

‭ ‬يشكل‭ ‬هذا‭ ‬الإهداء‭ ‬بوصلة‭ ‬قراءة‭ ‬النص‭ ‬وموجهها،‭ ‬كما‭ ‬يعلن‭ ‬عن‭ ‬بنية‭ ‬سردية‭ ‬تحكمها‭ ‬حركية‭ ‬الانكسار‭ ‬والنهوض‭/‬التجاوز‭.  ‬تمتد‭ ‬هذه‭ ‬الحركية‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬314‭ ‬صفحة،‭ ‬تشكل‭ ‬المساحة‭ ‬النصية‭ ‬للرواية،‭ ‬وتتوزع‭ ‬على‭ ‬24‭ ‬لوحة‭ ‬سردية‭.‬

‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تخضع‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭/ ‬اللوحات‭ ‬لترتيب‭ ‬أو‭ ‬تغيير‭ ‬أماكنها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تصيب‭ ‬شكل‭ ‬الرواية‭ ‬أو‭ ‬مضمونها‭ ‬بأذى‭ ‬أو‭ ‬تضعف‭ ‬ديناميكية‭ ‬السرد‭ ‬أو‭ ‬منطق‭ ‬ترابط‭ ‬الأحداث‭ ‬الرئيسة‭ ‬فيها‭. ‬تمكنت‭ ‬المزروعي‭ ‬من‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬عرض‭ ‬الأحداث‭ ‬المتراكمة‭ ‬والموضوعات‭ ‬التي‭ ‬تشكل‭ ‬نسيج‭ ‬نص‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬فواصل‭ ‬متدرجة‭ ‬بين‭ ‬اللوحات‭ ‬المشكلة‭ ‬للنص‭. ‬وبهذا‭ ‬يكون‭ ‬لهذا‭ ‬الإهداء‭ ‬وظيفة‭ ‬توجيهية‭ ‬إلى‭ ‬الذين‭ ‬عاشوا‭ ‬الغربة‭ ‬في‭ ‬مدينتهم‭ ‬التي‭ ‬تاه‭ ‬فيها‭ ‬بطل‭ ‬الـــــرواية‭/ ‬شخصية‭ ‬عنان‭. ‬لكنها‭ ‬غربة‭ ‬الإنسان‭ ‬عامة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زمان‭ ‬ومكان‭. ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬الإنسان‭ ‬المعاصر‭ ‬أكثر‭ ‬عرضة‭ ‬لتصدع‭ ‬الذات‭ ‬والغربة،‭ ‬وانعدام‭ ‬مشاعر‭ ‬القدرة‭ ‬وفقدان‭ ‬الإحساس‭ ‬بالأمن‭ ‬والسكينة‭. ‬إنها‭ ‬شبيهة‭ ‬بغربة‭ ‬أبي‭ ‬حيان‭ ‬التوحيدي‭ ‬في‭ ‬مدينته‭ ‬وعصره‭. ‬

يتجلى‭ ‬هذا‭ ‬المظهر‭ ‬في‭ ‬الشذرية،‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬تشي‭ ‬بتصدع‭ ‬الذات‭ ‬الساردة‭ ‬أو‭ ‬بقية‭ ‬شخصيات‭ ‬النص‭ ‬وتأزمها‭. 

لقد‭ ‬تم‭ ‬بنـــــاء‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬عــــــلى‭ ‬شكــل‭ ‬لوحات‭ / ‬مشاهد،‭ ‬كل‭ ‬لوحة‭ ‬تسرد‭ ‬لنا‭ ‬فصلا‭ ‬من‭ ‬فصول‭ ‬حياة‭ ‬شخصية‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬الرواية‭ ‬«عنان‭ ‬ذ‭ ‬السارد‭ ‬والشخصية‭ ‬الرئيسة‭ - ‬شخصية‭ ‬السيد‭ ‬فوزي،‭ ‬شخصية‭ ‬مروان،‭ ‬شخصية‭ ‬فارس،‭ ‬شخصية‭ ‬شجون‭... ‬إلخ»‭.‬

 

‭ ‬السرد‭ ‬الشذري

تعتبر‭ ‬الشذرية‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المواضيع‭ ‬التي‭ ‬استأثرت‭ ‬باهتمام‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المنظرين‭ ‬والفلاسفة‭ ‬والكتاب‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭: ‬أدورنو،‭ ‬بنيامين،‭ ‬الرومانسيون‭ ‬الألمان‭...‬إلخ‭. ‬واقترنت‭ ‬الشذرية‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬الأوربية‭ ‬برواية‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬وبداية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬حيث‭ ‬تميزت‭ ‬بتفكك‭ ‬التركيب‭ ‬السردي‭ ‬وأزمة‭ ‬الذات‭ ‬الساردة‭. ‬وتجلت‭ ‬في‭ ‬روايات‭ ‬كافكا،‭ ‬وموزيل،‭ ‬وبروست،‭ ‬وجويس،‭ ‬التي‭ ‬جسدت‭ ‬أزمة‭ ‬الفردية‭ ‬الليبرالية‭ ‬المأخوذة‭ ‬من‭ ‬شراك‭ ‬التشيؤ‭ ‬واندحار‭ ‬القيم‭ ‬وازدواجيتها،‭ ‬وكذا‭ ‬انحسار‭ ‬الاستقلالية‭ ‬وروح‭ ‬المبادرة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الاحتكارية‭. ‬

أما‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬الحديث،‭ ‬فقد‭ ‬ارتبط‭ ‬السرد‭ ‬الشذري‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬كتابة‭ ‬النص‭ ‬الروائي‭ ‬والنص‭ ‬القصصي‭ ‬بخاصة،‭ ‬بالدعوة‭ ‬إلى‭ ‬تجاوز‭ ‬القوالب‭ ‬الجاهزة‭ ‬وإبراز‭ ‬الطابع‭ ‬الإشكالي‭ ‬للكتابة،‭ ‬المرتبط‭ ‬بإشكالية‭ ‬التواصل‭ ‬والتعبير‭ ‬عن‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬يطبعه‭ ‬التفكك‭ ‬والالتباس‭ ‬واللايقين‭. 

ولعل‭ ‬أول‭ ‬ملمح‭ ‬للسرد‭ ‬للشذري‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬«قصتي‭ ‬الأخرى»‭ ‬لفاطمة‭ ‬المزروعي‭ ‬هو‭ ‬انتهاك‭ ‬المفهوم‭ ‬التقليدي‭ ‬للحبكة‭ ‬الذي‭ ‬يقتضي‭ ‬وجود‭ ‬حكاية‭ ‬نواة‭ ‬يتم‭ ‬تطويرها‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬المساحة‭ ‬النصية‭ ‬لهذا‭ ‬النص‭ ‬الروائي،‭ ‬وفق‭ ‬سرد‭ ‬ذي‭ ‬تسلسل‭ ‬كرونولوجي‭ ‬تحكمه‭ ‬بداية‭ ‬ونهاية‭ ‬ترسمان‭ ‬الأفق‭ ‬العام‭ ‬لمسار‭ ‬الحدث‭ ‬السردي‭. ‬إن‭ ‬تركيب‭ ‬السرد‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬«قصتي‭ ‬الأخرى»‭ ‬لا‭ ‬تنظمه‭ ‬حبكة‭ ‬سردية‭ ‬صارمة‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬رصد‭ ‬حياة‭ ‬الشخصية‭ ‬المحورية‭ (‬شخصية‭ ‬عنان‭)‬،‭ ‬رصدًا‭ ‬خطيًا‭.  ‬لكنها‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬تفريع‭ ‬السرد‭ ‬وتكسير‭ ‬تعاقبية‭ ‬الزمن،‭ ‬ما‭ ‬يمنح‭ ‬نص‭ ‬الرواية‭ ‬بناء‭ ‬سرديا‭ ‬دائريا‭. ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬يقوض‭ ‬تراتبية‭ ‬الزمن‭ ‬ويمحو‭ ‬ما‭ ‬سيّجته‭ ‬التخوم‭ ‬المصطنعة‭ ‬بين‭ ‬بداية‭ ‬السرد‭ ‬ونهايته،‭ ‬يعطي‭ ‬الانطباع‭ ‬بأننا‭ ‬حيال‭ ‬زمن‭ ‬واحد،‭ ‬مطلق،‭ ‬يتلبس‭ ‬مجرى‭ ‬ثابت،‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬فيه‭ ‬يمضي‭ ‬كيفما‭ ‬يعود‭. 

إن‭ ‬فصول‭ ‬«قصتي‭ ‬الأخرى»‭ ‬المؤلفة‭ ‬من‭ ‬أربعة‭ ‬وعشرين‭ ‬فصلا،‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الأمر‭ ‬سوى‭ ‬دوائر‭ ‬أو‭ ‬حلقات‭ ‬شبه‭ ‬مستقلة‭ ‬ومتداخلة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬تسمح‭ ‬بقراءة‭ ‬الرواية‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬مداخل‭ ‬متعددة،‭ ‬ترتبط‭ ‬بحيوات‭ ‬شخصيات‭ ‬عدة‭: ‬شخصية‭ ‬الأب‭ ‬والأم ‭ )‬ص‭ ‬، (‭7 ‬ شخصية‭ ‬سعيد‭ )‬ص‭‬ 35) ،‭ ‬شخصية‭ ‬أيمن (‬ص‭،( ‬ 51 ‭ ‬شخصية‭ ‬العم‭ ‬نبيل‭ )‬ص‭ ‬،( 71‭ ‬شخصية‭ ‬سامي‭ )‬ص‭  ‬،( 81‭ ‬شخصية‭ ‬السيد‭ ‬فوزي‭ )‬ص‭  ‬،( 139‭ ‬شخصية‭ ‬مروان‭ )‬ص‭ ‬،( ‭193 ‬شخصية‭ ‬فارس‭ )‬ص‭ ‬،( 227‭ ‬شخصية‭ ‬شجون‭ )‬ص‭.( 267 

تدور‭ ‬هذه‭ ‬الشخصيات‭ ‬في‭ ‬فلك‭ ‬الشخصية‭ ‬المحورية‭ ‬عنان،‭ ‬فكأن‭ ‬حيوات‭ ‬هذه‭ ‬الشخصيات‭ ‬المختلفة‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التشظي‭ ‬والتوليد‭ ‬الدلالي‭ ‬لحياة‭ ‬شخصية‭ ‬عنان‭.  ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬يتشظى‭ ‬السرد‭ ‬ويتفرع،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬يظل‭ ‬مرتبطًا‭ ‬بشخصية‭ ‬عنان‭ )‬الشخصية‭ ‬المحورية)‭  ‬،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تفاصل‭ ‬الحياة‭ ‬والأزمة‭ ‬والفضاءات‭ ‬التي‭ ‬طبعت‭ ‬عميقًا‭ ‬ذاكرة‭ ‬ومخيلة‭ ‬عنان‭ )‬طفولته‭ ‬الأولى‭( ‬المتوزعة‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬عاشه‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬أبويه‭ ‬«استيقظت،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬بوعيي،‭ ‬لكن‭ ‬حالما‭ ‬تلملمت‭ ‬الذكريات‭ ‬في‭ ‬رأسي،‭ ‬هرعت‭ ‬صارخا‭: ‬أخي»‭ )‬ص‭ ‬،( ‭87  ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬عاشه‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬تشرده‭ ‬«إنني‭ ‬مجرد‭ ‬شريد‭ ‬تائه‭ ‬يواجه‭ ‬خطر‭ ‬الموت‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬ولا‭ ‬يحق‭ ‬له‭ ‬الطموح»‭ )‬ص‭.( 181 

بهذا‭ ‬تعد‭ ‬ذاكرة‭ ‬شخصية‭ ‬عنان‭ ‬بمنزلة‭ ‬ذلك‭ ‬المولّد‭ ‬للسرد،‭ ‬يعيد‭ ‬ويستعيد‭ ‬حمولة‭ ‬ذكرياته‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬متجدد‭ ‬وبلا‭ ‬انقطاع‭ ‬بقصد‭ ‬بناء‭ ‬لوحات‭ ‬سردية‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬مشاهد‭ ‬من‭ ‬سيرة‭ ‬طفولة‭ ‬عنان‭ ‬وحياته‭ ‬اللاحقة‭ ‬ونضالاته‭ ‬اليومية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تجاوز‭ ‬أزماته‭ ‬النفسية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬مما‭ ‬يخلق‭ ‬حركتين‭ ‬سرديتين،‭ ‬الأولى‭ ‬ترتبط‭ ‬بتصدع‭ ‬الذات‭ ‬سواء‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الشخصية‭ ‬المحورية‭ ‬أو‭ ‬بقية‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬فلكها‭. ‬أما‭ ‬الثانية‭ ‬فتحاول‭ ‬لملمة‭ ‬شتات‭ ‬هذه‭ ‬الذات‭ ‬المتصدعة‭ ‬وإعادة‭ ‬ترميمها‭ ‬من‭ ‬جديد‭. ‬

 

‭ ‬تصدع‭ ‬الذات

يكشف‭ ‬هذا‭ ‬السرد‭ ‬الشذري‭ ‬الذي‭ ‬هيمن‭ ‬على‭ ‬رواية‭ ‬«قصتي‭ ‬الأخرى»‭ ‬عن‭ ‬تعقيدات‭ ‬الحياة‭ ‬الداخلية‭ ‬للشخصية‭ ‬المحورية‭ ‬للرواية‭ )‬شخصية‭ ‬عنان)‭ ‬،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سبر‭ ‬عوالمها‭ ‬النفسية‭ ‬والوجدانية‭ ‬والشعورية‭ ‬المضطربة،‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬نص‭ ‬«لغات‭ ‬عديدة‭ ‬للحب»،‭ ‬حيث‭ ‬تعرض‭ ‬عنان‭ ‬وأخوه‭ ‬سامي‭ ‬للتهميش‭ ‬والاضطهاد‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬زملائهما‭ ‬نتيجة‭ ‬ما‭ ‬تسببه‭ ‬التجارة‭ ‬غير‭ ‬الشرعية‭ ‬التي‭ ‬يمارسها‭ ‬والدهما‭. ‬

وتعتمد‭ ‬سيرورة‭ ‬تشخيص‭ ‬الفكر‭ ‬الداخلي‭ ‬للشخصية،‭ ‬المهيمن‭ ‬على‭ ‬الرواية،‭ ‬على‭ ‬طرق‭ ‬فنية‭ ‬عدة،‭ ‬أبرزها‭ ‬المحكي‭ ‬النفسي‭ ‬وكذا‭ ‬المونولوج‭ ‬المنقول‭ ‬والمونولوج‭ ‬المسرود‭. ‬وتجلى‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬السرد‭ ‬بشكل‭ ‬مكثف‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬«شذرات‭ ‬أحلام»‭ )‬ص‭ ‬ ، (‭ 51 ‬ نص‭ ‬«الأسماء‭ ‬تكشف»‭ )‬ص‭   .( 87 ‬يقول‭ ‬السارد‭: ‬«لا‭ ‬يوجد‭ ‬شخص‭ ‬واحد‭ ‬اسمه‭ ‬عنان‭. ‬عنان‭ ‬ينطلق‭ ‬على‭ ‬الشوك‭ ‬ويجابه‭ ‬إعصارًا‭ ‬داخله‭ ‬وخارجه‭. ‬ويبرم‭ ‬قسمًا‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬ينسى‭ ‬العم‭ ‬نبيل‭ ‬ولن‭ ‬ينسى‭ ‬شقيقه‭ ‬سامي»(‬ص 94)‭‬.

  ‬يسمح‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬السرد‭ ‬عند‭ ‬الروائية‭ ‬فاطمة‭ ‬المزروعي‭ ‬بالتوغل‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬الشخصيات،‭ ‬واستجلاء‭ ‬ما‭ ‬تعيشه‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬الإحباط‭ ‬والقلق‭ ‬والتوتر‭ ‬والاغتراب‭ ‬التي‭ ‬تتجاذبها،‭ ‬وتطبع‭ ‬مواقفها‭ ‬وسلوكها‭ ‬ورؤيتها‭ ‬للعالم‭ ‬«في‭ ‬صبيحة‭ ‬يوم‭ ‬جديد،‭ ‬وأنا‭ ‬والقط‭ ‬جنبا‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬نتكئ‭ ‬على‭ ‬حاوية‭ ‬قمامة‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬عميقة‭ ‬داخل‭ ‬زقاق‭ ‬ضيق‭ ‬مظلم‭ ‬نتن‭. ‬نمت‭ ‬هنا‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬المجرمين‭ ‬والسكيرين‭ ‬والمدمنين‭. ‬ففي‭ ‬حياة‭ ‬الشارع‭ ‬وبعد‭ ‬منتصف‭ ‬الليل‭ ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬تتوقع‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬لحظة‭ ‬أن‭ ‬خطرًا‭ ‬يستهدف‭ ‬جسدك»‭)‭ ‬.‬ص 125).

‭ ‬يبدأ‭ ‬النص‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬بالمواجهة‭ ‬المباشرة‭ ‬بين‭ ‬بطل‭ ‬الرواية‭ ‬والمدينة‭ ‬«وكانت‭ ‬مدينتنا‭ ‬قد‭ ‬ودعت‭ ‬الطهارة‭ ‬التي‭ ‬ميزتها‭ ‬خلال‭ ‬عقود‭ ‬ماضية»‭ )‬ص‭.(52  ‬

 

غربة‭ ‬وانكسار

وكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬الغربة‭ ‬والانكسار،‭ ‬لأن‭ ‬العيش‭ ‬فيها‭ ‬لا‭ ‬يورث‭ ‬إلا‭ ‬اغترابًا‭ ‬ومعاناة،‭ ‬وإحساسًا‭ ‬بالضعف‭ ‬أمام‭ ‬تسلط‭ ‬الزمن‭ ‬وقسوة‭ ‬المكان‭ ‬وتدهور‭ ‬سلوك‭ ‬الناس‭. ‬

لقد‭ ‬غدت‭ ‬مدينة‭ ‬السارد‭ ‬ممسوخة،‭ ‬فعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬كثيفة‭ ‬الأفراد،‭ ‬فإن‭ ‬الشخصية‭ ‬المحورية‭ )‬عنان‭ ( ‬ لا‭ ‬تشعر‭ ‬إلا‭ ‬بالغربة‭ ‬والهشاشة‭ ‬الوجودية،‭ ‬لأن‭ ‬ما‭ ‬عرفته‭ ‬مدينة‭ ‬السارد‭ ‬من‭ ‬تحول،‭ ‬قد‭ ‬هبط‭ ‬بقيمة‭ ‬الشخصية‭ / ‬الفرد‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬أدنى،‭ ‬بل‭ ‬حوله‭ ‬إلى‭ ‬رقم‭ ‬من‭ ‬الأرقام‭ ‬العديدة‭ ‬والمسميات‭ ‬المختلفة‭. ‬وحتى‭ ‬كثرة‭ ‬العناوين‭ ‬الفرعية‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬تعد‭ ‬علامة‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬هذا‭ ‬العدد‭ ‬الهائل‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬الشخصية‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬غربتها‭ ‬الوجدانية‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬عليها‭. ‬

‭ ‬إنها‭ ‬هنا‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الأشياء،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬أشد‭ ‬الأشياء‭ ‬عجزًا‭ ‬نتيجة‭ ‬اضطرابها‭ ‬ووهنها‭. ‬فقد‭ ‬ولدت‭ ‬هذه‭ ‬الغربة‭ ‬شعورًا‭ ‬بالخوف‭ ‬«الخوف‭ ‬من‭ ‬الآخرين،‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬المستقبل،‭ ‬بل‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬الحاضر‭ ‬نفسه»‭. ‬

يتجاوز‭ ‬الاغتراب‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬اغتراب‭ ‬الأشخاص‭ ‬إلى‭ ‬اغتراب‭ ‬كل‭ ‬الأشياء‭. ‬إنها‭ ‬تفقد‭ ‬خصوصيتها‭ ‬وشخصيتها،‭ ‬وهنا‭ ‬يفقد‭ ‬الإنسان‭ ‬إنسانيته،‭ ‬ويتحول‭ ‬إلى‭ ‬مسخ‭ ‬غريب‭ ‬عن‭ ‬البشر‭.‬

‭ ‬إنها‭ ‬بمنزلة‭ ‬معركة‭ ‬في‭ ‬أدغال‭ ‬المدن،‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬بريخت‭. ‬وبهذا‭ ‬تعيش‭ ‬شخصية‭ ‬عنان‭ ‬معركة‭ ‬روحية‭ ‬وجدانية‭ ‬وليست‭ ‬معركة‭ ‬جسدية،‭ ‬لأن‭ ‬الاغتراب‭ ‬والانكسار‭ ‬اللذين‭ ‬عاشهما‭ ‬يتجاوزان‭ ‬الجسدي‭ ‬إلى‭ ‬الروحي‭. ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬تفقد‭ ‬صفاءها‭ ‬ونقاءها‭ ‬وما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬حيث‭ ‬«كانت‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬فيها‭.  ‬كان‭ ‬السلام‭ ‬يعمر‭ ‬أرجاءها‭ ‬لدرجة‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬وصفها‭ ‬لك»‭ )‬ص7‭‬ ).

يتسم‭ ‬السرد‭ ‬عند‭ ‬الروائية‭ ‬فاطمة‭ ‬المزروعي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬روايتها‭ ‬«قصتي‭ ‬الأخرى»‭ ‬بالكثافة‭ ‬والتحول‭ ‬الحدثي‭ ‬السريع‭.  ‬إنها‭ ‬سمات‭ ‬أمكننا‭ ‬معاينتها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تناول‭ ‬بعض‭ ‬مظاهر‭ ‬السرد‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬وبخاصة‭ ‬مظهر‭ ‬الشذرية‭ ‬الذي‭ ‬يؤشر‭ ‬على‭ ‬خصوصية‭ ‬جمالية‭ ‬وإبداعية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬الروائي‭. ‬

كما‭ ‬تشتغل‭ ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬ثيمة‭ ‬الهوية‭ ‬والاغتراب‭ ‬الذاتي،‭ ‬وهو‭ ‬اغتراب‭ ‬ناتج‭ ‬عن‭ ‬قمع‭ ‬اجتماعي‭ ‬وسياسي،‭ ‬يضاف‭ ‬إليه‭ ‬وجه‭ ‬آخر‭ ‬يتجلى‭ ‬في‭ ‬الغربة‭ ‬داخل‭ ‬الوطن‭ ‬ومواجهة‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬يعمّق‭ ‬هذا‭ ‬الاغتراب‭ ‬عبر‭ ‬استعادات‭ ‬ماضوية‭ ‬ومقارنات‭ ‬متعددة‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬الحياتي‭ ‬والثقافي‭ ‬والمعيشي‭. ‬

فكيف‭ ‬يتم‭ ‬تجاوز‭ ‬هذا‭ ‬الوضع؟‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬السؤال،‭ ‬تتوالد‭ ‬موضوعات‭ ‬أخرى،‭ ‬أهمها‭ ‬فكرة‭ ‬الحرمان‭ ‬االحرمان‭ ‬من‭ ‬الحرية،‭ ‬من‭ ‬العيش،‭ ‬من‭ ‬التمتع‭ ‬بحياة‭ ‬الطفولة،‭ ‬المحرمات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬الآخرب‭. ‬وبهذا‭ ‬يلامس‭ ‬النص‭ ‬الروائي‭ ‬جوانب‭ ‬إنسانية‭ ‬عديدة،‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬السيكولوجي‭ ‬والسيوسولوجي‭ ‬والثقافي‭■