ضد الجهل ومع المعرفة

هذه المشاركة ضمن الاحتفاء بمجلة العربي الكويتية العريقة، بمناسبة بلوغها عامها الستين منذ ولادتها في ديسمبر 1958، أطلقت في الروح دفقات من الذكريات العزيزة التي أشعلت شوق الحنين إلى أيام الزمن الجميل، ذلك الزمن الذي شهد البدايات الأولى في تشكيل وعينا، نحن جيل الستينيات من القرن الماضي. فقد كنا ضمن تلك الحقبة الزمنية التي تأثرت بكل ما تم إنجازه من مشاريع ثقافية واجتماعية أخرى تحققت بفضل جيل النهضة العربية بعد انطلاقتها المباركة في منتصف القرن التاسع عشر.
هنا أقف أمام حقيقة يجب الالتفات إليها من قبل من يريد سبر أغوار سيرة أو مسيرة هذه المجلة العربية المتميزة. تلك الحقيقة التي لابد لمجلة العربي أن تفخر بمعايشتها منذ أن بدأت فكرة إنشائها، هي أنها دخلت في أجواء كان فيها الوطن العربي يشتعل بنور العقل وجذوة روح القومية العربية، فتتدفق المشاريع الاجتماعية على الصعد كافة، لتشمل كل أرجاء الوطن العربي الكبير، وكانت دولة الكويت العزيزة تتجلّى بتحررها واستقلالها ناهضة ومتجددة بروح الحداثة، على يد قائد انفلاتها من قيود التسلط الأجنبي، صاحب القلب الكبير والفكر المستنير الشيخ عبدالله السالم الصباح، الذي تولى مقاليد الحكم خلال الفترة من 1950 إلى 1965، وأرسى قواعد نظام الحكم الديمقراطي فيها منذ استقلالها في عام 1961.
لذا أقول: إذا أردنا إعطاء مجلة العربي حقها من التقييم المنصف بالمقارنة مع المشاريع الصحفية الوطنية الأخرى، للوصول إلى تقديرها على ما تستحقه بجدارة، مقابل كل ما تحقق لنا من أهدافها النبيلة التي أُسست من أجلها، فلا بُد من استحضار ذلك المشهد الثقافي العربي الذي كان سائداً في ستينيات القرن الماضي، لئلا نبتعد عن السياق التاريخي الذي ولدت خلاله وترعرعت في محيطها الخاص، في دولة الكويت، وضمن فضائها العام في الوطن العربي، حيث عاصرت حراكاً اجتماعياً نهضوياً وحداثياً مؤثراً، تفاعلياً وفاعلاً، ممتداً منذ بدايات عصر النهضة، مع الأخذ في الاعتبار تلك الانطلاقة التأسيسية التي تطلبتها مرحلة ما بعد الاستقلال في الكويت، حيث التجديد والبناء، على جميع المستويات وبالذات المستوى الثقافي الذي يشمل، إضافة إلى الجوانب الثقافية الأخرى النشاط الإبداعي على مستوى الفنون والآداب.
لقد كان ذلك الإبداع النهضوي والحداثي المتوهج في كل أشكال الفنون والآداب، هو الثمرة التي لا تكف عن التنافس في إلقاء الضوء عليها واستقطاب أوج شعاعها حركة إعلامية في الكويت مرئية ومسموعة ومقروءة، تضافرت فيها الجهود الرسمية والأهلية بكل قنوات التواصل والاتصال المتاحة، من أجل تقديم الوجه الحضاري المضيء لتلك الدولة الفتية بحداثة استقلالها في فترة الستينيات من القرن العشرين.
انبعاث القومية العربية
أما على مستوى الوطن العربي، فبإطلالة سريعة على ذلك المشهد الثقافي المقصود، سنجد أن مجلة العربي قد انطلقت - في مرحلة مع أنها كانت من أزهى مراحل المد القومي العربي، إلا أنها لم تكن تخلو من محاولات هزيمة روحها المتوثبة للانتصار تحت لواء الوحدة العربية - لا أقول في منافسة، ولكن في سباق مع الزمن، للوصول إلى المستوى المطلوب مقارنة بتلك المجلات العربية العريقة، التي سبقتها ونالت شهرتها الواسعة في مجال اختصاصها قبل مدة طويلة من الزمن، وعلى وجه الخصوص تلك المجلات المصرية واللبنانية المعروفة والمقروءة جداً في كل أرجاء الوطن العربي.
لقد كان القائمون على إنشاء ذلك المشروع العربي، الوليد في ذلك الوقت، مؤمنين بفكرة انبعاث القومية العربية، فعملوا منذ صدور عددها الأول في ديسمبر عام 1958 على أن «تساهم المجلة في دفع الحلم القومي الذي كانت أصدق تمثيل له». ففي هذا العام من أواخر الخمسينيات كانت حركات التحرر العربي في أوجها. والوحدة المصرية - السورية في أول عهدها، والشعب الجزائري يخوض نضاله ضد المحتل، والكويت تبحث عن شخصيتها وعن انتمائها. وبدا أن إصدار مجلة عربية جامعة تصدر في الكويت وتجتاز الحدود العربية، وتسمو بنفسها عن الخلافات السياسية والفكرية الضيقة، يمثل نقلة نوعية في المفهوم الثقافي العربي. فقد كانت الكويت في هذا الوقت بالذات لا تزال مرتبطة بمعاهدة الحماية البريطانية، حيث لم تكن قد نالت استقلالها بعد، وقد قيض الله لها ثلة من الرواد في عهد أمير الكويت المغفور له الشيخ عبدالله السالم الصباح ليقدموا هدية للأمة العربية، عبارة عن خطوة جديدة في الصحافة الثقافية العربية لمثل ذلك النوع من المجلات، بعد أن اختفت مجلات كان لها وزنها الأدبي والعلمي؛ (مثل المقتطف والرسالة والثقافة في جمهورية مصر العربية).
ومما لا شك فيه، كما هو مذكور في سجلات أدائها وتقييمها مقارنة بأهدافها، على مستوى انتشارها كمجلة مقروءة والتفاعل معها على مستوى النشر من قبل كبار الكتّاب العرب، أن مجلة العربي استطاعت خلال فترة قصيرة من إصدارها أن تشدّ إليها المثقفين وعموم القراء العرب، فتكونت لها قاعدة عريضة من القراء، إضافة إلى مجموعة من كبار الكتّاب العرب المشاركين بالنشر فيها.
انطلاقة الحداثة العربية
وبالنسبة إلينا كمجموعة من الشباب الناشطين في مجال الأدب الحديث في البحرين، في تلك الفترة من أيام انطلاقة الحداثة العربية على مستوى الأدب، كانت مجلة العربي بالنسبة إلينا لا تقل أهمية عن مجلة «الآداب اللبنانية»، التي أسسها في عام 1953 وكان يرأس تحريرها الأديب المعروف د.سهيل إدريس.
لقد كانت مجلة العربي مرجعاً يشدنا لتصفح الكثير من المواضيع المتنوعة، بجانب ما ينشر فيها من البحوث النقدية والنصوص الأدبية الأخرى من قصائد وكتابات سردية لكبار الكتّاب والشعراء العرب، من أمثال نجيب محفوظ، وطه حسين، وجابر عصفور، ونزار قباني، وخليل حاوي، ونازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وصلاح عبدالصبور، ومحمود درويش، وغيرهم ممن تتلمذنا على ما يرد إلينا من نتاج ملكاتهم الإبداعية في ذلك الزمن الجميل.
فشكراً لمجلة العربي على عطائها الزاخر، وأبارك لها بلوغها عامها الستين، متمنياً لها طول العمر في طريقها الممتد على مدار تاريخ أمتها العربية، راجياً لها مواصلة التميز في عطائها الثقافي الذي يعتبر واجهة حضارية لوطننا العربي، مع دوام بقائها «ضد الجهل ومع المعرفة»■