هاليداي رائد الدراسات اللغوية الحديثة

فقدت الأوساط العلمية واللغوية، أخيرًا، رائدًا مبرزًا من رواد الدراسات اللغوية الحديثة، وأحد أعلام مدرسة لندن الشهيرة في علم اللغة، إنه البروفيسور مايكل ألكسندر كير كوود هاليداي، المعروف اختصارًا بـ M.A.K. Halliday عن عمر يناهز التسعين عامًا، وقد وافته المنية في 15 أبريل 2018م، بعد أن أثرى المكتبة اللغوية بعدد من المؤلفات التي تمثّل مراجع أساسية في البحوث والدراسات اللغوية.
أرسى هاليداي من خلال بحوثه أسس اتجاه عام يتناول كثيرًا مما يتصل بدراسة اللغة وقضاياها ونصوصها، يعرف باسم علم اللغة النظامي( Systemic Functional linguistics ),الذي يُختصر عادة إلى (SFL). وفي هذه السطور نلقي بعض الضوء على مسيرة هذا الراحل وإنجازاته العلمية.
النشأة والتدرج العلمي
ولد مايكل هاليداي في ليدز بإنجلترا سنة 1925م لأسرة جامعية، فقد كان أبوه مديرًا لإحدى المدارس، وقام بعد تقاعده بدور أساسي في جمع المادة اللهجيّة الخاصة بشمال إنجلترا في كتاب بعنوان امسح عام للهجات الإنجليزيةب.
درس البروفيسور هاليداي في البداية اللغة والأدب الصيني في جامعة لندن، قبل أن يتجه إلى علم اللغة، وأجرى دراساته العليا في الصين أولاً ثم في جامعة كامبردج بإنجلترا، حيث حصل على الدكتوراه في اللغويات الصينية في عام 1955م.
بدأ هاليداي مهنته كمحاضر مساعد في اللغة الصينية بكامبردج، ثم شغل مناصب عدة في جامعات أدنبرة، وكوليدج لندن، وإنديانا، وستانفورد، وإلينوي، وإسكس.
وفي عام 1976 انتقل إلى أستراليا كأستاذ في علم اللغة، ورئيسًا للقسم في جامعة سيدني، حيث بقي حتى تقاعده في عام 1987.
عمل هاليداي في مجالات متعددة من اللغويات النظرية والتطبيقية، وكان مهتمًّا بشكل خاص بتطبيق المبادئ الأساسية للغة على نظرية وممارسات التعليم. ومن إنجازاته التي يتم الاحتفاء به على نطاق واسع تأسيسه لنظرية اللغة المعروفة باسم اللسانيات الوظيفية النظامية (SFL)، فضلًا عن المؤلفات المتعددة من المقالات والدراسات حول مواضيع تتعلق بقواعد اللغة والدلالات اللغوية، وتنمية اللغة الطفل واكتسابه، ووظيفة اللغة في التعليم، وتحليل الخطاب، ولغة العلم، ومعالجة اللغات الطبيعية، التي وصلت إلى ثلاثين كتابًا ومقالة، وقد كتب بحوثه باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية.
يذكر لهاليداي التزامه النشط والديناميكي بالتدريس، ولدوره الفعال في تطوير المناهج الدراسية لقسم اللغويات في جامعة سيدني حتى في فترة التقاعد، وقد ظل عالماً نشطاً ومؤثرًا، حيث تنقَّل كأستاذ زائر في عدد من جامعات العالم في سنغافورة، وبرمنجهام، وجامعة ICU بطوكيو، وكوبنهاجن، وجامعة هونج كونج، وجامعة سيتي في هونج كونج،تإضافة إلى انتخابه عضوًا في الأكاديمية الأسترالية للعلوم الإنسانية.
وفي عام 1969 منحته جامعة نانسي بفرنسا الدكتوراه الفخرية، وفي عام 1986 منحته جامعة سنجابور الأستاذية الفخرية، وفي عام 1987 حصل على درجة الأستاذية الفخرية بجامعة سيدني، كما حصل عليها من جامعات ماكواري،توبرمنجهام، ويورك، وأثينا، ولينغنان، وكولومبيا البريطانية.
وقد حصل عام 1981 على جائزة دافيد راسل للبحث المتميز في تعليم الإنجليزية من المجلس الوطني لمعلمي الإنجليزية بأمريكا.
تطوير نظرية السياق
كان هاليداي من أنبه تلامذة العالم اللغوي الشهير فيرث )ت 1960 )وأكثرهم وعيًا بأفكار أستاذه واستيعابًا لها، وقد استطاع أن يمنح هذه الأفكار الوضوح والتماسك اللذين كانت تفتقر إليهما، وأن يضع منذ وقت مبكر إطارًا نظريًا محكمًا لنظرية على أفكار فيرث، وقد شاركه فيها بعض زملائه حتى سُموا «الفيرثيين الجدد».
على أن هاليداي لم يكتفِ بما تمثَّله من أفكار أستاذه فيرث، بل وسَّع دائرة معارفه، وأفاد من مصادر أخرى كثيرة في وضع نظرية محكمة للوصف اللغوي صالحة للتطبيق على لغات مختلفة.
علاقات متشابكة
فاللغة عند فيرث نتيجة علاقات متشابكة متداخلة ليست وليدة لحظة معيّنة بما يصاحبها من صوت وصورة، لكنها حصيلة المواقف الحية التي يمارسها الأشخاص في المجتمع، فالجمل تكتسب دلالاتها في النهاية من خلال ملابسات الأحداث، أي من خلال سياق الحال، وهذا السياق هو كل ما يتعلق ويحيط بالأفراد، أو جملة العناصر المكونة للموقف الكلامي، ومن هذه العناصر:
1 -الحقائق المتعلقة بالمشاركين في الحدث اللغوي.
2 -الأحداث اللغوية نفسها، أي العبارات المنطوقة.
3 -الأمور المادية التي لها صلة مباشرة بالحدث اللغوي.
4 -أثر العبارات اللغوية المنطوقة فعلًا.
لكن هاليداي لم ينظر إلى هذه العناصر كلها، وإنما أراد أن يقيّد السياق بالأمور المؤثرة في البيئة، والتي تكون لها صلة مباشرة بالحدث اللغوي، فيقول: من المهم أن نقيد فكرة السياق، وذلك بأن نضيف لها كلمة )ذات صلة) ؛ لأن سياق الحال لا يعني كل صغيرة وكبيرة في المحيط المادي، كتلك التي قد تظهر لو كنا نسجل بالصوت والصورة حدثًا كلاميًا مع كل المشاهد والأصوات المحيط به، إنه يعني تلك الملامح التي لها صلة وثيقة بالكلام الحاصل.
وقد طور هاليداي فكرة السياق في دراساته عن الترابط اللغوي وتحليل النصوص، فاقترح أسلوبًا آخر لتحديد العناصر السياقية التي تلعب دورًا في بيان معنى النص، وهذا الأسلوب يُوظّف ثلاثة مصطلحات على وجه التحديد، هي:
1 -الحقل، وهو المجال الطبيعي الاجتماعي الذي يكون مسرحًا للنص، فيشمل بذلك النشاطات المختلفة، والأهداف الخاصة التي تستعمل اللغة من أجل تحقيقها.
2 -التوجهات، ويشمل العلاقات بين المشاركين في الحدث اللغوي، وضع كل مشارك والدور الذي يؤديه.
3 -النمط، وهو الوسيلة المتتبعة في النص، أو الحدث اللغوي، ويشمل الأسلوب اللغوي والوسائل البلاغية.
وقد حرص هاليداي على تأكيد فكرة مهمة، وهي أن هذه العناصر لا ينبغي أن تعامل على أنها أنواع من الاستعمال اللغوي، ولكنها إطار نظري لتمثيل السياق الاجتماعي الذي يستطيع المتكلم من خلاله أداء المعنى.
نظر هاليداي إلى اللغة باعتبارها ظاهرة اجتماعية، فدرس علاقاتها بالمجتمع دون أن يُقصي ما تمده به المناهج والمجالات المعرفية المختلفة، ولأن السياق عنده سابق على النص، فإنه بدأ بمعالجته منطلقًا من تعريف النص، بأنه اللغة التي تخدم غرضًا وظيفيًا، أي أنه لغة تخدم غرضًا في إطار سياق ما، وقد تكون اللغة مكتوبة وقد تكون منطوقة، وفي الحالتين هي نظام سيميولوجي لغوي، ويتطلب منّا فهم اللغة كنظام؛ لفهم كيفية عمل النصوص لا الجمل.
نظرية علم اللغة النظامي
يُعد ما قدمه هاليداي من تطـور لنظرية السـياق مـن أكثـر اتجاهـات المدرسة الوظيفيـة تكاملًا، فهـو يـرى أن قـدرة المـتكلم على اســتعمال اللغــة تقــع ضــمن الإمكانات التي تسمح بها اللغة، وهو بذلك يؤكد الجانب الوظيفي للغة، لكنه يرى أن يتم تصنيف هذه الوظائف ضمن نظام يعبّر عن استخداماتها، أطلق عليه االنحو النظاميب. وهذه النظرية تقوم على ثلاثة أركان هي:
الشكل: وهو تنظيم أجزاء اللغة وفق قواعد النحو والصرف.
المادة: وهي الجانب الصوتي والكتابي.
السياق: ويقصد به العلاقة بين الشكل والمواقف.
وهذه النظرية مبنيّة على أساس تعدد وظائف اللغة، وهذا المبدأ ينعكس على النظام اللغوي، فنجد أن كل تركيب أو بناء لغوي يؤدي وظيفـة مختلفـة، وهـذا يعني أن مسـتعمل اللغـة يجـد أمامه مـن الوسائل التعبيرية ما يمكنه مـن التعبير عن أفكاره ومشاعره، هذه الوسائل ليست في الواقع سوى الاسـتعمالات الفعليـة للنظام اللغـوي، ومـن ثم فإن مـن الصحيح أن نقول: إن الوسائل التعبيريـة المتاحة للمـتكلم، أو الاسـتعمالات التي من الممكن أن يلجأ إليها مسـتعمل اللغة تكون في حدود الإمكانات اللغوية الموجودة في اللغة، هذه الإمكانات هي خصوصيات كل لغة.
من هذا نلاحظ أن هاليداي قد ركّز في هذه النظرية على الجانـب الـوظيفي للغـة، ممـا جعـل المهمـة الرئيسـة التـي ينبغـي الاضطلاع بها منذ البداية هي تصنيف هذه الوظائف ضمن نظام نحوي يعكس بالدرجة الأولى تلك الاستعمالات.
شبكة ضخمة
النظام النحوي الذي قدمه هاليداي عبارة عن شبكة ضـخمة مـن العلاقـات المتداخلـة، لأنـه مبنـي علـى وظـائف اللغـة كمـا تصورها؛ لذلك نراه قد حاول تقديم حصر بأهم وظائف اللغة؛ فتمخضت محاولاته عن الوظائف الآتية:
- 1 الوظيفة النفعية الوسيلية: وهي التي يطلق عليها «أنا أريد»، فاللغة تسمح لمستخدميها منذ طفولتهم المبكرة أن يشبعوا حاجاتهم، وأن يعبّروا عن رغباتهم.
2 -الوظيفة التنظيمية: وهي تعرف باسم وظيفة «افعل كذا، ولا تفعل كذا»، فمن خلال اللغة يستطيع الفرد أن يتحكم في سلوك الآخرين؛ لتنفيذ المطالب والنهي، وكذا اللافتات التي نقرأها، وما تحمل من توجيهات وإرشادات.
3 -الوظيفة التفاعلية: وهي وظيفة «أنا وأنت»، حيث تستخدم اللغة للتفاعل مع الآخرين في العالم الاجتماعي، باعتبار أن الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع الفكاك من أسْر جماعته، فنستخدم اللغة في المناسبات، والاحترام، والتأدب مع الآخرين.
4 -الوظيفة الشخصية: من خلال اللغة يستطيع الفرد أن يعبّر عن رؤيته الفريدة، ومشاعره واتجاهاته نحو موضوعات كثيرة، بعد ذلك يثبت هويته وكيانه الشخصي ويقدم أفكاره للآخرين.
5 -الوظيفة الاستكشافية: وهي التي تسمى الوظيفة «الاستفهامية» بمعنى أنه يسأل عن الجوانب التي لا يعرفها في البيئة المحيطة به، حتى يستكمل النقص عن هذه البيئة.
6 -الوظيفة التخيلية: تتمثل فيما ينسجه المتكلم من أشعار في قوالب لغوية، كما يستخدمها الإنسان للترويح، ولشحذ الهمة والتغلب على صعوبة العمل، وإضفاء روح الجماعة، كما هي الحال في الأغاني والأهازيج الشعبية.
7 -الوظيفة الإخبارية الإعلامية: باللغة يستطيع الفرد أن ينقل معلومات جديدة ومتنوعة إلى أقرانه، بل ينقل المعلومات إلى الأجيال المتعاقبة، وإلى أجزاء متفرقة من الكرة الأرضية، خصوصًا بعد الثورة التكنولوجية الهائلة، ويمكن أن تمتد هذه الوظيفة لتصبح وظيفة تأثيرية إقناعية؛ لحثّ الجمهور على الإقبال على سلعة معيّنة والعدول عن نمط سلوكي غير محبب.
-8 الوظيفة الرمزية: يرى البعض أن ألفاظ اللغة تمثّل رموزًا تشير إلى الموجودات في العالم الخارجي؛ وعليه فإن ألفاظ اللغة تستخدم كوظيفة رمزية.
هاليداي في الدراسات اللغوية العربية
اقترن اسم هاليداي في الدراسات اللغوية العربية الحديثة باسم زوجته رقيــــة حسن (1930 - 2015) الهندية الأصل، في كثير من المؤلفات التي كتباها معًا، ومنها:
- التماسك في اللغة الإنجليزية (1976).
- سياق اللغة والنص... عناصر اللغة من منظور اجتماعي سيميائي (1985).
وقد رأى أحد الباحثين أن البحوث العربية التي أفادت من مؤلفات هذين العملين يمكن تقسيمها تبعًا لمجالها إلى مجموعتين:
أولاهما: تركز على دراسة السبك )أو الترابط اللفظي) في اللغة العربية في إطار المعايير الخمسة ) الإحالة، والحذف، والاستبدال، والربط بالأداة، والربط المعجمي) من خلال الإفادة من الكتاب الأول، مع الاقتصار عليها، أو إضافة معايير أخرى، وتردف هذه الدراسات العرض النظري بالتطبيق على عدد من النصوص عادة. ومن الأمثلة على دراسات هذه المجموعة:
- السبك في العربية المعاصرة بين المنطوق والمكتوب لمحمد سالم أبو غفرة.
- علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق: دراسة تطبيقية على السور المكية، لصبحي إبراهيم الفقي، وهي رسالته للدكتوراه (2000).
أما المجموعة الأخرى فتمثّلها الدراسات العربية التي عنيت بتقديم علم اللغة النصي للقارئ العربي وتطبيق معاييره في تحليل النصوص. وتشترك هذه الدراسات مع دراسات المجموعة الأولى في الإفادة من تنظير هاليداي ورقيّة حسن لظاهرة السبك، بوصفها تمثّل هنا أحد المعايير السبعة المعروفة للنصية، وتزيد عليها بأنها تفيد من الكتاب الثاني لهاليداي ورقية، ومن الأمثلة على دراسات هذه المجموعة:
- حسام أحمد فرج: نظرية علم النص... رؤية منهجية في بناء النص النثري.
- عزة أحمد شبل: علم لغة النص... النظرية والتطبيق.
لكن فات الباحث مؤلفات عربية أفادت من نتاج هذين العملين، ومنها مؤلفات د. محمد العبد، ود. سعيد بحيري، وغيرهما، وكمّ كبير جدًا من البحوث المنشورة في المجلات العلمية المحكّمة، لعل الباحث لو اطلع عليها لكان له رأي آخر ■