ذكريات جمال عبدالناصر في مئويته

ذكريات جمال عبدالناصر  في مئويته

نحتفلُ‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬بمرور‭ ‬مائة‭ ‬عامٍ‭ ‬على‭ ‬ولادة‭ ‬الزعيم‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬ولجمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬مكانة‭ ‬استثنائية‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬نفسي،‭ ‬وذلك‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬استمعتُ‭ ‬إلى‭ ‬صوته‭ ‬مشروخًا‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬الأزهر‭ ‬يُطمِئن‭ ‬المواطنين،‭ ‬ويدفعهم‭ ‬إلى‭ ‬الصمود‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬العدوان‭ ‬الثلاثي‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬قائلا‭ ‬لهم‭: ‬‮«‬إن‭ ‬أولادي‭ ‬لا‭ ‬يزالون‭ ‬في‭ ‬القاهرة‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬المقصود‭ ‬بالعبارة‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬لم‭ ‬يُخرج‭ ‬أُسرته‭ ‬من‭ ‬القاهرة‭ ‬لكي‭ ‬يجنِّبهم‭ ‬مخاطر‭ ‬العدوان،‭ ‬وإنما‭ ‬أبقاهم‭ ‬معه؛‭ ‬لكي‭ ‬يواجهوا‭ ‬مثله‭ - ‬بل‭ ‬مثل‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الشعب‭ ‬المصري‭ - ‬العدوان‭ ‬الثلاثي‭ ‬على‭ ‬مصر،‭ ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭ ‬تعني‭ ‬أن‭ ‬زعيمًا‭ ‬كبيرًا‭ - ‬نعده‭ ‬حبيب‭ ‬الملايين‭ - ‬يحترم‭ ‬إرادتنا‭ ‬في‭ ‬المقاومة،‭ ‬ويتَّحِد‭ ‬معها،‭ ‬ويبقى‭ ‬مع‭ ‬الشعب‭ ‬كله‭ ‬وليس‭ ‬منفصلا‭ ‬عنه؛‭ ‬لكي‭ ‬يحارب‭ ‬معه،‭ ‬ويواجه‭ ‬به‭ ‬وفيه‭ ‬العدوان‭ ‬الثلاثي‭ ‬الغادر‭ ‬والغاشم‭ ‬على‭ ‬مصر‭. ‬

كانت‭ ‬الإذاعة‭ ‬المصرية‭ ‬تثير‭ ‬حماسنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬المجيدة‭ ‬بأغانٍ‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬أصداؤها‭ ‬ترنُّ‭ ‬في‭ ‬أذني‭ ‬عندما‭ ‬أتذكرُ‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬عمري‭ ‬فيها‭ ‬لا‭ ‬يجاوز‭ ‬الثانية‭ ‬عشرة،‭ ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬الأغاني‭ ‬الحَماسية‭ ‬كانت‭ ‬تحفر‭ ‬لنفسها‭ ‬مكانًا‭ ‬باقيًا‭ ‬في‭ ‬الذاكرة،‭ ‬وتؤسِّس‭ ‬لوجدان‭ ‬الوطن‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى،‭ ‬وذلك‭ ‬بالقَدْر‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬ردود‭ ‬الفعل‭ ‬العربية‭ ‬لهذا‭ ‬العدوان‭ ‬تؤسس‭ ‬في‭ ‬وجداني،‭ ‬مشاعر‭ ‬قومية‭ ‬موازية،‭ ‬وهكذا‭ ‬أستطيعُ‭ ‬أن‭ ‬أقول‭: ‬إن‭ ‬صوت‭ ‬عبدالناصر‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬56،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬خطاباته‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬من‭ ‬خطاب‭ ‬تأميم‭ ‬قناة‭ ‬السويس‭ (‬في‭ ‬26‭/‬7‭/‬1956‭)‬،‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬المؤسِّس‭ ‬الحقيقي‭ ‬والأول‭ ‬لمكونات‭ ‬الوعي‭ ‬الوطني‭ ‬والقومي‭ ‬داخلي،‭ ‬وعندما‭ ‬انتهت‭ ‬الحرب‭ ‬بانتصار‭ ‬الإرادة‭ ‬المصرية‭ ‬الوطنية‭ ‬والإرادة‭ ‬العربية‭ ‬القومية،‭ ‬شعرتُ‭ ‬بالفخر‭ ‬لكوني‭ ‬مصريًّا‭ ‬أولًا،‭ ‬ولكوني‭ ‬عربيَّا‭ ‬ثانيًا،‭ ‬وكانت‭ ‬الصفة‭ ‬الأولى‭ ‬هي‭ ‬المؤسِّسة‭ ‬لمعاني‭ ‬الوطن‭ ‬والمواطنة‭ ‬في‭ ‬وجداني،‭ ‬وذلك‭ ‬بالقدر‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬الصفة‭ ‬الثانية‭ ‬مؤسِّسة‭ ‬لمعنى‭ ‬الانتماء‭ ‬القومي‭ ‬في‭ ‬وَعْيِي،‭ ‬ومنذ‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬أدركتُ‭ ‬أنني‭ ‬مصري‭ ‬وعربي‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬وكان‭ ‬إدراكي‭ ‬هذا‭ ‬بسبب‭ ‬المعارك‭ ‬التي‭ ‬خاضها‭ ‬وطني‭ ‬الأصغر‭ ‬ووطني‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬قوَى‭ ‬الشر‭ ‬العالمية‭ ‬التي‭ ‬يمثلها‭ ‬الاستعمار،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ولايزال‭ ‬جاثمًا‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬العربية‭ ‬حولنا،‭ ‬وكان‭ ‬الشعار‭ ‬الذي‭ ‬أطلقه‭ ‬عبدالناصر‭ ‬يرنُّ‭ ‬في‭ ‬أسماعنا‭: ‬‮«‬ارفعْ‭ ‬رأسكَ‭ ‬يا‭ ‬أخي‭ ‬فقد‭ ‬مضى‭ ‬عهد‭ ‬الاستعباد‮»‬،‭ ‬وبالفعل‭ ‬كان‭ ‬عهد‭ ‬الاستعباد‭ ‬قد‭ ‬مضى،‭ ‬ولم‭ ‬يَعُد‭ ‬في‭ ‬وطننا‭ ‬محل‭ ‬يَقبلُ‭ ‬الاستعمار،‭ ‬أو‭ ‬أعوان‭ ‬الاستعمار،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يكرر‭ ‬عبدالناصر‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬خُطبِه‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يتواصل‭ ‬فيها‭ ‬معنا‭ ‬عبر‭ ‬محنة‭ ‬حرب‭ ‬السويس‭.‬

 

مستقبل‭ ‬حالم

ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المحنة‭ ‬كانت‭ ‬وسيلة‭ ‬التعرف‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬دَيْني‭ ‬الأول‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬المدى‭ ‬الرحب‭ ‬للوعي‭ ‬الوطني‭ ‬والقومي،‭ ‬ومرت‭ ‬السنوات‭ ‬القليلة‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬سريعًا،‭ ‬فوجدتُ‭ ‬نفسي‭ ‬طالبًا‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬سبتمبر‭ ‬1961،‭ ‬قاطعًا‭ ‬طريق‭ ‬الجامعة‭ ‬الذي‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬ميدان‭ ‬الجيزة،‭ ‬وينتهي‭ ‬عند‭ ‬أبواب‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬التي‭ ‬دَلَفتُ‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الرحيب‭ ‬الذي‭ ‬سمعتُ‭ ‬أنه‭ (‬الحَرم‭ ‬الجامعي‭)‬،‭ ‬ودخلتُ‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحَرم‭ ‬الجامعي‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬وَجِلًا،‭ ‬خائفًا،‭ ‬حالمًا‭ ‬بمستقبلٍ‭ ‬أفضل‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬ولِمَ‭ ‬لا‭ ‬أحلم‭ ‬بذلك‭ ‬كله‭ ‬وقد‭ ‬مضى‭ ‬على‭ ‬هزيمة‭ ‬الاستعمار‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬السويس‭ ‬عدة‭ ‬سنوات‭ ‬فحسب،‭ ‬ومصر‭ ‬كلها‭ ‬تتطلع‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭ ‬وإلى‭ ‬المستقبل‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬الستينيات‭ ‬في‭ ‬حبور‭ ‬وتفاؤل،‭ ‬وتتطلع‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل‭ ‬الذي‭ ‬سوف‭ ‬يحقق‭ ‬وعود‭ ‬الحرية‭ ‬والعدالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والوحدة‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬السواء؟‭! ‬

ولم‭ ‬تمضِ‭ ‬أيام‭ ‬قليلة‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬إلا‭ ‬وفوجِئتُ‭ ‬بمظاهرة‭ ‬صغيرة‭ ‬تنطلق‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الحَرم‭ ‬الجامعي،‭ ‬ويهتف‭ ‬أفرادها‭ ‬بشعارات‭ ‬قومية،‭ ‬جديدة‭ ‬كل‭ ‬الجد‭ ‬على‭ ‬أُذني،‭ ‬وعلى‭ ‬عيني‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬ترَ‭ ‬تظاهرة‭ ‬قبلها،‭ ‬فقد‭ ‬كنتُ‭ ‬آتيًا‭ ‬من‭ ‬بَلدة‭ ‬لم‭ ‬أرَ‭ ‬فيها‭ ‬مظاهرة‭ ‬واحدة‭ ‬قَبل‭ ‬عامي‭ ‬الجامعي‭ ‬الأول،‭ ‬ومضيتُ‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬التظاهرة‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬البوابة‭ ‬الرئيسية‭ ‬لقاعة‭ ‬الاحتفالات‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬وارتقيتُ‭ ‬درجات‭ ‬السلالم‭ ‬المؤدية‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬القاعة؛‭ ‬كي‭ ‬أظل‭ ‬قريباً‭ ‬من‭ ‬الخُطباء‭ ‬الذين‭ ‬تناوبوا‭ ‬على‭ ‬الكلام‭ ‬واحدًا‭ ‬تلو‭ ‬الآخر،‭ ‬وظللتُ‭ ‬أسمع‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الخطباء،‭ ‬يتحدثون‭ ‬عن‭ ‬الأماني‭ ‬القومية‭ ‬للأقطار‭ ‬العربية‭ ‬الشقيقة‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬موطنٍ‭ ‬عربي،‭ ‬وذلك‭ ‬بالقَدْر‭ ‬الذي‭ ‬كنتُ‭ ‬أسمع‭ ‬فيه‭ ‬عن‭ ‬اسم‭ ‬فلسطين،‭ ‬وتَكْرَار‭ ‬أماني‭ ‬العودة‭ ‬من‭ ‬أبنائها‭ ‬إليها،‭ ‬وفجأة‭ ‬رأيت‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الاضطراب‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬الطلاب‭ ‬الذين‭ ‬يحيطون‭ ‬بي،‭ ‬وما‭ ‬كدتُ‭ ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أعرف‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر،‭ ‬إلا‭ ‬وقد‭ ‬وجدتُني‭ ‬وجهًا‭ ‬لوجهٍ‭ ‬أمام‭ ‬الزعيم‭ ‬العظيم‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أحلمُ‭ ‬برؤيته،‭ ‬بل‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬جِئتُ‭ ‬إلى‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة‭ ‬إلا‭ ‬لكي‭ ‬أراه،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنهم‭ ‬أخبروا‭ ‬الرئيس‭ ‬أن‭ ‬تظاهرةً‭ ‬قوميةً‭ ‬تتشكل‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬منه‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬جاء‭ ‬لكي‭ ‬يلحق‭ ‬بها،‭ ‬ويُلقِي‭ ‬في‭ ‬أفرادها‭ ‬كلمة؛‭ ‬كي‭ ‬تكون‭ ‬شهادة‭ ‬للتاريخ،‭ ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬المُحيطين‭ ‬به‭ ‬قد‭ ‬أبعدوني‭ ‬قليلًا‭ ‬عن‭ ‬الموقع‭ ‬الذي‭ ‬كنتُ‭ ‬أقفُ‭ ‬فيه،‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أغادر‭ ‬درجة‭ ‬السُّلم‭ ‬التي‭ ‬كنتُ‭ ‬واقفًا‭ ‬عليها‭ ‬وأرى‭ ‬عبرها‭ ‬قامة‭ ‬الزعيم‭ ‬الشامخة،‭ ‬وهو‭ ‬يقف‭ ‬مُنتصبًا‭ ‬وسط‭ ‬الحشود‭ ‬التي‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تجمَّعت؛‭ ‬لكي‭ ‬تراه‭ ‬وتسمع‭ ‬إليه،‭ ‬ولا‭ ‬أعرفُ‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬أتوا‭ ‬إليه‭ ‬بميكروفون‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الميكروفونات‭ ‬التي‭ ‬تستخدمها‭ ‬الشرطة‭ ‬في‭ ‬تنظيم‭ ‬المرور،‭ ‬وأمسك‭ ‬الميكروفون‭ ‬بأصابع‭ ‬يده،‭ ‬وظل‭ ‬يخطب‭ ‬فينا،‭ ‬وينتقل‭ ‬الحماس‭ ‬منه‭ ‬إلينا،‭ ‬فنهتف‭ ‬من‭ ‬أعماق‭ ‬قلوبنا،‭ ‬وننصت‭ ‬كل‭ ‬الإنصات،‭ ‬وهو‭ ‬يحدثنا‭ ‬عن‭ ‬المؤامرة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬التي‭ ‬تواجهها‭ ‬الأقطار‭ ‬العربية،‭ ‬وعن‭ ‬ضرورة‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬الاستعمار‭ ‬وأعوانه؛‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الشرط‭ ‬الأول‭ ‬لتحقيق‭ ‬كرامتنا‭ ‬في‭ ‬أوطاننا،‭ ‬وللوصول‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬ما‭ ‬تريد‭ ‬أمانينا‭ ‬أن‭ ‬تحققه،‭ ‬فمطلب‭ ‬الحرية‭ ‬كمطلب‭ ‬العدل‭ ‬والوحدة‭ ‬العربية‭ ‬شعارات‭ ‬مضيئة‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تنير‭ ‬طريقنا‭ ‬في‭ ‬السعي‭ ‬إلى‭ ‬النضال‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيق‭ ‬أماني‭ ‬الوحدة‭ ‬والحرية‭ ‬والعدالة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وعندما‭ ‬انتهى‭ ‬عبدالناصر‭ ‬من‭ ‬خِطابه‭ ‬القصير،‭ ‬انسحب‭ ‬من‭ ‬مكانه،‭ ‬عائدًا‭ ‬إلى‭ ‬مقر‭ ‬الرئاسة،‭ ‬تاركًا‭ ‬المجموعة‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬تحوَّلت‭ ‬إلى‭ ‬حشود‭ ‬غفيرة‭ ‬امتلأت‭ ‬بها‭ ‬ساحات‭ ‬الحَرم‭ ‬الجامعي‭ ‬بالآلاف‭ ‬المؤلفة‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭ ‬والطلاب‭ ‬والطالبات‭ ‬على‭ ‬السواء‭.‬

 

اللقاء‭ ‬الأول

وكان‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬اللقاء‭ ‬الأول‭ ‬بعبدالناصر‭ ‬الذي‭ ‬أصبحتُ‭ ‬أعشق‭ ‬حُضوره،‭ ‬وأرى‭ ‬في‭ ‬وجوده‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬وطني‭ ‬رمزًا‭ ‬للخلاص،‭ ‬وأملا‭ ‬في‭ ‬مستقبل‭ ‬أفضل‭ ‬لوطن‭ ‬سعيدٍ؛‭ ‬ولذلك‭ ‬اندفعتُ‭ ‬في‭ ‬دروسي‭ ‬مُطمئنًا‭ ‬وواثقًا،‭ ‬أعبرُ‭ ‬السنوات‭ ‬الدراسية‭ ‬بثقةٍ‭ ‬وتفاؤلٍ‭ ‬وأملٍ،‭ ‬وقد‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬أنه‭ ‬ما‭ ‬كاد‭ ‬الفصل‭ ‬الدراسي‭ ‬الأول‭ ‬ينصرم،‭ ‬ويعلم‭ ‬الله‭ ‬المصاعب‭ ‬التي‭ ‬عانتها‭ ‬عائلتي‭ ‬الفقيرة‭ - ‬كي‭ ‬تجمع‭ ‬لي‭ ‬مصروفات‭ ‬هذا‭ ‬الفصل‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مُرهقة‭ ‬كل‭ ‬الإرهاق‭ ‬لها‭- ‬التي‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أسعدها‭ ‬خطاب‭ ‬من‭ ‬خطابات‭ ‬عبدالناصر‭ ‬المُتلاحقة،‭ ‬يُعلن‭ ‬مجانية‭ ‬التعليم‭ ‬الجامعي،‭ ‬فيكمل‭ ‬مشروع‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬وحُلمه‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬كالماء‭ ‬والهواء‭ ‬حق‭ ‬لكل‭ ‬مواطن،‭ ‬ولكن‭ ‬حلم‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬توقف‭ ‬عند‭ ‬مرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬العامة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاء‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬فوصل‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬المرحلة‭ ‬الجامعية،‭ ‬وأصبح‭ ‬التعليم‭ ‬كله‭ ‬مجانيًّا‭ ‬وحقًّا‭ ‬من‭ ‬حقوق‭ ‬المواطنة‭ ‬لكل‭ ‬المصريين‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬فئاتهم‭ ‬وأنواعهم‭ ‬ودياناتهم،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬بعد‭ ‬هذا‭ ‬القرار‭ ‬أن‭ ‬أزداد‭ ‬شعورًا‭ ‬بالتفاؤل‭ ‬في‭ ‬المستقبل،‭ ‬وإقبالا‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬الجامعية‭ ‬بخُطى‭ ‬واثقةٍ‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬وعودِ‭ ‬السنوات‭ ‬الجامعيةِ‭ ‬التي‭ ‬قضيتُها‭ ‬في‭ ‬كليةِ‭ ‬الآدابِ‭ ‬بجامعة‭ ‬القاهرة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تخرجتُ‭ ‬فيها‭ ‬بتفوقٍ،‭ ‬وكنتُ‭ ‬الأول‭ ‬على‭ ‬زملائي‭ ‬في‭ ‬الكلية،‭ ‬وفي‭ ‬الأقسام‭ ‬المُماثلة‭ ‬لقسمي‭ ‬في‭ ‬الكليات‭ ‬المُناظِرة‭. ‬

 

صراع‭ ‬المصالح

وكان‭ ‬من‭ ‬المفروض‭ ‬بعد‭ ‬التخرج‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬تعييني‭ ‬معيدًا‭ ‬بكلية‭ ‬الآداب،‭ ‬ولكنني‭ - ‬مع‭ ‬الأسف‭  ‬اصطدمتُ‭ ‬بصراعِ‭ ‬المصالح‭ ‬بين‭ ‬أساتذتي،‭ ‬وتعصب‭ ‬كل‭ ‬واحدٍ‭ ‬من‭ ‬كِبارهم‭ ‬إلى‭ ‬تلميذٍ‭ ‬بِعَيْنه‭ ‬من‭ ‬الدُّفعات‭ ‬التي‭ ‬تخرَّجت‭ ‬قَبْلي،‭ ‬وكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬أنهم‭ ‬حرموني‭ ‬من‭ ‬الاشتراك‭ ‬في‭ ‬عيد‭ ‬العلم؛‭ ‬حيث‭ ‬أتشرفُ‭ ‬بمصافحةِ‭ ‬الرئيس،‭ ‬وتهنِئته‭ ‬بالتخرج،‭ ‬والعمل‭ ‬مُعيدًا‭ ‬في‭ ‬الجامعة،‭ ‬وكان‭ ‬عليَّ‭ ‬أن‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬وظيفةٍ؛‭ ‬حتى‭ ‬أخفف‭ ‬من‭ ‬عِبء‭ ‬نفقاتي‭ ‬التي‭ ‬تتحملها‭ ‬أُسرتي‭ ‬المُتواضِعة،‭ ‬وانتهى‭ ‬الأمر‭ ‬بي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أعمل‭ ‬مدرسًا‭ ‬في‭ ‬قريةٍ‭ ‬صغيرةٍ‭ ‬من‭ ‬قُرى‭ ‬محافظة‭ ‬الفيوم،‭ ‬ومرت‭ ‬الأيام،‭ ‬وأنا‭ ‬أعمل‭ ‬مدرساً‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القرية،‭ ‬شاعرًا‭ ‬بالغَبْن‭ ‬والظلم‭ ‬والاضطهاد،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاء‭ ‬يوم‭ ‬استمعتُ‭ ‬فيه‭ ‬بالمصادفة‭ ‬إلى‭ ‬خطاب‭ ‬من‭ ‬خطابات‭ ‬الزعيم،‭ ‬كان‭ ‬يتحدث‭ ‬فيه‭ ‬عن‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وأهمية‭ ‬أن‭ ‬ينال‭ ‬كل‭ ‬مواطنٍ‭ ‬حقَّه‭ ‬في‭ ‬مجتمعنا‭ ‬المصري،‭ ‬فلم‭ ‬أتمالك‭ ‬نفسي‭ ‬من‭ ‬الشعور‭ ‬بالحزنِ‭ ‬والغضبِ‭ ‬معًا،‭ ‬فمزَّقتُ‭ ‬إحدى‭ ‬صفحات‭ ‬كراسة‭ ‬التحضير‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أقوم‭ ‬فيها‭ ‬بتحضير‭ ‬دروسي‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬للطلاب،‭ ‬وقررتُ‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬للرئيس‭ ‬خطابًا‭ ‬من‭ ‬القلب،‭ ‬مملوءًا‭ ‬بالغضب‭ ‬والحزن‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬آلَ‭ ‬إليه‭ ‬وضعِي،‭ ‬وعدم‭ ‬تحقق‭ ‬العدل‭ ‬الذي‭ ‬انتهى‭ ‬بي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أعمل‭ ‬مدرسًا‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬نائية‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬معيدًا‭ ‬في‭ ‬الجامعة،‭ ‬وطويتُ‭ ‬الخطاب،‭ ‬ووضعته‭ ‬في‭ ‬ظرف،‭ ‬وطلبتُ‭ ‬من‭ ‬صاحب‭ ‬دُكّانِ‭ ‬البقالةِ‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يواجه‭ ‬النافذة‭ ‬التي‭ ‬أطلُّ‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬الطريق،‭ ‬حيث‭ ‬كنت‭ ‬أسكن‭ ‬الدور‭ ‬الأرضي‭  ‬أن‭ ‬يرسلَ‭ ‬الخطاب‭ ‬الذي‭ ‬كتبتُ‭ ‬على‭ ‬مظروفه‭ ‬عنوان‭ ‬رئاسة‭ ‬الجمهورية،‭ ‬واسم‭ ‬الرئيس‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭.‬

 

انطلاق‭ ‬وتفاؤل

ومرت‭ ‬الأيام‭ ‬وأنا‭ ‬أتحمل‭ ‬قسوة‭ ‬الوظيفة‭ ‬ومتطلباتها‭ ‬السخيفة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬عُدتُ‭ ‬في‭ ‬عُطلةٍ‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة،‭ ‬ففوجئتُ‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬رسولًا‭ ‬من‭ ‬الجامعةِ‭ ‬جاء‭ ‬إلى‭ ‬المسكنِ‭ ‬الذي‭ ‬أقطُنه‭ ‬مع‭ ‬عددٍ‭ ‬من‭ ‬الطلاب،‭ ‬مؤكِّدًا‭ ‬أهمية‭ ‬حضوري‭ ‬لمقابلة‭ ‬رئيسة‭ ‬القسم‭ ‬المرحومة‭ ‬سَهير‭ ‬القلماوي،‭ ‬أُستاذتي‭ ‬الجليلة‭ ‬التي‭ ‬هنَّأتنِي‭ ‬عندما‭ ‬ذهبتُ‭ ‬إليها‭ ‬بأن‭ ‬مشكلتي‭ ‬قد‭ ‬حُلَّت،‭ ‬وأن‭ ‬المطلوب‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أقابل‭ ‬السيد‭ ‬رئيس‭ ‬الجامعة؛‭ ‬لكي‭ ‬تكتمل‭ ‬الإجراءات،‭ ‬فانطلقتُ‭ ‬من‭ ‬فوري‭ ‬بعد‭ ‬لقائها‭ ‬إلى‭ ‬مكتب‭ ‬رئيس‭ ‬الجامعة،‭ ‬الذي‭ ‬تلقّاني‭ ‬بالتِّرحاب‭ ‬والتهنئة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كنتُ‭ ‬قد‭ ‬فشلت‭ ‬في‭ ‬مقابلته‭ ‬عبر‭ ‬الأشهُر‭ ‬الماضية،‭ ‬وعاتبني‭ ‬على‭ ‬أني‭ ‬لم‭ ‬أُخبره‭ ‬بالمشكلة‭ ‬الخاصة‭ ‬بي‭ ‬منذ‭ ‬البداية،‭ ‬مع‭ ‬أني‭ ‬لم‭ ‬أتوقف‭ ‬عن‭ ‬الترددِ‭ ‬إلى‭ ‬مكتبهِ‭ ‬مراتٍ‭ ‬عديدة‭ ‬منذ‭ ‬التخرج،‭ ‬وكانت‭ ‬محاولاتي‭ ‬تنتهي‭ ‬بالفشل،‭ ‬وكنت‭ ‬مُستغرِبًا‭ ‬التغيير‭ ‬الذي‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬رئيس‭ ‬الجامعة،‭ ‬ولكني‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬عرفتُ‭ ‬السر،‭ ‬عندما‭ ‬ذهبتُ‭ ‬إلى‭ ‬لقاء‭ ‬أمين‭ ‬الجامعة؛‭ ‬لكي‭ ‬أقوم‭ ‬بالتوقيع‭ ‬على‭ ‬إقرارٍ‭ ‬بتسلُم‭ ‬العمل‭ ‬معيدًا‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬فقد‭ ‬أخبرني‭ ‬أمين‭ ‬الجامعة‭ ‬بأن‭ ‬الشكوى‭ ‬التي‭ ‬قدمتُها‭ ‬إلى‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬قد‭ ‬أحدثت‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الأثر،‭ ‬خصوصًا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اطَّلع‭ ‬عليها‭ ‬ووضع‭ ‬عليها‭ ‬تأشيرته‭ ‬وتعليماته‭ ‬لوزير‭ ‬التعليم‭ ‬العالي،‭ ‬الذي‭ ‬أضاف‭ - ‬بدوره‭ - ‬تعليماته‭ ‬لرئيس‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬والتي‭ ‬بمقتضاها‭ ‬أصبحتُ‭ ‬معيدًا‭ ‬بكلية‭ ‬الآداب‭ ‬بقسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬مارس‭ ‬سنة‭ ‬1966،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬أزال‭ ‬أحفظُ‭ ‬تاريخه،‭ ‬هو‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬انتهت‭ ‬فيه‭ ‬شكوكي‭ ‬في‭ ‬المستقبل،‭ ‬وغضبي‭ ‬من‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬وشعوري‭ ‬بأني‭ ‬أعيش‭ ‬في‭ ‬وطنٍ‭ ‬تتحقق‭ ‬فيه‭ ‬فعلًا‭ ‬قِيم‭ ‬العدل‭ ‬والحرية‭ ‬والمساواة،‭ ‬وأنه‭ ‬لا‭ ‬فارق‭ ‬بين‭ ‬مواطنٍ‭ ‬وآخر،‭ ‬وبالفعل‭ ‬أصبحتُ‭ ‬معيدًا‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬مُنطلقًا‭ ‬ومتفائلًا‭ ‬بالمستقبل‭ ‬العلمي،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬أدَّخِر‭ ‬وُسْعًا‭ ‬في‭ ‬تحقيقهِ‭ ‬على‭ ‬النحوِ‭ ‬المُتميزِ‭ ‬الذي‭ ‬كنتُ‭ ‬أرجوه‭ ‬لنفسي‭.‬

ومضت‭ ‬السنوات،‭ ‬وحصلتُ‭ ‬على‭ ‬درجتي‭ ‬الماجستير‭ ‬والدكتوراه،‭ ‬ولكن‭ ‬أثناء‭ ‬الإعداد‭ ‬لرسالة‭ ‬الماجستير،‭ ‬فوجئنا‭ ‬بالتاريخ‭ ‬الذي‭ ‬لن‭ ‬أنساه،‭ ‬وهو‭ ‬الخامس‭ ‬من‭ ‬يونيو‭ ‬1967،‭ ‬فقد‭ ‬أُقحِمنا‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬مستعدين‭ ‬لها‭ ‬مع‭ ‬العدو‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬وحدثت‭ ‬الكارثة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬نتخلص‭ ‬بعد‭ ‬من‭ ‬آثارها‭ ‬السلبية،‭ ‬وهي‭ ‬هزيمة‭ ‬1967،‭ ‬وهنا‭ ‬رأيتُ‭ ‬وجهًا‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬عبدالناصر،‭ ‬وهو‭ ‬وجه‭ ‬متعدد‭ ‬الدلالات،‭ ‬أهمها‭ ‬شجاعة‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالخطأ‭ ‬والإعلان‭ ‬عن‭ ‬تحمل‭ ‬مسؤوليته‭ ‬كاملة،‭ ‬وبالفعل‭ ‬توجَّه‭ ‬عبدالناصر‭ ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬إلى‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬كلها،‭ ‬مُعلنًا‭ ‬الهزيمة،‭ ‬ومعترفًا‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬لكي‭ ‬يتحمل‭ ‬مسؤوليتها‭ ‬كاملة،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬قَدْر‭ ‬قوله،‭ ‬فعندما‭ ‬أصرَّت‭ ‬الجماهير‭ ‬كلها‭ ‬من‭ ‬أقصى‭ ‬مصر‭ ‬إلى‭ ‬أدناها‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬رئيسًا‭ ‬يخرجنا‭ ‬من‭ ‬هُوَّة‭ ‬الهزيمة،‭ ‬قَبِل‭ ‬الرجل‭ ‬المسؤولية،‭ ‬وحقق‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الثلاث‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬عُمرِه‭ ‬مُعجزتين؛‭ ‬المعجزة‭ ‬الأولى‭ ‬هي‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة‭ ‬وتجهيزها‭ ‬لكي‭ ‬ترد‭ ‬على‭ ‬العدو،‭ ‬فتسترد‭ ‬الأرض‭ ‬المحتلة،‭ ‬ومعها‭ ‬الكرامة‭ ‬الجريحة‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬وبالفعل‭ ‬تغيرت‭ ‬نوعية‭ ‬المقاتل‭ ‬المصري‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬الثلاث،‭ ‬خصوصًا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬استبدل‭ ‬عبدالناصر‭ ‬بالجنود‭ ‬الأُمِّيين،‭ ‬الجنود‭ ‬المُتعلمين‭ ‬من‭ ‬خريجي‭ ‬الجامعات‭ ‬المصرية،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬توفر‭ ‬السلاح‭ ‬الذي‭ ‬يحمله‭ ‬الجنود‭ ‬المتعلمون‭ ‬مُدركين‭ ‬تقنياته‭ ‬وتعقيداته،‭ ‬وهكذا‭ ‬أصبح‭ ‬الجيش‭ ‬المصري‭ ‬مستعدًا‭ ‬بعد‭ ‬أشُهرٍ‭ ‬من‭ ‬الهزيمة‭ ‬لمواجهة‭ ‬العدو‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬في‭ ‬ملحمة‭ ‬حرب‭ ‬الاستنزاف‭ ‬الرائعة،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬أهمية‭ ‬عن‭ ‬حرب‭ ‬أكتوبر‭ ‬سنة‭ ‬1973،‭ ‬ولكن‭ ‬القَدر‭ ‬لم‭ ‬يُمهل‭ ‬عبدالناصر‭ ‬الحياة‭ ‬طويلًا،‭ ‬فرحل‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬العالم،‭ ‬ولكن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حقق‭ ‬المعجزة‭ ‬الثانية،‭ ‬وهي‭ ‬بناء‭ ‬السد‭ ‬العالي‭ ‬والانتهاء‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أعماله‭ ‬وتوابعه‭.‬

 

تعددية‭ ‬سياسية

ولا‭ ‬أزال‭ ‬أذكرُ‭ ‬خُطبته‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة‭ ‬سنة‭ ‬1970،‭ ‬وهو‭ ‬يشرح‭ ‬بيان‭ ‬30‭ ‬مارس‭ ‬سنة‭ ‬1968،‭ ‬وكان‭ ‬يتحدث‭ ‬حينها‭ ‬عن‭ ‬إمكان‭ ‬تحقيق‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬التعددية‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬تخرج‭ ‬بنا‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬الصوت‭ ‬الواحد‭ ‬سياسيًّا‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬التنوع‭ ‬السياسي‭ ‬والحزبي،‭ ‬ولكن‭ ‬جاءت‭ ‬أحداث‭ ‬أيلول‭ ‬الأسود‭ ‬التي‭ ‬دفعـــــتـــه‭ ‬دفعًا‭ ‬إلى‭ ‬عقد‭ ‬آخر‭ ‬مؤتمـــر‭ ‬يحضــــره‭ ‬للقمة‭ ‬العربية؛‭ ‬وذلك‭ ‬لإيـــقاف‭ ‬طوفـــــان‭ ‬الدم‭ ‬الـــــعربي‭ ‬الذي‭ ‬أريـــــــــق‭ ‬في‭ ‬الأردن‭ ‬بين‭ ‬جنود‭ ‬الملك‭ ‬حسين‭ ‬والفدائيين‭ ‬المُنضمين‭ ‬لمنظمة‭ ‬فـــتح،‭ ‬وكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬مأساة‭ ‬قومية‭ ‬لم‭ ‬يوقفها‭ ‬إلا‭ ‬دعوة‭ ‬عبدالناصر‭ ‬إلى‭ ‬اجتماع‭ ‬للقمة‭ ‬العربية،‭ ‬وبالفعل‭ ‬حدث‭ ‬الاجتماع‭ ‬الذي‭ ‬تمكن‭ ‬فيه‭ ‬عبدالناصر‭ ‬بمساعدة‭ ‬الملوك‭ ‬والزعماء‭ ‬العــــرب‭ ‬من‭ ‬إيـــــقاف‭ ‬نزيف‭ ‬الدم‭ ‬العربي‭ ‬المراق‭ ‬هَدْرًا،‭ ‬وقد‭ ‬بذل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المؤتمر‭ ‬آخـــــر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يملك‭ ‬مــــن‭ ‬قوة‭ ‬وطـــــاقة،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬ودَّع‭ ‬آخر‭ ‬زعيم‭ ‬عربي‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬أن‭ ‬يكمل‭ ‬العمل،‭ ‬فعاد‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭,‬‭ ‬كــــي‭ ‬يستـــريح‭ ‬قليلًا،‭ ‬ولكن‭ ‬إرادة‭ ‬الله‭ ‬العليا‭ ‬كانت‭ ‬نافـــذة،‭ ‬فتــــركنا‭ ‬ورحل،‭ ‬تاركًا‭ ‬فينا‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يجعلنا‭ ‬نفخر‭ ‬به‭ ‬وبحضوره،‭ ‬ونسترجع‭ ‬أيامه‭ ‬لكي‭ ‬نسترجع‭ ‬معها‭ ‬الإنجازات‭ ‬العظيمة‭ ‬والأخطاء‭ ‬العظيمة‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬فنستمد‭ ‬منها‭ ‬زادًا‭ ‬يُعيننا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬نُكمل‭ ‬المشوار‭ ‬الطموح‭ ‬الذي‭ ‬يصل‭ ‬بنا‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬النجوم‭ ‬الوضّاءة‭ ‬بالحرية‭ ‬والوحدة‭ ‬القومية‭ ‬والعدل‭ ‬الاجتــــماعي،‭ ‬فهذه‭ ‬هي‭ ‬شعارات‭ ‬عبدالناصر‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬شعاراتنا‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬والغد،‭ ‬رحم‭ ‬الله‭ ‬عــــبدالناصر‭ ‬في‭ ‬مئــــويته‭ ‬الأولى‭ ‬