تلابُس القصائد الشعرية

لقد كانت الرواية الشفهية سببًا من أسباب تلابس القصائد الجاهلية والإسلامية بعضها ببعض، ولذلك شك الباحثون في كثير منها، حتى إننا لنجد أبياتًا مشتركة بين الشعراء يستعبد أن يكون اشتراكها مجرد توارد أفكار، مثل هذا البيت المشهور لامرئ القيس في معلقته:
وُقوفًا بها صَحْبي عَليَّ مَطِيَّهمْ
يقولونِ لا تَهلِكْ أسىً وتَجَمَّلِ
وهو نفسه منسوب إلى طَرَفة بن العَبْد في معلقته أيضًا، لكن بلفظ اتَجَلَّدِب بدلا من تجمّلِ، لأن معلقته داليّة، كما هو معروف.
ومثل ذلك هذا البيت المنسوب إلى النابغة الذبيانيّ:
لوْ أَنَّها عَرَضَتْ لأَشْمطَ راهبٍ
عبَدَ الإله صَرورةً مُتعبِّدِ
وهو نفسه منسوب إلى رَبيعة بن مَقْروم، لكن بلفظ امُتبتِّلِب بدلا من متعبِّد، لكي يوافق القافية اللامية. ولئن كنا ندرك أسباب ذلك في زمن المشافهة، فإنه لا بد من أن يستوقفنا في أزمنة التدوين، ولاسيما في العصور العباسية وما تلاها.
المقصود بالتلابس تداخُل القصائد واختلاط بعضها ببعض. ولعل أطرف أنواعه ما وقع بين نونيّتَي جَرِير( 28 - 110 هـ )وبَشّار بن بُرْد( 95 - 167 هـ(؛ فكثير من الناس يظنون أن البيت المشهور:
إنَّ العُيونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ
قَتَلْنَنا ثُمَّ لمْ يُحْيِينَ قَتْلانا
هو لبَشّار بن بُرْد من قصيدة له مطلعها:
وذاتِ دَلٍّ كأنَّ البدْرَ صورَتُها
باتَتْ تُغنّي عميدَ القلبِ سَكْرانا
وأشهر أبياتها ذلك البيت الرائع الذي جرى مجرى الأمثال:
يا قَوْمُ أُذْني لِبعضِ الحيِّ عاشِقةٌ
والأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ العَيْنِ أَحْيانا
والحقيقة أن البيت الملتبس لجَرِير ومثبت في ديوانه، وليس لبشّار، وأصله:
إنَّ العُيونَ التي في طَرْفِها مَرَضٌ
قَتَلْنَنَا ثُمَّ لمْ يُحْيِينَ قَتْلانا
وقد تصرّف به أصحاب الغناء بما يوافق ذائقتهم، أو يسهّل معانيه وألفاظه (وكان المغنّون ولا يزالون يتصرّفون بالنصوص، وممن لجأ إلى ذلك في أيامنا المغنيان محمد عبدالوهاب وأم كلثوم، والأخَوان رحبانيّ وغيرهما) .
ولا شك في أن المعنى الذي رامه جَرِير أدخلُ في الشعر من ذاك الذي جاء به المغنّون؛ فجَرِير يريد أن يطابق، أي يضادّ، بين المرض والقدرة على القتل، أي بين العجز وشدة الفتك - ومرض العيون يعني ذبولها، وهو من ملامح الجمال النسوي عند القدماء، وقد ظل كذلك حتى في أيامنا، وجرت به أغاني المغنّين -؛ على حين أن الذين غنّوا ببيت جَرِير انصرفوا عن الطباق ومعنى الذبول، واكتفوا بالتغزل بلون العيون، وفق المعايير الجمالية العربية، فتحدثوا عن الحَوَر.
ومعروف أن الشعوب، ولاسيما في عصور الرواية الشفهية، إذا وجدوا قصيدة جميلة تصرفوا بها تنقيحًا وزيادة وحذفًا. ومما يبدو أن المغنّين تصرفوا به هذا البيت:
أَتْبَعتُهمْ مُقْلةً إنسانُها غَرِقٌ
وهل ما تَرى تاركٌ للعَيْنِ إنسانا؟
الذي جعلوه مرة قبل بيت: «إنّ العيون... »ومرة بعد البيت الذي يليه، وهو:
يَصْرَعْنَ ذا اللُبِّ حتّى لا حَراكَ بِهِ
وهُنَّ أضْعفُ خَلْقِ اللهِ أَرْكانا
وهو في ديوان جَرير بعد ذلك البيت بتسعة أبيات، لكن المغنّين يقفزون عن الأبيات التي لا يروقهم غناؤها.
سبب قول بشّار لقصيدته
لكن أين التلابس؟ الواقع أن قصيدة بَشّار النونيّة تضمّنت بيت جَرِير المشار إليه، وبعد أبيات تضمّنت بيتًا آخر لجَرير نفسه، هو:
يا حَبّذا جبَلُ الرَّيّانِ مِنْ جبَلٍ
وحبّذا ساكِنُ الرَّيّانِ مَنْ كانا
ولذلك اختلف الناس في نسبة بيت «إن العيون«... والبيت التالي له إلى جَرِير أو إلى بَشّار.
وقد اعتقد بعض من يعرفون أنهما لجَرِير أن بَشّارًا ضمّن أولهما شعرَه إعجابًا بجَرِير، ورووا تأييدًا لذلك أن بَشّارًا هجا في مطلع شبابه جَرِيرًا ليشتهر، فلم يعبأ به جَرِير، وأنه طلب بعد ذلك إلى إحدى المغنيات أن تغنيه ببيت جَرِير: «إن العيون... »فردّت عليه بأنها ستغنيه بما هو أفضل منه، وهو البيت الذي سبقت الإشارة إليه، أي: «يا قوم أُذْني لبعض الحي عاشقة...». وذلك كلام يفتقر إلى الدقة، فحين توفي جَرير كان بشّار في الخامسة عشرة من عمره، ومن المستبعد أن يتصدى لشاعر شيخ قد بلغ الثمانين أو نحوها؛ وأما بيتا جَرِير فقد رواهما ابن بُرد في قصيدته بضرب من الحكاية لا التضمين البلاغي أو الاقتباس؛ ذلك أنه، على ما يرويه كتاب الأغاني، حضر مجلس غناء عند أحد ممدوحيه، فسكر ممدوحه ونام، وحين همّ هو بالخروج، طلبت إليه القَيْنة( أي الجارية المغنية) أن يصف تلك الجلسة في شعره من غير أن يذكر اسمها ولا اسم سيدها، ثم يرسل القصيدة إلى سيدها ذاك، ففعل بَشّار ونال جائزة كبيرة. ونكتفي برواية الأبيات الأربعة الأولى من تلك القصيـــدة لتوضــيح الأمر، وهي:
وذاتِ دَلٍّ كأنَّ البدْرَ صُورتُها
باتَتْ تُغَنّي عَميدَ القَلْبِ سَكْرانا:
إنَّ العُيونَ التّي في طَرْفِها حَوَرٌ
قَتَلْنَنا ثُمَّ لمْ يُحْيِينَ قَتْلانا
فقُلْتُ أحْسنْتِ يا سُؤْلي ويا أَمَلي
فأَسمِعيني جَزاكِ اللهُ إِحْسانًا:
يا حَبَّذا جبَلُ الرَّيّانِ مِنْ جَبَلٍ
وحبّذا ساكِنُ الرَّيّانِ مَنْ كانا
وواضح أن القَيْنة غنّت في تلك الجلسة من تلقاء نفسها ببيت جَرِير: «إنّ العيون...»، فاستحسن بَشّار غناءها واستزادها، طالبًا أن تغنيه ببيت جَرِير الآخر: «يا حبذا جبلُ الريّان...» ، فوعدته بأن تغنيه بما هو أحسن منه وهو البيت القائل: ايا قومُ أذْني لبعض «لحي عاشقة...» ، وغنّته بعد ذلك ببيت آخر هو:
أَصْبَحْتُ أَطْوَعَ خَلْقِ الله ِكلِّهِمُ
لِأَكْثَرِ الخَلْقِ لي في الحُبِّ عِصْيانا
ثم بيتًا أخيرًا هو:
لا يَقْتُلُ اللهُ مَنْ دامَتْ مَوَدَّتُهُ
واللهُ يقتلُ أهْلَ الغَدْرِ أحيانا
نسبة الأبيات المغنّاة
قد فهم بعضهم أن هذين البيتين الأخيرين، وبيت: «يا قوم أُذني لبعض الحي عاشقة...» أبياتٌ لبَشّار، ولا شيء يؤكد ذلك؛ فمن المحتمل أن تكون فعلًا له، وكأنّ القينة غنّت بشعر جَرِير وبشعره هو إرضاء له؛ لكن الأرجح أن تكون تلك الأبيات مما هو شائع بين المغنين لجَرِير أو لغيره.
وذلك أن كتاب الأغاني يخبرنا أن بيتَي جَرِير: «إنّ العيون...» حتى: «وهُنّ أضعفُ خلق الله أركانا»، غنّت بهما جارية لإسحاق المَوْصليّ اسمها سمحة، بلحن لشخص يلقب بالحَسْحاس أو بالأَبْجَر؛ كما غنّى بهما المغني المشهور ابن مُحْرِز )ت 140 هـ) ، وأن المغنّين غنوا بأبيات متعددة أخرى من قصيدة جَرِير نفسها، منها البيت القائل «أَتْبَعتُهمْ مُقْلةً إنسانُها غَرِقٌ»، وقد غنى به ابن محرز، والمغني الأشهر مَعْبَد بن وَهْب (ت 126 هـ) ، كما غنوا بالأبيات الثلاثة الأولى من قصيدة جَرِير، لكن برواية تختلف قليلًا عما في الديوان، وكأنهم تصرفوا بها خضوعًا لمقتضيات الغناء؛ وجاءت صيغتهم على هذا النحو:
بانَ الأَخِلاّ وما ودَّعْتُ مَنْ بانا
وقَطَّعوا مِنْ حِبالِ الوَصْلِ أرْكانا
أَصْبَحْتُ لا أَبْتَغي مِنْ بَعْدِهمْ بَدَلًا
بالدارِ دارًا ولا الجِيرانِ جِيرانا
وصِرْتُ مُذْ وَدَّعَ الأَظعانُ ذا طَرِبٍ
مُرَوَّعًا مِنْ حِذارِ البَيْنِ مِحْزانًا
حيث بدلوا اوما وَدّعتُب من «ولو طُووِعْتُ» و«أركانا» من «أقرانا» و«أصبحت لا أبتغي من بعدهم بدلًا» من «حيِّ المنازلَ إذ لا نبتغي بدلًا»، و«وصرتُ مذ ودّع الأظعانُ» من «قد كنتُ في أثر الأظعانِ»، وفي بعض ذلك تحسين للنص لا شك فيه، وفي بعضه اضطراب ودنوّ عن مستوى جَرِير.
وقد غنّى بهذه الأبيات المغني المشهور الملقب بالغَريض )ت 95 هـ) ، ومغنيان آخران أقل شهرة يُدعيان مالكًا وابن سرجس. فلو كانت الأبيات المغناة لبَشّار لوجب أن يكون قد قالها قبل لقاء القينة، أو قبل أن تبدأ غناءها في ذلك المجلس، وليس في ديوانه ولا في غيره ما يدل على ذلك؛ فقصيدته النونيّة موضوع بحثنا ليست في الديوان، بل في كتاب الأغاني لأبي الفرَج الأصفهاني، لم يروها قبله أحد، في ما نعلم، وإن أثبتها في الديوان محققوه نقلًا عن الأغاني؛ وتلك الأبيات المغناة مروية في قصيدة بَشّار حكاية عن المغنية، أي على لسانها، فليس هناك حتى قرينة ضعيفة تدل على أنها له، ولا يستبعد أن تكون لجَرِير وقد تصرّف بها المغنون أو صاغوها على طريقة جَرِير.
ولا ننفي احتمالًا آخر، هو أن بَشّارًا كتب القصيدة وجعل فيها أبياتًا تقارب في أسلوبها أسلوب جَرِير وادّعى أن القينة غنّت بها، أي أن يكون الأمر محض خيال شاعر، ليس إلا.
والطريف أن قصيدة جَرِير قصيدة هجائية مؤلفة من اثنين وسبعين بيتًا، قالها صاحبنا يهجو الأخطل، لكن مقدمتها الغزلية تحتل ستة وخمسين بيتًا، وبقيتها الهجائية تحتل ستة عشر بيتًا، أي نحو خمسها فحسب! ولقد يُظن أن الغزل في القصيدة يتفوّق طولًا على الهجاء ويدانيه في القيمة، والحقيقة أنه يتفوّق عليه طولًا وقيمة أدبية أيضًا بما لا يكاد يقاس، وكأن جَرِيرًا طبع على الغزل، وتطفّل على الهجاء فقاله هنا للضرورة، أو لعله كتب قصيدة غزلية، فلما أراد الهجاء جعلها مقدمة له، فكانت أطول منه، وأكثر جمالًا.
وفي تلك القصيدة هذا البيت المشهور:
يا أُمَّ عَمْرٍو جَزاكِ اللهُ مَغْفِرةً
رُدّي عَليَّ فُؤادي كالذي كانا
تلابس قصائد الجاهليّين والإسلاميّين
تلابس القصائد ظاهرة شعرية قديمة سببها التشابه في الأحـوال أو في الأسـماء، ومن ذلك تلابس شعر عنترة وشعر سُحَيم عَبْد بني الحَسْحاس )ت قبل 35 هـ)؛ فلعنترة قصيدة فائيّة زعموا أنه قالها بعد ادّعاء امرأة أبيه سُميّة أنه راودها عن نفسها، وبعد أن ضربه أبوه ضربًا مبرحًا، بسبب ذلك، فوقعت عليه سميّة لتكفّ زوجها عنه، وبكت؛ وتقول الأبيات الأولى من تلك القصيدة:
أَمِنْ سـُمَيّةَ دَمْعُ العَيْنِ تذريفُ؟
لو أنّ ذا مِنْـكِ قبلَ اليـومِ معروفُ
كأنّهـا يومَ صـَدّتْ ما تكلِّمُني
ظَبيٌ بِعُسْفانَ ساجي الطَّرْفِ مَطروفُ
تَجَلَّلَتْنيَ إذْ أهوَى العَصـا قِبَلي
كأنَّهـا صَـنمٌ يُعتـادُ مَعْـكـوفُ
المالُ مالُكُمُ والعبْـدُ عبـْدُكمُ
فهلْ عذابُكِ عنّي اليـومَ مصـروفُ؟
لكن الأبيات الأول والثاني والرابع من هذه منسوبة إلى سُحَيْم أيضًا، ومروية في ديوانه الذي صنعه نِفطويه، ومقدَّم لها بقصة تشبه في بعض أبعادها قصة عنترة وامرأة أبيه؛ إذ زعموا أنه «لما أكثر عبدُ بني الحَسْحاس من التشبيب بنساء الحيّ أجّجوا له نارًا وهمّوا بإحراقه، فبكت امرأة كان يُرمى بها، فقال شعره هذا»، لكن من غير أن يذكر ما ذكره عنترة من الصدّ، ومن غير أن يفاخر بالبطولة مفاخرة عنترة. كما أن قصيدة عنترة تنتهي بقوله:
لا شَكَّ لِلمرءِ أنَّ الدَّهرَ ذو خُلُفٍ
فيهِ تَفرَّقَ ذو إلْفٍ ومألوفُ
والطبريّ ينسب في تاريخه إلى سُحيم بيتين: أولهما مماثل لمطلع قصيدة عنترة، وثانيهما يشبه شطرُه الأول الشطرَ الأول من بيت عنترة الأخير، أي ينسب إليه القول: «لا تُبكِ عينَكَ إنّ الدهرَ ذو خُلُفٍ»، كما أن شطره الثاني مماثل للشطر الثاني من ذلك البيت؛ فالبيتان يكادان يكونان واحدًا لكن بروايتين.
ومع أن أكثر المصادر تنسب الشعر إلى عنترة، فإن الخُلق الذي يصوّره أقرب إلى خلق سُحيم، سواء من ذلك ما ورد في قصة القصيدة، أو في ما يوحيه نفَسها، أو في ما عبّر عنه مضمونها؛ فقد اشتهر سُحيم بالمجون وبالعلاقات المريبة بنساء سادته، وبتشبيبه بهنّ، ولاسيما تلك المرأة التي زعموا أن اسمهـا سُميّة، وهو الاسم نفسه الذي عرفت به زوجة أبي عنترة.
وتقول الأخبار إن سادة سُحيم قتلوه من أجل ذلك. ولهذا يغلب على الظن أن الأبيات له، وأنها طُوّلت ونُسبت إلى عنترة، فاستدعت كلامًا في الحرب والبطولة. ولعل سبب هذا التلابس أن الرجلين متشـابهان في العبودية والسـواد والعشق، وإن كان عنترة لم يلبث أن تحرَّر، وكان عشقه عفيفًا في الأغلب، خلافًا لسُحيم في عبوديته الدائمة وعشقه؛ وفرق آخر هو أن عنترة اشتهر بفروسيته، واشتهر سحيم بمجونه، على ما قدمنا.
ومن ذلك تلابس قصيدة لعنترة بقصيدة منسوبة إلى الشاعر المخضرم كَثِير بن الغريرة أو الغريزة النَّهْشليّ وإلى الفارس الجاهلي المشهور عَمرو بن مَعْدي كرِب. فلعنترة قصيدة نونيّة وردت في ديوانه الذي بتحقيق محمد المولوي غير مُصرَّعة المطلع، ولم يُشَر إلى سبب قوله لها، وأولها:
ومَكْروبٍ كَشَفْتُ الكَرْبَ عَنْهُ
بطَعْنةِ فَيْصلٍ لَمَّا دعـاني
وفي هذه القصيدة يفاخر العبسيّ بأنه يجيب دعوة المسـتجير به في الحرب، وبأنه يقتل خصمه؛ كما يفاخر بقتله لأحد الأبطال وتركه طعامًا للطير؛ ويشكو تقادم الزمان عليه معلنًا سعادته، مع ذلك، بالحرب، ومؤكدًا طواعية الموت له، ومبديًا فخْرَه بفرسان قومه.
وهي قصيدة تجري على أسلوب عنترة في سائر شعره وتقارب معانيه، ولاسيما في المعلقة، لكنها أقل جزالة من تلك المعلقة. وقد عزا الأصمعيّ وأبو عمرو الشيباني بعضها إلى كثِير النهشليّ، لكن في قصيدة رثاء لا فخر؛ كما نسب ابن الشجريّ في حماسته بعضًا آخر منها إلى عمرو بن مَعْدي كرِب. فقد شك الرواة، إذن، بنسبة القصيدة وحاروا، وهي في تحقيق المولويّ ثلاثة عشر بيتًا، بينما هي في طبعة دار صادر عشرون بيتًا تسبقها إشارة إلى سبب قول القصيدة، وتبدو أبياتها السبعة الزائدة مقحمة على النص، وفي أبياتها الأربعة الأولى التي هي مفتتح القصيدة شكوى من الدهر، وأول أبياتها مصرّع، يقول فيه:
أَرى لي كلَّ يومٍ مع زماني
عِتابًا في البِعادِ وفي التداني
والظاهر أن بعض الناحلين جمع أبياتًا من هنا وهناك، وزاد عليها ما يوافقها ويوافق شعر عنترة، ويوافق حاله، لينسبها إليه.
ومن ذلك تلابس شعر عبدالله بن العَجْـلان )ت نحو 50 ق. هـ) وشعر مسافِر بن أبي عمرو )ت نحو 10 ق. هـ ،( وقد مات كلاهما عشقًا في قصتين تكادان تكونان متماثلتين؛ فقد روى كتاب الأغاني عن ابن سِيرِين بيتين قالهما عبد الله بن العَجْلان في زوجة سابقة له اسمها هند، وزعم أنه مات بعدهما فورًا، لكن الأغاني نفسه لا يلبث أن يخطّئ تلك الرواية مؤكدًا «أن أكثر الرواة يروون هذين البيتين لمسافر»، وأن مسافرًا هذا «قالهما لما خرج إلى النعمان بن المنذر يستعينه في مَهر هند بنت عُتْبة بن ربيعة، فقدم أبو سفيان بن حرب، فسأله عن أخبار مكة، وهل حدث بعده شيء، فقال: لا، إلا أني تزوجت هندًا بنت عتبة، فمات مسافر أسفًا عليها».
ويستدل الأصفهاني على ما ذهب إليه بعبارة وردت في الشعر المتنازع هي: «وأصبحتُ مِن أدنى حموَّتها حَما»، ذلك لأن مسافرًا هو ابن عم أبي سفيان، ولأن النميريّ الذي زعموا أنه تزوج هندًا ليس «ابن عم عبدالله العجلان فيكون من أحمائها». والحقيقة أن الرواة والقصاصين كثيرًا ما يجعلون القصة نفسها لشخصية ما ثم لشخصية أخرى، لمجرد تشابه أحوال الشخصيتين، وربما اخترعوا للشخصيتين معًا قصة وهمية واحدة.
ومن قصص الحب التي دفعت الرواة إلى إدخال أبيات شاعر في أبيات شاعر آخر، ما رووه عن قيس بن الحِدادية وقيس بن الملوّح مجنون بني عامر. والأول صعلوك جاهليّ قديم خلعته قبيلة خزاعة، وتوحي أخباره أنه كان من عشّاق العرب، عشق نُعْمًا أمّ مالك بن ذُؤيب الخُزاعيّ وشبّب بها، والثاني هو الشاعر العاشق المشهور. ومما قاله ابن الحِدادية في نُعم قصيدة مطلعها:
سَقى اللهُ أَطلالًا بنُعمٍ ترادَفتْ
بِهِنّ النَّوى حتّى حَلَلْنَ المَطاليا
لكن الرواة أدخلوا أبياتًا من هذه القصيدة في شعر قيس بن الملوّح. ولنلحظ هنا تماثل الاسمين، واشتراكهما في حال العشق، فكلاهما يدعى قيسًا، وكلاهما عاشق، لكن أحدهما خزاعيّ والآخر عامريّ.
ومن ذلك ما ينسب إلى صخر بن عَمرو، أخي الخنساء، وهو على فراش الموت، نعني قوله:
أَجارتَنا لستُ الغَداةَ بِظاعِنٍ
ولكنْ مُقيمٌ ما أقامَ عَسِيبُ
وقول الشاعر المشهور امرئ القيس عند موته:
أجارتَنـا إنَّ المـَزارَ قريبُ
وإنّي مُقيمٌ ما أقامَ عَسِيبُ
وواضح أن الشطرين الثانيين يكادان يكونان متطابقين، والباعث على قول البيتين هو الاحتضار. ولتسويغ الأمر تزعم روايتا الأغاني أن امرأ القيس وصخرًا دفنا بعَسيب، وهو جبل ببلاد نجد أو بلاد هُذَيْل!
وقريب من ذلك تلابس شعر الأعشى الكبير، أعشى قَيْــــس، وشعــــر خالــه المـــسيَّب بن عَلَس، وكان الأعشى راوية له؛ وكذلك تلابس شعر الأعشى نفسه وشعر شاعرين آخرِين يشاركانِهِ اللقب.
ومثله تلابس شعر أًمَيّة بن أبي الصَلْت وشعر أبيه، أو شعره وشعر أمثاله من الحنفاء كصَيْفيّ، أبي قيس بن الأَسْلَت( ت 1 هـ( وكزيد بن عمرو )ت 17 ق. هـ( وكورَقة بن نَوْفَل )ت 12 ق. هـ(..
ومثله تلابس شعرٍ لحسّـان بن ثابت وشعر لكَعْب بن مالِك الأنصـاريّ )ت 50 هـ ،( وكلاهما من شعراء الرسول .ﷺ
النتاج
التشابه مفْضٍ إلى التلابس: تشابه الأحوال أو الأسماء، أو الانتساب إلى بيت واحد، فهو قد يُلبس الأمر على الرواة فينسبون الشعر الواحد إلى شاعرين أو أكثر، أو يستغلونه في عملهم القصصي لينسبوا ذلك الشعر إلى غير واحد. وزيادة على ما عرضنا له تكفي مراجعة أسماء الشعراء في فهارس المصادر، ليتبين لنا وجود أسماء متشابهة كثيرة. وقد عدّد السيوطي جملة من الأسماء المتشابهة، فوجد تسعة عشر شاعرًا باسم الأعشى، وخمسة عشر باسم امرئ القيس؛ كما وجد رجيس بلاشير، اعتمادًا على المؤتلف والمختلف للآمديّ، عشرة شعراء باسم الأحمر أو ابن الأحمر، وثمانية باسم النابغة، وأربعة باسم كثير، مشيرًا إلى أن التلابس ينجم في كثير من الأحوال من كون صاحب الأثر قد يدعى باسم قبيلته فحسب، كالشاعريْن الغَنَويّين، وكشعراء هُذَيل، فنقف حائرين أمام جميع الشعراء المنتمين إلى تلك القبيلة.
وقد رأى تيودور نولدكه أن القصيدة إذا نسبت إلى شاعرين مختلفين فإن ذلك يكون في مصلحة أقلهما شهرة، لاسيما عند تشابه الأسماء؛ وليس هذا منطقيًا.
والحاصل من مراجعة الشعر العربي أن الأمر كان غالبًا في مصلحة الأشهر أو الأقوى سلطة. ونحن لذلك نرجّح رأي بلاشير في أن حالة التلابس بسبب الانتماء القبلي تبعث الرواة على نسبة الأثر الغُفل إلى الشاعر الأكثر شهرة.
وكذلك الأمر إذا تناول شاعران أو أكثر موضوعًا ذا منحى واحد، كالمنحى الديني عند عَدِيّ بن زيد وأُمَية بن أبي الصَلْت، أو كأي منحى وصْفيّ مغفل، كوصف الفرس والجمل وصيد الوعل. كما يشير نولدكه بحق إلى أن من دواعي التلابس ذكر شاعرين لاسم محبوبة واحدة، أو ذكرهما للمواضع نفسها أو للأشخاص أنفسهم، أو تطرقهما لموضوع غلب على أحدهما، أو استعمالهما للغة أو لأسلوب عرف به أحدهما.
لكن تنبغي الإشارة إلى أن حالة التلابس بين قصيدة جَرِير وقصــــيدة بَشّار تختـــــلف عن كل ذلك، فهي ليست ناجمة عن خطأ الرواة، أو تدليسهم لحاجة قصصية، بل هي مجرد خِيار شعــري، ومحاولــــة وصف صادق للــــواقع، أو على الأقل وصــف صادق فنيًا يحاول الشاعر فيه أن يشابه وصفُه الواقعَ ويستمد منه ما يساعد في الإيحاء به ويمتع بتصويره. فاحتمال الخطأ أو التدليس في زمن التــــدوين، ومنــه زمن بَشّار، أقل بكثير منه في زمن الرواية الشفهية.
ولم يكن بَشّار يقصد التدليس ولا السرقة، بل نقل بالحكاية الشعرية ما سمعه من القينة من شعر، وجعله بوضوح طي قصيدته، وإن جاء نقله ملتبسًا في بعض الأحيان؛ وذلك لا مفر منه لأن الشاعر ليس مؤرخًا ولا راوية حديث شريف، فهو لا يستطيع أن يكون شديد الوضوح، وإلّا خرج من طريق الشعر إلى طريق العلم أو ما يشبه العلم؛ فمن الطبيعي والحالة هذه أن تغمض بعض الإشارات في الشعر إلا في ما يسمى شعر العلماء، أي النظم الصرف الذي لا شعر فيه■