تلابُس القصائد الشعرية

تلابُس القصائد الشعرية

لقد‭ ‬كانت‭ ‬الرواية‭ ‬الشفهية‭ ‬سببًا‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬تلابس‭ ‬القصائد‭ ‬الجاهلية‭ ‬والإسلامية‭ ‬بعضها‭ ‬ببعض،‭ ‬ولذلك‭ ‬شك‭ ‬الباحثون‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬منها،‭ ‬حتى‭ ‬إننا‭ ‬لنجد‭ ‬أبياتًا‭ ‬مشتركة‭ ‬بين‭ ‬الشعراء‭ ‬يستعبد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬اشتراكها‭ ‬مجرد‭ ‬توارد‭ ‬أفكار،‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬المشهور‭ ‬لامرئ‭ ‬القيس‭ ‬في‭ ‬معلقته‭:‬

وُقوفًا‭ ‬بها‭ ‬صَحْبي‭ ‬عَليَّ‭ ‬مَطِيَّهمْ

يقولونِ‭ ‬لا‭ ‬تَهلِكْ‭ ‬أسىً‭ ‬وتَجَمَّلِ

وهو‭ ‬نفسه‭ ‬منسوب‭ ‬إلى‭ ‬طَرَفة‭ ‬بن‭ ‬العَبْد‭ ‬في‭ ‬معلقته‭ ‬أيضًا،‭ ‬لكن‭ ‬بلفظ‭ ‬اتَجَلَّدِب‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬تجمّلِ،‭ ‬لأن‭ ‬معلقته‭ ‬داليّة،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معروف‭. ‬

ومثل‭ ‬ذلك‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬المنسوب‭ ‬إلى‭ ‬النابغة‭ ‬الذبيانيّ‭:‬

لوْ‭ ‬أَنَّها‭ ‬عَرَضَتْ‭ ‬لأَشْمطَ‭ ‬راهبٍ

عبَدَ‭ ‬الإله‭ ‬صَرورةً‭ ‬مُتعبِّدِ

وهو‭ ‬نفسه‭ ‬منسوب‭ ‬إلى‭ ‬رَبيعة‭ ‬بن‭ ‬مَقْروم،‭ ‬لكن‭ ‬بلفظ‭ ‬امُتبتِّلِب‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬متعبِّد،‭ ‬لكي‭ ‬يوافق‭ ‬القافية‭ ‬اللامية‭. ‬ولئن‭ ‬كنا‭ ‬ندرك‭ ‬أسباب‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬المشافهة،‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يستوقفنا‭ ‬في‭ ‬أزمنة‭ ‬التدوين،‭ ‬ولاسيما‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬العباسية‭ ‬وما‭ ‬تلاها‭.‬

 

المقصود‭ ‬بالتلابس‭ ‬تداخُل‭ ‬القصائد‭ ‬واختلاط‭ ‬بعضها‭ ‬ببعض‭. ‬ولعل‭ ‬أطرف‭ ‬أنواعه‭ ‬ما‭ ‬وقع‭ ‬بين‭ ‬نونيّتَي‭ ‬جَرِير(‭ ‬ 28‭ - ‬110‭ ‬هـ‭  ‬)وبَشّار‭ ‬بن‭ ‬بُرْد(‭‬ 95‭ ‬‭- ‬167‭ ‬هـ‭(‬؛‭ ‬فكثير‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬يظنون‭ ‬أن‭ ‬البيت‭ ‬المشهور‭:‬

إنَّ‭ ‬العُيونَ‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬طَرْفِها‭ ‬حَوَرٌ

قَتَلْنَنا‭ ‬ثُمَّ‭ ‬لمْ‭ ‬يُحْيِينَ‭ ‬قَتْلانا

هو‭ ‬لبَشّار‭ ‬بن‭ ‬بُرْد‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬له‭ ‬مطلعها‭: ‬

وذاتِ‭ ‬دَلٍّ‭ ‬كأنَّ‭ ‬البدْرَ‭ ‬صورَتُها

باتَتْ‭ ‬تُغنّي‭ ‬عميدَ‭ ‬القلبِ‭ ‬سَكْرانا

وأشهر‭ ‬أبياتها‭ ‬ذلك‭ ‬البيت‭ ‬الرائع‭ ‬الذي‭ ‬جرى‭ ‬مجرى‭ ‬الأمثال‭:‬

يا‭ ‬قَوْمُ‭ ‬أُذْني‭ ‬لِبعضِ‭ ‬الحيِّ‭ ‬عاشِقةٌ

والأُذْنُ‭ ‬تَعْشَقُ‭ ‬قَبْلَ‭ ‬العَيْنِ‭ ‬أَحْيانا

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬البيت‭ ‬الملتبس‭ ‬لجَرِير‭ ‬ومثبت‭ ‬في‭ ‬ديوانه،‭ ‬وليس‭ ‬لبشّار،‭ ‬وأصله‭:‬

إنَّ‭ ‬العُيونَ‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬طَرْفِها‭ ‬مَرَضٌ

قَتَلْنَنَا‭ ‬ثُمَّ‭ ‬لمْ‭ ‬يُحْيِينَ‭ ‬قَتْلانا

وقد‭ ‬تصرّف‭ ‬به‭ ‬أصحاب‭ ‬الغناء‭ ‬بما‭ ‬يوافق‭ ‬ذائقتهم،‭ ‬أو‭ ‬يسهّل‭ ‬معانيه‭ ‬وألفاظه‭ ‬(وكان‭ ‬المغنّون‭ ‬ولا‭ ‬يزالون‭ ‬يتصرّفون‭ ‬بالنصوص،‭ ‬وممن‭ ‬لجأ‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬أيامنا‭ ‬المغنيان‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬وأم‭ ‬كلثوم،‭ ‬والأخَوان‭ ‬رحبانيّ‭ ‬وغيرهما)‭ .‬

ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬المعنى‭ ‬الذي‭ ‬رامه‭ ‬جَرِير‭ ‬أدخلُ‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬من‭ ‬ذاك‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬به‭ ‬المغنّون؛‭ ‬فجَرِير‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يطابق،‭ ‬أي‭ ‬يضادّ،‭ ‬بين‭ ‬المرض‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬القتل،‭ ‬أي‭ ‬بين‭ ‬العجز‭ ‬وشدة‭ ‬الفتك‭ - ‬ومرض‭ ‬العيون‭ ‬يعني‭ ‬ذبولها،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬الجمال‭ ‬النسوي‭ ‬عند‭ ‬القدماء،‭ ‬وقد‭ ‬ظل‭ ‬كذلك‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬أيامنا،‭ ‬وجرت‭ ‬به‭ ‬أغاني‭ ‬المغنّين‭ -‬؛‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الذين‭ ‬غنّوا‭ ‬ببيت‭ ‬جَرِير‭ ‬انصرفوا‭ ‬عن‭ ‬الطباق‭ ‬ومعنى‭ ‬الذبول،‭ ‬واكتفوا‭ ‬بالتغزل‭ ‬بلون‭ ‬العيون،‭ ‬وفق‭ ‬المعايير‭ ‬الجمالية‭ ‬العربية،‭ ‬فتحدثوا‭ ‬عن‭ ‬الحَوَر‭.‬

ومعروف‭ ‬أن‭ ‬الشعوب،‭ ‬ولاسيما‭ ‬في‭ ‬عصور‭ ‬الرواية‭ ‬الشفهية،‭ ‬إذا‭ ‬وجدوا‭ ‬قصيدة‭ ‬جميلة‭ ‬تصرفوا‭ ‬بها‭ ‬تنقيحًا‭ ‬وزيادة‭ ‬وحذفًا‭. ‬ومما‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬المغنّين‭ ‬تصرفوا‭ ‬به‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭: ‬

أَتْبَعتُهمْ‭ ‬مُقْلةً‭ ‬إنسانُها‭ ‬غَرِقٌ

وهل‭ ‬ما‭ ‬تَرى‭ ‬تاركٌ‭ ‬للعَيْنِ‭ ‬إنسانا؟

الذي‭ ‬جعلوه‭ ‬مرة‭ ‬قبل‭ ‬بيت‭: ‬«إنّ‭ ‬العيون‭...‬ ‬»ومرة‭ ‬بعد‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬يليه،‭ ‬وهو‭: ‬

يَصْرَعْنَ‭ ‬ذا‭ ‬اللُبِّ‭ ‬حتّى‭ ‬لا‭ ‬حَراكَ‭ ‬بِهِ

وهُنَّ‭ ‬أضْعفُ‭ ‬خَلْقِ‭ ‬اللهِ‭ ‬أَرْكانا‭ ‬

وهو‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬جَرير‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬البيت‭ ‬بتسعة‭ ‬أبيات،‭ ‬لكن‭ ‬المغنّين‭ ‬يقفزون‭ ‬عن‭ ‬الأبيات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يروقهم‭ ‬غناؤها‭.‬

 

سبب‭ ‬قول‭ ‬بشّار‭ ‬لقصيدته

لكن‭ ‬أين‭ ‬التلابس؟‭ ‬الواقع‭ ‬أن‭ ‬قصيدة‭ ‬بَشّار‭ ‬النونيّة‭ ‬تضمّنت‭ ‬بيت‭ ‬جَرِير‭ ‬المشار‭ ‬إليه،‭ ‬وبعد‭ ‬أبيات‭ ‬تضمّنت‭ ‬بيتًا‭ ‬آخر‭ ‬لجَرير‭ ‬نفسه،‭ ‬هو‭: ‬

يا‭ ‬حَبّذا‭ ‬جبَلُ‭ ‬الرَّيّانِ‭ ‬مِنْ‭ ‬جبَلٍ

وحبّذا‭ ‬ساكِنُ‭ ‬الرَّيّانِ‭ ‬مَنْ‭ ‬كانا

ولذلك‭ ‬اختلف‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬نسبة‭ ‬بيت‭ ‬«إن‭ ‬العيون‭‬‭«... ‬والبيت‭ ‬التالي‭ ‬له‭ ‬إلى‭ ‬جَرِير‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬بَشّار‭.‬

وقد‭ ‬اعتقد‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬يعرفون‭ ‬أنهما‭ ‬لجَرِير‭ ‬أن‭ ‬بَشّارًا‭ ‬ضمّن‭ ‬أولهما‭ ‬شعرَه‭ ‬إعجابًا‭ ‬بجَرِير،‭ ‬ورووا‭ ‬تأييدًا‭ ‬لذلك‭ ‬أن‭ ‬بَشّارًا‭ ‬هجا‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬شبابه‭ ‬جَرِيرًا‭ ‬ليشتهر،‭ ‬فلم‭ ‬يعبأ‭ ‬به‭ ‬جَرِير،‭ ‬وأنه‭ ‬طلب‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬إحدى‭ ‬المغنيات‭ ‬أن‭ ‬تغنيه‭ ‬ببيت‭ ‬جَرِير‭: ‬«إن‭ ‬العيون‭...‬‭ ‬»فردّت‭ ‬عليه‭ ‬بأنها‭ ‬ستغنيه‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬أفضل‭ ‬منه،‭ ‬وهو‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬سبقت‭ ‬الإشارة‭ ‬إليه،‭ ‬أي‭: ‬«يا‭ ‬قوم‭ ‬أُذْني‭ ‬لبعض‭ ‬الحي‭ ‬عاشقة‭...‬». ‬وذلك‭ ‬كلام‭ ‬يفتقر‭ ‬إلى‭ ‬الدقة،‭ ‬فحين‭ ‬توفي‭ ‬جَرير‭ ‬كان‭ ‬بشّار‭ ‬في‭ ‬الخامسة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬ومن‭ ‬المستبعد‭ ‬أن‭ ‬يتصدى‭ ‬لشاعر‭ ‬شيخ‭ ‬قد‭ ‬بلغ‭ ‬الثمانين‭ ‬أو‭ ‬نحوها؛‭ ‬وأما‭ ‬بيتا‭ ‬جَرِير‭ ‬فقد‭ ‬رواهما‭ ‬ابن‭ ‬بُرد‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬بضرب‭ ‬من‭ ‬الحكاية‭ ‬لا‭ ‬التضمين‭ ‬البلاغي‭ ‬أو‭ ‬الاقتباس؛‭ ‬ذلك‭ ‬أنه،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يرويه‭ ‬كتاب‭ ‬الأغاني،‭ ‬حضر‭ ‬مجلس‭ ‬غناء‭ ‬عند‭ ‬أحد‭ ‬ممدوحيه،‭ ‬فسكر‭ ‬ممدوحه‭ ‬ونام،‭ ‬وحين‭ ‬همّ‭ ‬هو‭ ‬بالخروج،‭ ‬طلبت‭ ‬إليه‭ ‬القَيْنة(‭ ‬أي‭ ‬الجارية‭ ‬المغنية)‭ ‬أن‭ ‬يصف‭ ‬تلك‭ ‬الجلسة‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يذكر‭ ‬اسمها‭ ‬ولا‭ ‬اسم‭ ‬سيدها،‭ ‬ثم‭ ‬يرسل‭ ‬القصيدة‭ ‬إلى‭ ‬سيدها‭ ‬ذاك،‭ ‬ففعل‭ ‬بَشّار‭ ‬ونال‭ ‬جائزة‭ ‬كبيرة‭. ‬ونكتفي‭ ‬برواية‭ ‬الأبيات‭ ‬الأربعة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬القصيـــدة‭ ‬لتوضــيح‭ ‬الأمر،‭ ‬وهي‭:‬

وذاتِ‭ ‬دَلٍّ‭ ‬كأنَّ‭ ‬البدْرَ‭ ‬صُورتُها

باتَتْ‭ ‬تُغَنّي‭ ‬عَميدَ‭ ‬القَلْبِ‭ ‬سَكْرانا‭:‬

إنَّ‭ ‬العُيونَ‭ ‬التّي‭ ‬في‭ ‬طَرْفِها‭ ‬حَوَرٌ

قَتَلْنَنا‭ ‬ثُمَّ‭ ‬لمْ‭ ‬يُحْيِينَ‭ ‬قَتْلانا

فقُلْتُ‭ ‬أحْسنْتِ‭ ‬يا‭ ‬سُؤْلي‭ ‬ويا‭ ‬أَمَلي

فأَسمِعيني‭ ‬جَزاكِ‭ ‬اللهُ‭ ‬إِحْسانًا‭:‬

يا‭ ‬حَبَّذا‭ ‬جبَلُ‭ ‬الرَّيّانِ‭ ‬مِنْ‭ ‬جَبَلٍ‭ ‬

وحبّذا‭ ‬ساكِنُ‭ ‬الرَّيّانِ‭ ‬مَنْ‭ ‬كانا

وواضح‭ ‬أن‭ ‬القَيْنة‭ ‬غنّت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الجلسة‭ ‬من‭ ‬تلقاء‭ ‬نفسها‭ ‬ببيت‭ ‬جَرِير‭: ‬«إنّ‭ ‬العيون...‭‬»،‭ ‬فاستحسن‭ ‬بَشّار‭ ‬غناءها‭ ‬واستزادها،‭ ‬طالبًا‭ ‬أن‭ ‬تغنيه‭ ‬ببيت‭ ‬جَرِير‭ ‬الآخر‭: ‬«يا‭ ‬حبذا‭ ‬جبلُ‭ ‬الريّان...»‭ ‬،‭ ‬فوعدته‭ ‬بأن‭ ‬تغنيه‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬أحسن‭ ‬منه‭ ‬وهو‭ ‬البيت‭ ‬القائل‭: ‬ايا‭ ‬قومُ‭ ‬أذْني‭ ‬لبعض‭ ‬«لحي‭ ‬عاشقة...»‭ ‬،‭ ‬وغنّته‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬ببيت‭ ‬آخر‭ ‬هو‭:‬

أَصْبَحْتُ‭ ‬أَطْوَعَ‭ ‬خَلْقِ‭ ‬الله‭ ‬ِكلِّهِمُ

لِأَكْثَرِ‭ ‬الخَلْقِ‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬الحُبِّ‭ ‬عِصْيانا

ثم‭ ‬بيتًا‭ ‬أخيرًا‭ ‬هو‭: ‬

لا‭ ‬يَقْتُلُ‭ ‬اللهُ‭ ‬مَنْ‭ ‬دامَتْ‭ ‬مَوَدَّتُهُ

واللهُ‭ ‬يقتلُ‭ ‬أهْلَ‭ ‬الغَدْرِ‭ ‬أحيانا‭ ‬

 

نسبة‭ ‬الأبيات‭ ‬المغنّاة

قد‭ ‬فهم‭ ‬بعضهم‭ ‬أن‭ ‬هذين‭ ‬البيتين‭ ‬الأخيرين،‭ ‬وبيت‭: ‬«يا‭ ‬قوم‭ ‬أُذني‭ ‬لبعض‭ ‬الحي‭ ‬عاشقة...»‭ ‬أبياتٌ‭ ‬لبَشّار،‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬يؤكد‭ ‬ذلك؛‭ ‬فمن‭ ‬المحتمل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬فعلًا‭ ‬له،‭ ‬وكأنّ‭ ‬القينة‭ ‬غنّت‭ ‬بشعر‭ ‬جَرِير‭ ‬وبشعره‭ ‬هو‭ ‬إرضاء‭ ‬له؛‭ ‬لكن‭ ‬الأرجح‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬تلك‭ ‬الأبيات‭ ‬مما‭ ‬هو‭ ‬شائع‭ ‬بين‭ ‬المغنين‭ ‬لجَرِير‭ ‬أو‭ ‬لغيره‭.‬

وذلك‭ ‬أن‭ ‬كتاب‭ ‬الأغاني‭ ‬يخبرنا‭ ‬أن‭ ‬بيتَي‭ ‬جَرِير‭: ‬«إنّ‭ ‬العيون...»‭ ‬حتى‭: ‬«وهُنّ‭ ‬أضعفُ‭ ‬خلق‭ ‬الله‭ ‬أركانا»،‭ ‬غنّت‭ ‬بهما‭ ‬جارية‭ ‬لإسحاق‭ ‬المَوْصليّ‭ ‬اسمها‭ ‬سمحة،‭ ‬بلحن‭ ‬لشخص‭ ‬يلقب‭ ‬بالحَسْحاس‭ ‬أو‭ ‬بالأَبْجَر؛‭ ‬كما‭ ‬غنّى‭ ‬بهما‭ ‬المغني‭ ‬المشهور‭ ‬ابن‭ ‬مُحْرِز‭ )‬ت‭ ‬140‭ ‬هـ)‭  ‬،‭ ‬وأن‭ ‬المغنّين‭ ‬غنوا‭ ‬بأبيات‭ ‬متعددة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬جَرِير‭ ‬نفسها،‭ ‬منها‭ ‬البيت‭ ‬القائل‭ ‬«أَتْبَعتُهمْ‭ ‬مُقْلةً‭ ‬إنسانُها‭ ‬غَرِقٌ»،‭ ‬وقد‭ ‬غنى‭ ‬به‭ ‬ابن‭ ‬محرز،‭ ‬والمغني‭ ‬الأشهر‭ ‬مَعْبَد‭ ‬بن‭ ‬وَهْب (ت‭ ‬126‭ ‬هـ)‭ ‬ ،‭ ‬كما‭ ‬غنوا‭ ‬بالأبيات‭ ‬الثلاثة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬جَرِير،‭ ‬لكن‭ ‬برواية‭ ‬تختلف‭ ‬قليلًا‭ ‬عما‭ ‬في‭ ‬الديوان،‭ ‬وكأنهم‭ ‬تصرفوا‭ ‬بها‭ ‬خضوعًا‭ ‬لمقتضيات‭ ‬الغناء؛‭ ‬وجاءت‭ ‬صيغتهم‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭:‬

بانَ‭ ‬الأَخِلاّ‭ ‬وما‭ ‬ودَّعْتُ‭ ‬مَنْ‭ ‬بانا

وقَطَّعوا‭ ‬مِنْ‭ ‬حِبالِ‭ ‬الوَصْلِ‭ ‬أرْكانا

أَصْبَحْتُ‭ ‬لا‭ ‬أَبْتَغي‭ ‬مِنْ‭ ‬بَعْدِهمْ‭ ‬بَدَلًا

بالدارِ‭ ‬دارًا‭ ‬ولا‭ ‬الجِيرانِ‭ ‬جِيرانا

وصِرْتُ‭ ‬مُذْ‭ ‬وَدَّعَ‭ ‬الأَظعانُ‭ ‬ذا‭ ‬طَرِبٍ

مُرَوَّعًا‭ ‬مِنْ‭ ‬حِذارِ‭ ‬البَيْنِ‭ ‬مِحْزانًا

حيث‭ ‬بدلوا‭ ‬اوما‭ ‬وَدّعتُب‭ ‬من‭ ‬«ولو‭ ‬طُووِعْتُ»‭ ‬و«أركانا»‭ ‬من‭ ‬«أقرانا»‭ ‬و«أصبحت‭ ‬لا‭ ‬أبتغي‭ ‬من‭ ‬بعدهم‭ ‬بدلًا»‭ ‬من‭ ‬«حيِّ‭ ‬المنازلَ‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬نبتغي‭ ‬بدلًا»،‭ ‬و«وصرتُ‭ ‬مذ‭ ‬ودّع‭ ‬الأظعانُ»‭ ‬من‭ ‬«قد‭ ‬كنتُ‭ ‬في‭ ‬أثر‭ ‬الأظعانِ»،‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬ذلك‭ ‬تحسين‭ ‬للنص‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه،‭ ‬وفي‭ ‬بعضه‭ ‬اضطراب‭ ‬ودنوّ‭ ‬عن‭ ‬مستوى‭ ‬جَرِير‭.‬

وقد‭ ‬غنّى‭ ‬بهذه‭ ‬الأبيات‭ ‬المغني‭ ‬المشهور‭ ‬الملقب‭ ‬بالغَريض‭ )‬ت‭ ‬95‭ ‬هـ)‭ ‬ ،‭ ‬ومغنيان‭ ‬آخران‭ ‬أقل‭ ‬شهرة‭ ‬يُدعيان‭ ‬مالكًا‭ ‬وابن‭ ‬سرجس‭. ‬فلو‭ ‬كانت‭ ‬الأبيات‭ ‬المغناة‭ ‬لبَشّار‭ ‬لوجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬قالها‭ ‬قبل‭ ‬لقاء‭ ‬القينة،‭ ‬أو‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تبدأ‭ ‬غناءها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المجلس،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬ديوانه‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬غيره‭ ‬ما‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬ذلك؛‭ ‬فقصيدته‭ ‬النونيّة‭ ‬موضوع‭ ‬بحثنا‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬الديوان،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬الأغاني‭ ‬لأبي‭ ‬الفرَج‭ ‬الأصفهاني،‭ ‬لم‭ ‬يروها‭ ‬قبله‭ ‬أحد،‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬نعلم،‭ ‬وإن‭ ‬أثبتها‭ ‬في‭ ‬الديوان‭ ‬محققوه‭ ‬نقلًا‭ ‬عن‭ ‬الأغاني؛‭ ‬وتلك‭ ‬الأبيات‭ ‬المغناة‭ ‬مروية‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬بَشّار‭ ‬حكاية‭ ‬عن‭ ‬المغنية،‭ ‬أي‭ ‬على‭ ‬لسانها،‭ ‬فليس‭ ‬هناك‭ ‬حتى‭ ‬قرينة‭ ‬ضعيفة‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬له،‭ ‬ولا‭ ‬يستبعد‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لجَرِير‭ ‬وقد‭ ‬تصرّف‭ ‬بها‭ ‬المغنون‭ ‬أو‭ ‬صاغوها‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬جَرِير‭.‬

ولا‭ ‬ننفي‭ ‬احتمالًا‭ ‬آخر،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬بَشّارًا‭ ‬كتب‭ ‬القصيدة‭ ‬وجعل‭ ‬فيها‭ ‬أبياتًا‭ ‬تقارب‭ ‬في‭ ‬أسلوبها‭ ‬أسلوب‭ ‬جَرِير‭ ‬وادّعى‭ ‬أن‭ ‬القينة‭ ‬غنّت‭ ‬بها،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الأمر‭ ‬محض‭ ‬خيال‭ ‬شاعر،‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭.   

والطريف‭ ‬أن‭ ‬قصيدة‭ ‬جَرِير‭ ‬قصيدة‭ ‬هجائية‭ ‬مؤلفة‭ ‬من‭ ‬اثنين‭ ‬وسبعين‭ ‬بيتًا،‭ ‬قالها‭ ‬صاحبنا‭ ‬يهجو‭ ‬الأخطل،‭ ‬لكن‭ ‬مقدمتها‭ ‬الغزلية‭ ‬تحتل‭ ‬ستة‭ ‬وخمسين‭ ‬بيتًا،‭ ‬وبقيتها‭ ‬الهجائية‭ ‬تحتل‭ ‬ستة‭ ‬عشر‭ ‬بيتًا،‭ ‬أي‭ ‬نحو‭ ‬خمسها‭ ‬فحسب‭! ‬ولقد‭ ‬يُظن‭ ‬أن‭ ‬الغزل‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬يتفوّق‭ ‬طولًا‭ ‬على‭ ‬الهجاء‭ ‬ويدانيه‭ ‬في‭ ‬القيمة،‭ ‬والحقيقة‭ ‬أنه‭ ‬يتفوّق‭ ‬عليه‭ ‬طولًا‭ ‬وقيمة‭ ‬أدبية‭ ‬أيضًا‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬يقاس،‭ ‬وكأن‭ ‬جَرِيرًا‭ ‬طبع‭ ‬على‭ ‬الغزل،‭ ‬وتطفّل‭ ‬على‭ ‬الهجاء‭ ‬فقاله‭ ‬هنا‭ ‬للضرورة،‭ ‬أو‭ ‬لعله‭ ‬كتب‭ ‬قصيدة‭ ‬غزلية،‭ ‬فلما‭ ‬أراد‭ ‬الهجاء‭ ‬جعلها‭ ‬مقدمة‭ ‬له،‭ ‬فكانت‭ ‬أطول‭ ‬منه،‭ ‬وأكثر‭ ‬جمالًا‭. ‬

وفي‭ ‬تلك‭ ‬القصيدة‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬المشهور‭:‬

يا‭ ‬أُمَّ‭ ‬عَمْرٍو‭ ‬جَزاكِ‭ ‬اللهُ‭ ‬مَغْفِرةً

رُدّي‭ ‬عَليَّ‭ ‬فُؤادي‭ ‬كالذي‭ ‬كانا

 

تلابس‭ ‬قصائد‭ ‬الجاهليّين‭ ‬والإسلاميّين

تلابس‭ ‬القصائد‭ ‬ظاهرة‭ ‬شعرية‭ ‬قديمة‭ ‬سببها‭ ‬التشابه‭ ‬في‭ ‬الأحـوال‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الأسـماء،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬تلابس‭ ‬شعر‭ ‬عنترة‭ ‬وشعر‭ ‬سُحَيم‭ ‬عَبْد‭ ‬بني‭ ‬الحَسْحاس‭ )‬ت‭ ‬قبل‭ ‬35‭ ‬هـ)‬؛‭ ‬فلعنترة‭ ‬قصيدة‭ ‬فائيّة‭ ‬زعموا‭ ‬أنه‭ ‬قالها‭ ‬بعد‭ ‬ادّعاء‭ ‬امرأة‭ ‬أبيه‭ ‬سُميّة‭ ‬أنه‭ ‬راودها‭ ‬عن‭ ‬نفسها،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬ضربه‭ ‬أبوه‭ ‬ضربًا‭ ‬مبرحًا،‭ ‬بسبب‭ ‬ذلك،‭ ‬فوقعت‭ ‬عليه‭ ‬سميّة‭ ‬لتكفّ‭ ‬زوجها‭ ‬عنه،‭ ‬وبكت؛‭ ‬وتقول‭ ‬الأبيات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬القصيدة‭:‬

أَمِنْ‭ ‬سـُمَيّةَ‭ ‬دَمْعُ‭ ‬العَيْنِ‭ ‬تذريفُ؟

لو‭ ‬أنّ‭ ‬ذا‭ ‬مِنْـكِ‭ ‬قبلَ‭ ‬اليـومِ‭ ‬معروفُ

كأنّهـا‭ ‬يومَ‭ ‬صـَدّتْ‭ ‬ما‭ ‬تكلِّمُني

ظَبيٌ‭ ‬بِعُسْفانَ‭ ‬ساجي‭ ‬الطَّرْفِ‭ ‬مَطروفُ

تَجَلَّلَتْنيَ‭ ‬إذْ‭ ‬أهوَى‭ ‬العَصـا‭ ‬قِبَلي

كأنَّهـا‭ ‬صَـنمٌ‭ ‬يُعتـادُ‭ ‬مَعْـكـوفُ

المالُ‭ ‬مالُكُمُ‭ ‬والعبْـدُ‭ ‬عبـْدُكمُ‭ ‬

فهلْ‭ ‬عذابُكِ‭ ‬عنّي‭ ‬اليـومَ‭ ‬مصـروفُ؟

لكن‭ ‬الأبيات‭ ‬الأول‭ ‬والثاني‭ ‬والرابع‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬منسوبة‭ ‬إلى‭ ‬سُحَيْم‭ ‬أيضًا،‭ ‬ومروية‭ ‬في‭ ‬ديوانه‭ ‬الذي‭ ‬صنعه‭ ‬نِفطويه،‭ ‬ومقدَّم‭ ‬لها‭ ‬بقصة‭ ‬تشبه‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬أبعادها‭ ‬قصة‭ ‬عنترة‭ ‬وامرأة‭ ‬أبيه؛‭ ‬إذ‭ ‬زعموا‭ ‬أنه‭ ‬«لما‭ ‬أكثر‭ ‬عبدُ‭ ‬بني‭ ‬الحَسْحاس‭ ‬من‭ ‬التشبيب‭ ‬بنساء‭ ‬الحيّ‭ ‬أجّجوا‭ ‬له‭ ‬نارًا‭ ‬وهمّوا‭ ‬بإحراقه،‭ ‬فبكت‭ ‬امرأة‭ ‬كان‭ ‬يُرمى‭ ‬بها،‭ ‬فقال‭ ‬شعره‭ ‬هذا»،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يذكر‭ ‬ما‭ ‬ذكره‭ ‬عنترة‭ ‬من‭ ‬الصدّ،‭ ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يفاخر‭ ‬بالبطولة‭ ‬مفاخرة‭ ‬عنترة‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬قصيدة‭ ‬عنترة‭ ‬تنتهي‭ ‬بقوله‭:‬

لا‭ ‬شَكَّ‭ ‬لِلمرءِ‭ ‬أنَّ‭ ‬الدَّهرَ‭ ‬ذو‭ ‬خُلُفٍ‭ ‬

فيهِ‭ ‬تَفرَّقَ‭ ‬ذو‭ ‬إلْفٍ‭ ‬ومألوفُ

والطبريّ‭ ‬ينسب‭ ‬في‭ ‬تاريخه‭ ‬إلى‭ ‬سُحيم‭ ‬بيتين‭: ‬أولهما‭ ‬مماثل‭ ‬لمطلع‭ ‬قصيدة‭ ‬عنترة،‭ ‬وثانيهما‭ ‬يشبه‭ ‬شطرُه‭ ‬الأول‭ ‬الشطرَ‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬عنترة‭ ‬الأخير،‭ ‬أي‭ ‬ينسب‭ ‬إليه‭ ‬القول‭: ‬«لا‭ ‬تُبكِ‭ ‬عينَكَ‭ ‬إنّ‭ ‬الدهرَ‭ ‬ذو‭ ‬خُلُفٍ»،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬شطره‭ ‬الثاني‭ ‬مماثل‭ ‬للشطر‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬البيت؛‭ ‬فالبيتان‭ ‬يكادان‭ ‬يكونان‭ ‬واحدًا‭ ‬لكن‭ ‬بروايتين‭. ‬

ومع‭ ‬أن‭ ‬أكثر‭ ‬المصادر‭ ‬تنسب‭ ‬الشعر‭ ‬إلى‭ ‬عنترة،‭ ‬فإن‭ ‬الخُلق‭ ‬الذي‭ ‬يصوّره‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬خلق‭ ‬سُحيم،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬القصيدة،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يوحيه‭ ‬نفَسها،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬عبّر‭ ‬عنه‭ ‬مضمونها؛‭ ‬فقد‭ ‬اشتهر‭ ‬سُحيم‭ ‬بالمجون‭ ‬وبالعلاقات‭ ‬المريبة‭ ‬بنساء‭ ‬سادته،‭ ‬وبتشبيبه‭ ‬بهنّ،‭ ‬ولاسيما‭ ‬تلك‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬زعموا‭ ‬أن‭ ‬اسمهـا‭ ‬سُميّة،‭ ‬وهو‭ ‬الاسم‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬عرفت‭ ‬به‭ ‬زوجة‭ ‬أبي‭ ‬عنترة‭.‬

وتقول‭ ‬الأخبار‭ ‬إن‭ ‬سادة‭ ‬سُحيم‭ ‬قتلوه‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ذلك‭. ‬ولهذا‭ ‬يغلب‭ ‬على‭ ‬الظن‭ ‬أن‭ ‬الأبيات‭ ‬له،‭ ‬وأنها‭ ‬طُوّلت‭ ‬ونُسبت‭ ‬إلى‭ ‬عنترة،‭ ‬فاستدعت‭ ‬كلامًا‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬والبطولة‭. ‬ولعل‭ ‬سبب‭ ‬هذا‭ ‬التلابس‭ ‬أن‭ ‬الرجلين‭ ‬متشـابهان‭ ‬في‭ ‬العبودية‭ ‬والسـواد‭ ‬والعشق،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬عنترة‭ ‬لم‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬تحرَّر،‭ ‬وكان‭ ‬عشقه‭ ‬عفيفًا‭ ‬في‭ ‬الأغلب،‭ ‬خلافًا‭ ‬لسُحيم‭ ‬في‭ ‬عبوديته‭ ‬الدائمة‭ ‬وعشقه؛‭ ‬وفرق‭ ‬آخر‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬عنترة‭ ‬اشتهر‭ ‬بفروسيته،‭ ‬واشتهر‭ ‬سحيم‭ ‬بمجونه،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬قدمنا‭.‬

ومن‭ ‬ذلك‭ ‬تلابس‭ ‬قصيدة‭ ‬لعنترة‭ ‬بقصيدة‭ ‬منسوبة‭ ‬إلى‭ ‬الشاعر‭ ‬المخضرم‭ ‬كَثِير‭ ‬بن‭ ‬الغريرة‭ ‬أو‭ ‬الغريزة‭ ‬النَّهْشليّ‭ ‬وإلى‭ ‬الفارس‭ ‬الجاهلي‭ ‬المشهور‭ ‬عَمرو‭ ‬بن‭ ‬مَعْدي‭ ‬كرِب‭. ‬فلعنترة‭ ‬قصيدة‭ ‬نونيّة‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬ديوانه‭ ‬الذي‭ ‬بتحقيق‭ ‬محمد‭ ‬المولوي‭ ‬غير‭ ‬مُصرَّعة‭ ‬المطلع،‭ ‬ولم‭ ‬يُشَر‭ ‬إلى‭ ‬سبب‭ ‬قوله‭ ‬لها،‭ ‬وأولها‭:‬

ومَكْروبٍ‭ ‬كَشَفْتُ‭ ‬الكَرْبَ‭ ‬عَنْهُ‭ ‬

بطَعْنةِ‭ ‬فَيْصلٍ‭ ‬لَمَّا‭ ‬دعـاني

وفي‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬يفاخر‭ ‬العبسيّ‭ ‬بأنه‭ ‬يجيب‭ ‬دعوة‭ ‬المسـتجير‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الحرب،‭ ‬وبأنه‭ ‬يقتل‭ ‬خصمه؛‭ ‬كما‭ ‬يفاخر‭ ‬بقتله‭ ‬لأحد‭ ‬الأبطال‭ ‬وتركه‭ ‬طعامًا‭ ‬للطير؛‭ ‬ويشكو‭ ‬تقادم‭ ‬الزمان‭ ‬عليه‭ ‬معلنًا‭ ‬سعادته،‭ ‬مع‭ ‬ذلك،‭ ‬بالحرب،‭ ‬ومؤكدًا‭ ‬طواعية‭ ‬الموت‭ ‬له،‭ ‬ومبديًا‭ ‬فخْرَه‭ ‬بفرسان‭ ‬قومه‭. ‬

وهي‭ ‬قصيدة‭ ‬تجري‭ ‬على‭ ‬أسلوب‭ ‬عنترة‭ ‬في‭ ‬سائر‭ ‬شعره‭ ‬وتقارب‭ ‬معانيه،‭ ‬ولاسيما‭ ‬في‭ ‬المعلقة،‭ ‬لكنها‭ ‬أقل‭ ‬جزالة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المعلقة‭. ‬وقد‭ ‬عزا‭ ‬الأصمعيّ‭ ‬وأبو‭ ‬عمرو‭ ‬الشيباني‭ ‬بعضها‭ ‬إلى‭ ‬كثِير‭ ‬النهشليّ،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬رثاء‭ ‬لا‭ ‬فخر؛‭ ‬كما‭ ‬نسب‭ ‬ابن‭ ‬الشجريّ‭ ‬في‭ ‬حماسته‭ ‬بعضًا‭ ‬آخر‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬مَعْدي‭ ‬كرِب‭. ‬فقد‭ ‬شك‭ ‬الرواة،‭ ‬إذن،‭ ‬بنسبة‭ ‬القصيدة‭ ‬وحاروا،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬المولويّ‭ ‬ثلاثة‭ ‬عشر‭ ‬بيتًا،‭ ‬بينما‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬طبعة‭ ‬دار‭ ‬صادر‭ ‬عشرون‭ ‬بيتًا‭ ‬تسبقها‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬سبب‭ ‬قول‭ ‬القصيدة،‭ ‬وتبدو‭ ‬أبياتها‭ ‬السبعة‭ ‬الزائدة‭ ‬مقحمة‭ ‬على‭ ‬النص،‭ ‬وفي‭ ‬أبياتها‭ ‬الأربعة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬مفتتح‭ ‬القصيدة‭ ‬شكوى‭ ‬من‭ ‬الدهر،‭ ‬وأول‭ ‬أبياتها‭ ‬مصرّع،‭ ‬يقول‭ ‬فيه‭:‬

أَرى‭ ‬لي‭ ‬كلَّ‭ ‬يومٍ‭ ‬مع‭ ‬زماني‭ ‬

عِتابًا‭ ‬في‭ ‬البِعادِ‭ ‬وفي‭ ‬التداني

والظاهر‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الناحلين‭ ‬جمع‭ ‬أبياتًا‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬وزاد‭ ‬عليها‭ ‬ما‭ ‬يوافقها‭ ‬ويوافق‭ ‬شعر‭ ‬عنترة،‭ ‬ويوافق‭ ‬حاله،‭ ‬لينسبها‭ ‬إليه‭.‬

ومن‭ ‬ذلك‭ ‬تلابس‭ ‬شعر‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬العَجْـلان‭ )‬ت‭ ‬نحو‭ ‬50‭ ‬ق.‭ ‬هـ)‭  ‬وشعر‭ ‬مسافِر‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬عمرو‭ )‬ت‭ ‬نحو‭ ‬10‭ ‬ق‭. ‬هـ‭  ‬،(‭ ‬وقد‭ ‬مات‭ ‬كلاهما‭ ‬عشقًا‭ ‬في‭ ‬قصتين‭ ‬تكادان‭ ‬تكونان‭ ‬متماثلتين؛‭ ‬فقد‭ ‬روى‭ ‬كتاب‭ ‬الأغاني‭ ‬عن‭ ‬ابن‭ ‬سِيرِين‭ ‬بيتين‭ ‬قالهما‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬بن‭ ‬العَجْلان‭ ‬في‭ ‬زوجة‭ ‬سابقة‭ ‬له‭ ‬اسمها‭ ‬هند،‭ ‬وزعم‭ ‬أنه‭ ‬مات‭ ‬بعدهما‭ ‬فورًا،‭ ‬لكن‭ ‬الأغاني‭ ‬نفسه‭ ‬لا‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬يخطّئ‭ ‬تلك‭ ‬الرواية‭ ‬مؤكدًا‭ ‬«أن‭ ‬أكثر‭ ‬الرواة‭ ‬يروون‭ ‬هذين‭ ‬البيتين‭ ‬لمسافر»،‭ ‬وأن‭ ‬مسافرًا‭ ‬هذا‭ ‬«قالهما‭ ‬لما‭ ‬خرج‭ ‬إلى‭ ‬النعمان‭ ‬بن‭ ‬المنذر‭ ‬يستعينه‭ ‬في‭ ‬مَهر‭ ‬هند‭ ‬بنت‭ ‬عُتْبة‭ ‬بن‭ ‬ربيعة،‭ ‬فقدم‭ ‬أبو‭ ‬سفيان‭ ‬بن‭ ‬حرب،‭ ‬فسأله‭ ‬عن‭ ‬أخبار‭ ‬مكة،‭ ‬وهل‭ ‬حدث‭ ‬بعده‭ ‬شيء،‭ ‬فقال‭: ‬لا،‭ ‬إلا‭ ‬أني‭ ‬تزوجت‭ ‬هندًا‭ ‬بنت‭ ‬عتبة،‭ ‬فمات‭ ‬مسافر‭ ‬أسفًا‭ ‬عليها»‭.‬

 

ويستدل‭ ‬الأصفهاني‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬ذهب‭ ‬إليه‭ ‬بعبارة‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬المتنازع‭ ‬هي‭: ‬«وأصبحتُ‭ ‬مِن‭ ‬أدنى‭ ‬حموَّتها‭ ‬حَما»،‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬مسافرًا‭ ‬هو‭ ‬ابن‭ ‬عم‭ ‬أبي‭ ‬سفيان،‭ ‬ولأن‭ ‬النميريّ‭ ‬الذي‭ ‬زعموا‭ ‬أنه‭ ‬تزوج‭ ‬هندًا‭ ‬ليس‭ ‬«ابن‭ ‬عم‭ ‬عبدالله‭ ‬العجلان‭ ‬فيكون‭ ‬من‭ ‬أحمائها»‭. ‬والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬الرواة‭ ‬والقصاصين‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬يجعلون‭ ‬القصة‭ ‬نفسها‭ ‬لشخصية‭ ‬ما‭ ‬ثم‭ ‬لشخصية‭ ‬أخرى،‭ ‬لمجرد‭ ‬تشابه‭ ‬أحوال‭ ‬الشخصيتين،‭ ‬وربما‭ ‬اخترعوا‭ ‬للشخصيتين‭ ‬معًا‭ ‬قصة‭ ‬وهمية‭ ‬واحدة‭.‬

ومن‭ ‬قصص‭ ‬الحب‭ ‬التي‭ ‬دفعت‭ ‬الرواة‭ ‬إلى‭ ‬إدخال‭ ‬أبيات‭ ‬شاعر‭ ‬في‭ ‬أبيات‭ ‬شاعر‭ ‬آخر،‭ ‬ما‭ ‬رووه‭ ‬عن‭ ‬قيس‭ ‬بن‭ ‬الحِدادية‭ ‬وقيس‭ ‬بن‭ ‬الملوّح‭ ‬مجنون‭ ‬بني‭ ‬عامر‭. ‬والأول‭ ‬صعلوك‭ ‬جاهليّ‭ ‬قديم‭ ‬خلعته‭ ‬قبيلة‭ ‬خزاعة،‭ ‬وتوحي‭ ‬أخباره‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬عشّاق‭ ‬العرب،‭ ‬عشق‭ ‬نُعْمًا‭ ‬أمّ‭ ‬مالك‭ ‬بن‭ ‬ذُؤيب‭ ‬الخُزاعيّ‭ ‬وشبّب‭ ‬بها،‭ ‬والثاني‭ ‬هو‭ ‬الشاعر‭ ‬العاشق‭ ‬المشهور‭. ‬ومما‭ ‬قاله‭ ‬ابن‭ ‬الحِدادية‭ ‬في‭ ‬نُعم‭ ‬قصيدة‭ ‬مطلعها‭:‬

سَقى‭ ‬اللهُ‭ ‬أَطلالًا‭ ‬بنُعمٍ‭ ‬ترادَفتْ‭ ‬

بِهِنّ‭ ‬النَّوى‭ ‬حتّى‭ ‬حَلَلْنَ‭ ‬المَطاليا

لكن‭ ‬الرواة‭ ‬أدخلوا‭ ‬أبياتًا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬قيس‭ ‬بن‭ ‬الملوّح‭. ‬ولنلحظ‭ ‬هنا‭ ‬تماثل‭ ‬الاسمين،‭ ‬واشتراكهما‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬العشق،‭ ‬فكلاهما‭ ‬يدعى‭ ‬قيسًا،‭ ‬وكلاهما‭ ‬عاشق،‭ ‬لكن‭ ‬أحدهما‭ ‬خزاعيّ‭ ‬والآخر‭ ‬عامريّ‭.‬

ومن‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬ينسب‭ ‬إلى‭ ‬صخر‭ ‬بن‭ ‬عَمرو،‭ ‬أخي‭ ‬الخنساء،‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬فراش‭ ‬الموت،‭ ‬نعني‭ ‬قوله‭:‬

 

أَجارتَنا‭ ‬لستُ‭ ‬الغَداةَ‭ ‬بِظاعِنٍ

ولكنْ‭ ‬مُقيمٌ‭ ‬ما‭ ‬أقامَ‭ ‬عَسِيبُ

وقول‭ ‬الشاعر‭ ‬المشهور‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭ ‬عند‭ ‬موته‭:‬

أجارتَنـا‭ ‬إنَّ‭ ‬المـَزارَ‭ ‬قريبُ‭ ‬

وإنّي‭ ‬مُقيمٌ‭ ‬ما‭ ‬أقامَ‭ ‬عَسِيبُ

وواضح‭ ‬أن‭ ‬الشطرين‭ ‬الثانيين‭ ‬يكادان‭ ‬يكونان‭ ‬متطابقين،‭ ‬والباعث‭ ‬على‭ ‬قول‭ ‬البيتين‭ ‬هو‭ ‬الاحتضار‭. ‬ولتسويغ‭ ‬الأمر‭ ‬تزعم‭ ‬روايتا‭ ‬الأغاني‭ ‬أن‭ ‬امرأ‭ ‬القيس‭ ‬وصخرًا‭ ‬دفنا‭ ‬بعَسيب،‭ ‬وهو‭ ‬جبل‭ ‬ببلاد‭ ‬نجد‭ ‬أو‭ ‬بلاد‭ ‬هُذَيْل‭!‬

وقريب‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬تلابس‭ ‬شعر‭ ‬الأعشى‭ ‬الكبير،‭ ‬أعشى‭ ‬قَيْــــس،‭ ‬وشعــــر‭ ‬خالــه‭ ‬المـــسيَّب‭ ‬بن‭ ‬عَلَس،‭ ‬وكان‭ ‬الأعشى‭ ‬راوية‭ ‬له؛‭ ‬وكذلك‭ ‬تلابس‭ ‬شعر‭ ‬الأعشى‭ ‬نفسه‭ ‬وشعر‭ ‬شاعرين‭ ‬آخرِين‭ ‬يشاركانِهِ‭ ‬اللقب‭.‬

ومثله‭ ‬تلابس‭ ‬شعر‭ ‬أًمَيّة‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬الصَلْت‭ ‬وشعر‭ ‬أبيه،‭ ‬أو‭ ‬شعره‭ ‬وشعر‭ ‬أمثاله‭ ‬من‭ ‬الحنفاء‭ ‬كصَيْفيّ،‭ ‬أبي‭ ‬قيس‭ ‬بن‭ ‬الأَسْلَت(‭ ‬ت‭ ‬1‭ ‬هـ‭( ‬وكزيد‭ ‬بن‭ ‬عمرو‭ )‬ت‭ ‬17‭ ‬ق‭. ‬هـ‭( ‬وكورَقة‭ ‬بن‭ ‬نَوْفَل‭ )‬ت‭ ‬12‭ ‬ق‭. ‬هـ‭(.‬.

ومثله‭ ‬تلابس‭ ‬شعرٍ‭ ‬لحسّـان‭ ‬بن‭ ‬ثابت‭ ‬وشعر‭ ‬لكَعْب‭ ‬بن‭ ‬مالِك‭ ‬الأنصـاريّ‭ )‬ت‭ ‬50‭ ‬هـ‭ ‬،‭( ‬ وكلاهما‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬الرسول‭  .ﷺ‬

 

النتاج

التشابه‭ ‬مفْضٍ‭ ‬إلى‭ ‬التلابس‭: ‬تشابه‭ ‬الأحوال‭ ‬أو‭ ‬الأسماء،‭ ‬أو‭ ‬الانتساب‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬واحد،‭ ‬فهو‭ ‬قد‭ ‬يُلبس‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬الرواة‭ ‬فينسبون‭ ‬الشعر‭ ‬الواحد‭ ‬إلى‭ ‬شاعرين‭ ‬أو‭ ‬أكثر،‭ ‬أو‭ ‬يستغلونه‭ ‬في‭ ‬عملهم‭ ‬القصصي‭ ‬لينسبوا‭ ‬ذلك‭ ‬الشعر‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬واحد‭. ‬وزيادة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬عرضنا‭ ‬له‭ ‬تكفي‭ ‬مراجعة‭ ‬أسماء‭ ‬الشعراء‭ ‬في‭ ‬فهارس‭ ‬المصادر،‭ ‬ليتبين‭ ‬لنا‭ ‬وجود‭ ‬أسماء‭ ‬متشابهة‭ ‬كثيرة‭. ‬وقد‭ ‬عدّد‭ ‬السيوطي‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬الأسماء‭ ‬المتشابهة،‭ ‬فوجد‭ ‬تسعة‭ ‬عشر‭ ‬شاعرًا‭ ‬باسم‭ ‬الأعشى،‭ ‬وخمسة‭ ‬عشر‭ ‬باسم‭ ‬امرئ‭ ‬القيس؛‭ ‬كما‭ ‬وجد‭ ‬رجيس‭ ‬بلاشير،‭ ‬اعتمادًا‭ ‬على‭ ‬المؤتلف‭ ‬والمختلف‭ ‬للآمديّ،‭ ‬عشرة‭ ‬شعراء‭ ‬باسم‭ ‬الأحمر‭ ‬أو‭ ‬ابن‭ ‬الأحمر،‭ ‬وثمانية‭ ‬باسم‭ ‬النابغة،‭ ‬وأربعة‭ ‬باسم‭ ‬كثير،‭ ‬مشيرًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬التلابس‭ ‬ينجم‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحوال‭ ‬من‭ ‬كون‭ ‬صاحب‭ ‬الأثر‭ ‬قد‭ ‬يدعى‭ ‬باسم‭ ‬قبيلته‭ ‬فحسب،‭ ‬كالشاعريْن‭ ‬الغَنَويّين،‭ ‬وكشعراء‭ ‬هُذَيل،‭ ‬فنقف‭ ‬حائرين‭ ‬أمام‭ ‬جميع‭ ‬الشعراء‭ ‬المنتمين‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬القبيلة‭.‬

وقد‭ ‬رأى‭ ‬تيودور‭ ‬نولدكه‭ ‬أن‭ ‬القصيدة‭ ‬إذا‭ ‬نسبت‭ ‬إلى‭ ‬شاعرين‭ ‬مختلفين‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬مصلحة‭ ‬أقلهما‭ ‬شهرة،‭ ‬لاسيما‭ ‬عند‭ ‬تشابه‭ ‬الأسماء؛‭ ‬وليس‭ ‬هذا‭ ‬منطقيًا‭.‬

والحاصل‭ ‬من‭ ‬مراجعة‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬كان‭ ‬غالبًا‭ ‬في‭ ‬مصلحة‭ ‬الأشهر‭ ‬أو‭ ‬الأقوى‭ ‬سلطة‭. ‬ونحن‭ ‬لذلك‭ ‬نرجّح‭ ‬رأي‭ ‬بلاشير‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬حالة‭ ‬التلابس‭ ‬بسبب‭ ‬الانتماء‭ ‬القبلي‭ ‬تبعث‭ ‬الرواة‭ ‬على‭ ‬نسبة‭ ‬الأثر‭ ‬الغُفل‭ ‬إلى‭ ‬الشاعر‭ ‬الأكثر‭ ‬شهرة‭. ‬

وكذلك‭ ‬الأمر‭ ‬إذا‭ ‬تناول‭ ‬شاعران‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬موضوعًا‭ ‬ذا‭ ‬منحى‭ ‬واحد،‭ ‬كالمنحى‭ ‬الديني‭ ‬عند‭ ‬عَدِيّ‭ ‬بن‭ ‬زيد‭ ‬وأُمَية‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬الصَلْت،‭ ‬أو‭ ‬كأي‭ ‬منحى‭ ‬وصْفيّ‭ ‬مغفل،‭ ‬كوصف‭ ‬الفرس‭ ‬والجمل‭ ‬وصيد‭ ‬الوعل‭. ‬كما‭ ‬يشير‭ ‬نولدكه‭ ‬بحق‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬دواعي‭ ‬التلابس‭ ‬ذكر‭ ‬شاعرين‭ ‬لاسم‭ ‬محبوبة‭ ‬واحدة،‭ ‬أو‭ ‬ذكرهما‭ ‬للمواضع‭ ‬نفسها‭ ‬أو‭ ‬للأشخاص‭ ‬أنفسهم،‭ ‬أو‭ ‬تطرقهما‭ ‬لموضوع‭ ‬غلب‭ ‬على‭ ‬أحدهما،‭ ‬أو‭ ‬استعمالهما‭ ‬للغة‭ ‬أو‭ ‬لأسلوب‭ ‬عرف‭ ‬به‭ ‬أحدهما‭. ‬

لكن‭ ‬تنبغي‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬حالة‭ ‬التلابس‭ ‬بين‭ ‬قصيدة‭ ‬جَرِير‭ ‬وقصــــيدة‭ ‬بَشّار‭ ‬تختـــــلف‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ذلك،‭ ‬فهي‭ ‬ليست‭ ‬ناجمة‭ ‬عن‭ ‬خطأ‭ ‬الرواة،‭ ‬أو‭ ‬تدليسهم‭ ‬لحاجة‭ ‬قصصية،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬مجرد‭ ‬خِيار‭ ‬شعــري،‭ ‬ومحاولــــة‭ ‬وصف‭ ‬صادق‭ ‬للــــواقع،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬وصــف‭ ‬صادق‭ ‬فنيًا‭ ‬يحاول‭ ‬الشاعر‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬يشابه‭ ‬وصفُه‭ ‬الواقعَ‭ ‬ويستمد‭ ‬منه‭ ‬ما‭ ‬يساعد‭ ‬في‭ ‬الإيحاء‭ ‬به‭ ‬ويمتع‭ ‬بتصويره‭. ‬فاحتمال‭ ‬الخطأ‭ ‬أو‭ ‬التدليس‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬التــــدوين،‭ ‬ومنــه‭ ‬زمن‭ ‬بَشّار،‭ ‬أقل‭ ‬بكثير‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الرواية‭ ‬الشفهية‭. ‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬بَشّار‭ ‬يقصد‭ ‬التدليس‭ ‬ولا‭ ‬السرقة،‭ ‬بل‭ ‬نقل‭ ‬بالحكاية‭ ‬الشعرية‭ ‬ما‭ ‬سمعه‭ ‬من‭ ‬القينة‭ ‬من‭ ‬شعر،‭ ‬وجعله‭ ‬بوضوح‭ ‬طي‭ ‬قصيدته،‭ ‬وإن‭ ‬جاء‭ ‬نقله‭ ‬ملتبسًا‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان؛‭ ‬وذلك‭ ‬لا‭ ‬مفر‭ ‬منه‭ ‬لأن‭ ‬الشاعر‭ ‬ليس‭ ‬مؤرخًا‭ ‬ولا‭ ‬راوية‭ ‬حديث‭ ‬شريف،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬شديد‭ ‬الوضوح،‭ ‬وإلّا‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬طريق‭ ‬الشعر‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬العلم‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬العلم؛‭ ‬فمن‭ ‬الطبيعي‭ ‬والحالة‭ ‬هذه‭ ‬أن‭ ‬تغمض‭ ‬بعض‭ ‬الإشارات‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬شعر‭ ‬العلماء،‭ ‬أي‭ ‬النظم‭ ‬الصرف‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬شعر‭ ‬فيه‭■