«العربي» سفير بلا وصايا ولا كُلْفة

بحلول ديسمبر المقبل تكون مجلة العربي الكويتية قد بلغت من العمر ستة عقود كاملة، صدر خلالها سبعمئة وواحد وعشرون عددًا، وبالتالي - حسابيًا - نُسِخت منها عشرات الملايين من النسخ، وزعت كلها في أرجاء العالم، وجابت أقاصيه سفيرًا متجولا للكويت في كل البلدان، وما كان لها أن تجد الذيوع والانتشار والإعجاب، لولا دقة الهدف والمنهج الواضح والرؤية المتكاملة التي تستوعب الإنجازات العلمية والفكرية وثقافة الشعوب.
ليس عجيبًا أن تمثّل مجلة العربي منعرجًا مهمًا ومؤثرًا في تاريخ الصحافة والثقافة العربية والإسلامية، وتجد في كل بقعة حلّت بها بيئة ملائمة لاحتضانها، ومرتعًا خصبًا لنموها وازدهارها، ويكون لها في النفوس هوى، وفي الثغور قصص وحكايات.
كنا صغارًا يافعين في منتصف ستينيات القرن الماضي، لم نكن نعرف القراءة ولا الكتابة، لكننا عرفنا مجلة العربي من بين إصدارات كثيرة كان أبي يأتي بها إلى المنزل مع بداية كل شهر، وكان أهم ما يميزها عن بقية الإصدارات الغلاف والصور والرسومات التي يحتويها العدد، وهذا ما جذب انتباهي وأشقائي نحوها أول ما وقعت عليها أعيننا، ومسّتها أيدينا، ونحن في عمر باكر، وهذا ما ألاحظه حاليًا في بعض أبنائي، وكان أكثر ما يثير استغرابي وحيرتي لما أرى أعمامي كلاً بيده نسخة من العدد نفسه، سائلًا نفسي: لماذا ثلاث نسخ ونحن في منزل واحد؟... الغلاف، الصور، والعناوين وشكل الكتابة، كانت تبين لي ذلك ولا شيء سواها، ودائمًا ما يستولي عليّ فضول الطفولة مع ظهور كل عدد جديد لأتصفح المجلة صفحة إثر أخرى، ولعل هذا علّمني القراءة بالعين قبل الحرف، لأقارن علّني أجد فرقًا بين هاتيك النسخ، يكون مقنعًا لإشباع فضولي ومبررًا لوجود ثلاث منها، خاصة وقد كنت أرى أبي وأعمامي عقب مغيب الشمس يوميًا يقرأون ويتداولون الصحف اليومية وبقية الإصدارات، عدا االعربيب، فكل يطالع نسخته، وكانوا يقرأون موضوعاتها بقدر ما يستطيعون، ولم يجتمع منهم اثنان أو ثلاثتهم إلا وتناقشوا فيما قرأوه، يظهر ولعهم بها عندما نأتي ونسأل عن حاجة فلا ينطقون بكلمة، والذي يتطوع بالرد يقول: «انتظر حتى أنهي هذا الموضوع»، وكنا نسمع حديثهم عن موضوعاتها دون أن نفهم كثيرها، وإن فهمنا القليل أدركنا أنه كبير على استيعابنا، لكن في كل الأحوال كان حديثهم ينمّ عن قراءتهم لها بإمعان وحب وصل حد الإدمان.
تثقيف رفيع
لما ألحقنا بالمدرسة في نهاية الستينيات وتقدمنا في الدراسة وتفتّح الوعي، قرأت بعض ما حوته «العربي» بالقدر الذي يتناسب مع قدراتي، مما أعانني في موضوعات التعبير التي يطلب منا كتابتها في المدرسة، وسعيت مع أشقائي لحل المسابقة والكلمات المتقاطعة، كما كنا نسعى إلى قراءتها وتداولها مع طائفة من الطلاب الذين أبدوا إعجابًا بما تطرحه من مقالات تتسم بما يسمى السهل الممتنع، والتثقيف الرفيع، ومن ثمّ أدركت معنى «العربي»، ولماذا كان أبي وشقيقاه يحرصون على الاشتراك لاقتنائها حتى تكون من بين كنوزهم الثقافية والمعرفية التي حملناها معهم، وورثناها بعدهم، ونورثها لأبنائنا من بعدنا، بإذن الله، في حين ازداد يقيني بأن المسابقة والكلمات المتقاطعة اللتين كنا نتسابق لحلهما ما كانتا وسيلة لتزجية الفراغ، كما كنا نعتقد في بادئ الأمر، وإنما محفزات للبحث عن المعارف، وصارتا تمثلان لنا قاموسًا معرفيًا عريضًا عرفنا من خلاله معاني كثيرة من مفردات الفصحى، ومترادفاتها ومعكوساتها، كما عرفنا دولًا وعواصم ومدنًا مختلفة، وأسماء المشاهير من المبدعين القدامى والمحدثين، سواء كانوا عربًا أو أعاجم، أو علماء، ومكتشفين، ومفكرين، وأدباء، ورسامين، وممثلين، وخلافه.
ولما تقدمنا في العمر وتمدد الوعي، نزعنا إلى توسيع دائرة معرفتنا واطّلاعنا بالإقبال عليها عن قصد، وحرصت مثل أبي وأعمامي على اقتنائها بقدر حرصي واجتهادي على قراءة ما فاتني من أعداد ومواضيع لكبار الكتّاب العرب، وتجولت من خلال استطلاعاتها في كثير من البلدان والمدن، ووجدت فيها الكثير من كل شيء، وكلما تعمقت في قراءتها أدركت سر بهائها وخلودها، وتفتحت نفسي للمزيد، ورسخّت فيّ التطلع والشغف للمعرفة والكتابة.
مسافر رفيقه «العربي»
كنا جماعة في رحلة بالقطار إلى مصر في بداية ثمانينيات القرن الماضي لأجل الدراسة، وعند العصر توقف القطار فجأة عن السير، لعطب ما في مجراه بمنطقة خلوية، بلقعٌ أرضها، حيث لا ماء، ولا شجر، ولا شيء ينم عن حياة فيها، وبينما كنا نغدو ونروح بين مقدمة القطار ومؤخرته، ونحن في حيرة من أمرنا وأمر القطار المعطوب، إذا بي ألمح شابًا دون الخامسة والعشرين عامًا مستلقيًا على الأرض مستظلًا بظل القطار، يحرس كومة من مجلات العربي كأنه يعرضها للبيع في قفار لا تعرف البيع والشراء ولا المعاملات التجارية، كان يقرأ بإمعان في أحد أعدادها، غير آبه بما حدث، ولا مهموم بالوقت الذي يمر ببطء وثقالة تفرغ من صبرنا، ولفرط اهتمامه بما يطالع لم ينتبه لوجودي بقربه، وبعد أن استأذنته بدأت أقلب صفحات المجلات التي بجواره، ورغم أنني وجدت نفسي قد طالعتها في السابق، فإنها أخذت تجرفني نحوها بصورة أشهى من ذي قبل، وتوسعت حلقة القراء، ثم سألته باستغراب لا يخلو من سذاجة: «لماذا كل هذه الأعداد من مجلة العربي، هل تود بيعها في مصر؟» فأجابني إجابة ما زالت منِّي على ذِكْر، ولن أنساها ما حييت، حيث ذكر أن تجربة السفر عبر القطارات أو المسافات الطويلة علمته التزود بشيء يفيده في أسفاره، ولأنه مسكون بحب الاطلاع، لم يجد سوى مجلة العربي، لتصبح رفيقه وزاده الذي يتنقل معه أينما رحل، وحين يطالعها كأنه يعيش في عوالم أخرى، خاصة وهي مجلة تحرص على سلامة اللغة ورشاقة الأسلوب ووضوح الفكرة، لم تذعن للثقافة المشوهة والمنحرفة، كما لم تخضع لتأثيرات الإيقاع الرتيب الممل، وهي تحقق الفائدة، وتقتل الوحشة وتبدد الملل، خاصة في السفريات التي تحمل مفاجآت غير مرغوبة.
لم أندهش حينما شاهدت ذلك الشاب بعد حلول الظلام مستلقيًا على قفاه، مسندًا رأسه إلى القضيب يطالع في مجلاته بإنارة القاطرة الأمامية، وكان يقرأ باهتمام زائد غريب، كأنه على موعد امتحان في موضوعاتها، ولو تحرك القطار في تلك الأثناء ومسه في رأسه لما أحس به.
رحلة شاقة
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فبعد أن تحرك القطار وصعدنا على ظهر الباخرة المتجهة نحو ميناء أسوان، صعدت معنا كل أعداد «العربي» التي بحوزته، وظل يداوم على قراءتها طول رحلة الإبحار، ولم يبخل على طالبي المعرفة من تزويدهم بها حتى وصولنا إلى الميناء، وتفرقنا أيدي سبأ.
وظل حديث الشاب وصورته عالقين بمخيلتي إلى الآن، وحفزاني أكثر على التمسك بالمجلة، وكان سؤالي بعدما وصلت إلى الإسكندرية عن كيفية الحصول عليها، وكانت مكتبة العم «أبو ممدوح» في ميدان محطة الرمل هي الأنسب، لأكون من بين المداومين على قراءتها حتى انتهت فترة دراستي بعد ثلاث سنوات.
لم تكن رحلة «العربي» في فيافي السودان وربوعه، وفي كثير من البلدان، سهلة في كل الأحيان، وإنما رحلات طويلة شاقة محفوفة بكثير من الصعاب، لأجل أن تصل إلى الناس في بيوتهم بالحضر والأرياف بسعر مناسب، فلم تترك واديًا إلا قطعته، ولا جبلًا إلا صعدته، ولا سهلًا إلا ساحت فيه، ولا بحرًا إلا عبرته، ولا نهرًا إلا تجولت بين شاطئيه، تجوب الأصقاع والقرى القصية، تارة على متن دابة من دواب الأرض، وتارة عبر الأجواء، وأخرى على ظهر السفن، متغلبة - بصبر بالغ - على كل العوائق التي تعترض مسيرتها، لا تبتغي شيئًا غير صون العربية الفصحى، وخدمة التراث والثقافة العربية والإسلامية، ورضا الناس عما تحمل في جوفها.
درة العرب
حدثني أستاذ القانون بالجامعات السودانية د. مصطفى كمال الجزولي فقال: ابدأت رحلتي مع «العربي» منذ بواكير الصبا، في مسقط رأسي الدويم بولاية النيل الأبيض - حاليًا - وكنت حينها في الرابعة عشرة من عمري على أعتاب الثانوية بمدرسة الدويم الريفية، وهي إحدى مدارس بخت الرضا العريق، وما كان من المستغرب أن نكتشف أنا ورفقاء دربي وزملائي في الدراسة درّة العرب )مجلة العربي) في بلدة تعرف بــ «مدينة العلم والنور»، كانت تأتي إلى مدينتنا لتجدنا مع حشد القراء في انتظارها لتتخطفها الأيادي من مكتبة عمنا الحاج غانم محمد أفندي، وحالما خطفناها نبدأ قراءتها بتمعّن وارتياح، لما فيها من مواد شهية للثقافة والتثاقف، ثم ندير حوارات طويلة جادة حول ما نقرأ، خاصة ونحن مجموعة لجنة الثقافة بالمدرسة، وكنا قد أنشأنا جدارية حائطية بالمدرسة كإصدار ثقافي، مستلهمين فيه ما نطّلع عليه من كتب ومجلات على رأسها مجلة العربي، فكانت موضوعاتها تلعب دورًا مؤثرًا في تكويننا الثقافي والمعرفي.
وما حفزنا على استمرارية تعاطيها هو الخط الذي تنتهجه من حيث الموضوع والمحتوى، وتفردها من بين الإصدارات الأخرى، وحقيقة كنا مبهورين بها وبطرق عرضها، وبكُتّابها من كل الأرجاء، وهي بحواسها القوية جسدت بالصورة سحر المكان لأماكن ومدن عربية وإسلامية متعددة، إضافة إلى موضوعاتها المتفردة من خلال البحوث النقدية العميقة، وملامسة قضايا الأمة العربية في تلك الفترة التي شهدت المد القومي العربي، والتبشير بوحدة الأمة العربية.
نعم الرفيق
امتدت رحلتي مع «العربي» حتى بعدما انتقلت إلى الدراسة الجامعية في العاصمة اليونانية أثينا، حيث كنت ومعي بعض رفاقي الطلبة العرب نقطع المسافات لنصل إلى ميدان أمونيا للحصول على أعدادها، وغيرها من الإصدارات العربية الأخرى، وفي هذه الفترة توطدت صلتي بها أكثر، وكانت نِعم الرفيق الذي يؤانسني في غربتي، خاصة وقد كنا مولعين بمتابعة وقراءة ما يدور في بلداننا العربية، وتتبُّع الحركة الثقافية فيها.
وفي هذه الرحلة الطويلة عاصرت جميع رؤساء تحرير المجلة، ابتداءً بالأديب د. أحمد زكي عاكف، مؤسس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، (1958 - 1975)، الأستاذ أحمد بهاءالدين /مصر، (1976 - 1982) ود. محمد الرميحي/ الكويت، (1982 - 1999)، ود. سليمان العسكري/ الكويت، (1999 - 2013)، ود. عادل سالم العبدالجادر/ الكويت، (2013 - حتى الآن)، وكلهم قدموا عصارة فكرهم وجهدهم وتجاربهم لاستمراريتهاب.
ويضيف الجزولي: «بلا شك أن هذه الرحلة الطويلة التي امتدت لأكثر من أربعين عامًا شكلت فيها مجلة العربي تكويني الفكري والثقافي والسياسي حتى، حيث أتاحت لي الكثير، وأن أنتهج خطًا فكريًا وسياسيًا بالانتماء إلى الفكر القومي العروبي.
ولعل من المفارقات الجميلة أن نحتفل معًا أنا و«العربي» بقدوم ستينيتنا، حيث ولدنا معًا في عام 1958، وهنيئًا لنا هذه الرفقة الطويلة».
ويضيف د. الجزولي: «بمناسبة هذه الستينية أقترح على القائمين على أمر المجلة أن تصدر بنسخة إلكترونية للعالم الخارجي باللغتين الإنجليزية والفرنسية، لتمتد جسور التواصل بين العرب والثقافات والحضارات الأخرى في عالم صار أضيق من قرية، لا سيما أن مجلة العربي لا تقل شأنًا عن بقية مجلات العالم، وإن فاقت غيرها في كثير من الجوانب».
عمارة راسخة
قصص وحكايات مجلة العربي مع قرائها في كل فجاج المعمورة كثيرة جدًا بكثرة أعدادها ونسخها المطبوعة منذ بداية مولدها إلى الآن، وتختلف سيناريوهاتها باختلاف عادات وألسنة وأمزجة الشعوب التي لمست أياديهم صفحاتها، لأن الذين فكّروا في إصدارها درسوا وخططوا بذكاء ورؤية ثاقبة، وبذلوا جهدًا فائقًا في كيفية بناء المدماك الأول لعمارة ثقافية نابضة بالإبداع، وحرصوا على أن تكون محط اهتمام الناس وحديثهم منذ البداية حتى مستقبل بعيد، لهم ولنا وللأجيال القادمة، بإذن الله، مثلما كانوا حريصين على أن يكونوا القدوة القادرة على بناء عالم فكري وثقافي خلّاق ومعرفي شامل يغلب على ما هو سائد في النشر.
تبدى هذا بجلاء من خلال الموضوعات التي تطرحها، ومن قبل في اختيار الاسم، وكأنى بهم يقولون - هذا منكم وبكم وإليكم - وتطابق الاسم مع المسمى، وكان له رنين خاص ما زال يتردد صداه في الفضاءات، لاسيما وهي مجلة غير منحازة لدولة، أو شعب، أو فئة، وحتى الذين تعاقبوا على رئاسة تحريرها كانوا بالمستوى نفسه، لم يحيدوا عن أهدافها المرسومة، ولم يدخروا جهدًا في قيادة دفة التطوير الدينامي المطّرد وفق متطلبات كل مرحلة والواقع الثقافي الماثل حتى على مستوى الإخراج الفني، وأن يجعلوا منها منبرًا متجددًا من أجّل المنابر الإعلامية الفكرية والثقافية والأدبية، وأعظمها تأثيرًا على المتلقي.
قيمة أدبية رفيعة
مذ حطت «العربي» رحالها في أرض السودان ذاعت شهرتها، وأدرك غالبية أهله المستنيرون وغيرهم قيمتها الأدبية والثقافية، وقوة بيانها وسحر متونها، وسيطرت على عقول الكثيرين، وأقبلوا عليها بحب جارف، وتعمقت صلاتهم بها، وها هو مستشار التعليم الطبي في السودان، الأديب البروفيسور بشير حمد، يقول: يكفي أن تقول «العربي»، فهي عمارة راسخة من عمارات البث الفكري والثقافي، بدأت صلتي بها مع بداية صدورها في نهاية خمسينيات القرن الماضي، وعندما جاءت إلى السودان وجدتني طالبًا بكلية الطب في جامعة الخرطوم، وكنا نقرأ وقتذاك مجلتي الرسالة المصرية للأديب الزيات، و«الأديب» البيروتية للكاتب ألبير أديب، لكن «العربي» جاءت بلون وطعم ونكهة مختلفة عما كانت عليه حال المجلات الشبيهة، إن كان لها شبيه أو التي سبقتها.
وقد تجلى هذا في عدم تقوقعها وارتكازها على المحلية، وإنما شملت كل دول الإقليم، في حين وجدتُ فيها - ومازالت - ما لم أجده في كثير من المجلات، من حيث الموضوعات المتنوعة في الثقافة، والاجتماع، والفلسفة، والهندسة، والطب، بجانب الفنون بكل ضروبها لكُتّاب عرب من شتى الدول، ذوي أفكار وثقافات متباينة، وهذا بالطبع جزء من تميزها وتفردها اللذين حققت بهما نقلة في ثقافة كثير من الناس، مما جعلها ذات باع طويل، ولها قاعدة عريضة بين أنماط البشر، وجعلني أستمرئ مطالعتها باستمرار.
ويمضي البروفيسور حمد قائلًا: والحق يُقال عندما أقلب صفحات «العربي» أشعر بأنني أقلب في أيقونة، لأن مستوى إخراجها يوحي بذلك من حيث الصور الفوتوغرافية أو المرسومة لفنانين متمرسين على الإبداع، نلاحظ هذا بوضوح في ملاءمة الصور والرسومات للموضوع المطروح، مما يشد القارئ نحوها، وحتى المقالات المطروحة على صفحاتها، هي بعيدة عن النمطية والتكرار، وليست جافة، ودائمًا ما نجد فيها الطرفة أو النكتة أو الشعر، لذا عندما يتصفحها المرء يجد متعة لا تحد في هذه الجوانب، ويود لو لم ينته من مطالعتها.
و«العربي» من المجلات الفخيمة التي لعبت دورًا كبيرًا ومؤثرًا في حياتنا كجيل قارئ، لذا أهنئ أسرة المجلة على مر السنين، ونتمنى لها التقدم والازدهار.
سفير بلا وصايا
جاءت «العربي» من دولة الكويت إلى العاصمة السودانية الخرطوم، ومنها انطلقت إلى المحافظات )الولايات حاليًا) ومدن وقرى السودان المختلفة، سفيرًا متجولًا للفكر والثقافة في أراضيه، بل جاوزت التخوم لتكون سفير العالم العربي المتجول بلا وصايا ولا كُلْفة في كثير من بلدان العالم.
وفي كل الظروف كانت سفيرًا ذا فنتازيا عالية باهرة يسعى إلى تحقيق رسالة مزدوجة )خذ وهات) ، وهو الأقدر على الاستكشاف ولفت الانتباه أينما حط رحاله.
يقول الشاعر والإعلامي البارز عبدالوهاب هلاوي: في بداية الستينيات، كنت في الثامنة من عمري على وجه التقريب، وقد وُلِدت في تلك المدينة الصغيرة )كسلا( بشرق السودان. أحداث وصور عديدة ظلت باقية ومحفورة في وجداني، أجمل ما فيها تلك المهمة الأسبوعية التي درج أن يكلفني بها ذلك الجد الأنيق الورع المولع بالقراءة، والمتمثلة في الذهاب إلى المكتبة الوحيدة في البلدة لصاحبها الحاج إبراهيم داوود، وجلب راتبه الأسبوعي والشهري من المجلات والصحف العربية والأوربية، وقد كان الشيخ من أبرز المشتركين، لأجل هذا كان صاحب المكتبة ما إن يراني حتى يضع بين يدي رزمة الشيخ بلا تردد.
وأكثر ما يثير اهتمامي هو وجود مجلة العربي بين كل تلك المجلات والصحف، حتى أنني كنت أحرص على الجلوس فوق أول حجر على الطريق الواقع بين المكتبة ومنزل الشيخ، لأضع كل المجلات فوق حِجري، وأقلب بكل مودة وحب لا أدري كنهه مجلة العربي دون سواها.
كانت تبهرني بخطوطها وصورها وألوانها، ولم أكن حينها أجيد سوى قراءة العناوين البارزة، كانت تستهويني رائحة صفحاتها، حتى أنني كنتُ أميزها بين صفحات كل المجلات. وأقسم أن مجلة العربي كانت عشقي الأول لعالم المكتبات والقراءة الجادة، لأنها ذات رسالة فريدة، وعلّها هي التي علمتني ودست في قلبي نبض التعلق بالثقافة والأدب.
عاشق بلا قصد
تمضي الأيام - والحديث لهلاوي - وعلاقتي بمكتبة الحاج داوود تزداد رسوخًا لأجد نفسي وأنا دون العشرين أدخل المكتبة قارئًا معتمدًا، أسال عن العدد الجديد لمجلة العربي مثلي مثل شيخي الذي رحل عن الدنيا مخلفًا أيضًا قارئًا لمختلف الكتب والمجلات في مقدمها مجلة العربي، عاشقًا دون قصد، ومن بعد لم تعد لي حاجة إلى زاوية أو حجر لأجلس عليه.
ثم تمضي الأيام وأعداد «العربي» تنمو في بيتنا كما تنمو الأزاهر، وحين قررنا الرحيل من كسلا إلى العاصمة الخرطوم كان هاجسي الأول كيف يمكنني ترحيل مكتبتي، ولم أجد بُدًّا من أن أهديها إلى صديق أحبه، ظل يشكرني كثيرًا في كل الرسائل، ويذكرني بأنه لا يزال مداومًا على امتلاك إصدار «العربي» الشهرية، حافظًا لي ود عشق ورثته وأورثته لأناس بعدي.
لو نظرنا إلى الواقع الراهن، وما قبل ستين عامًا لوجدنا فوارق وتغيرات شتى عظيمة في كل شيء، حتى على مستوى النشر والقراءة والثقافة، لكن مجلة العربي على امتداد تاريخها المديد حافظت على أهدافها وخطها الذي يخدم التراث والثقافة العربية والإسلامية، ويدرأ المخاطر التي تهدد العربية الفصحى، وأثبتت جدواها في خدمة الوعي العام، وأنها السفير المتجول المتميز الذي يؤدي رسالته بمهنية وتجرد في كل المنعطفات.
سهم التميز
حافظت «العربي» على قرائها، لكونها، كما قال لي الإعلامي عبدالوهاب مالك، مستشار صحيفة صوت برؤوت في بورتسودان - ولاية البحر الأحمر: كان على رئاسة تحريرها د. أحمد زكي، الذي عادة ما ينادى بــ «الدكاترة» أحمد زكي، لأن حصيلته من درجة الدكتوراه في شتى العلوم هي التي منحته ذاك الصيت المدوي، فـ«العربي» حين انطلقت كانت نتيجة لصناعة الكبار، فبدت منذ وهلتها الأولى كبيرة.
كانت وما زالت سفيرًا متجولًا تجاز أوراق اعتماده عاجلًا كلما سُمِع وقع أقدامه على أبواب محافل العلم وقصور المعرفة.
كنت أحرص على اقتنائها وأنا صبي يعبر بمرحلته الوسطى من الدراسة، وما زلت أحرص على اقتنائها، بعد أن امتدت رحلة العمر وحلّ المشيب، وبرأيي أنها أول من رمى بسهم التميز في ساحة الصحافة العربية، فهي المجلة الجامعة المتخمة بالمعارف والحاضنة لخصيصة التفوق على مدى سنواتها الستين.
كانت، وما زالت، تجنح إلى التنوع المقصود بدقة لإحداث الاستجابة المباغتة لمن يتصفحها. ومنذ صدورها الأول شُبِهت بالفرس الأصهب بين خيول كل الإصدارات العربية، ولا يزال صهيلها يتردد في أرجاء المنطقة وما عداها. التحية لـ االعربيب بالعربي، وبكل اللغات الحية، والتحية لطاقمها المتنوع الذي عبر بها وترك فيها عبقه، والتحية لطاقمها المقيم، والتحية لكل القامات التي تعاقبت على رئاسة تحريرها، ففي عيدها الستين تظل االعربيب حرفًا يزداد الوثوق به، وقيمة تفتح لها خزانة الوثائق.
كائن محسوس
رسمت «العربي» صورة واقعية زاهية لقرائها، وأصبحت رافدًا مهمًا ومؤثرًا في حيواتهم الثقافية والمعرفية، إلى الحد الذي جعل الناس يقبلون على اقتنائها بإفراط ومودة، ويستذخرونها في بيوتهم لتبقى حاضرة بينهم على مدى الأعوام، يرجعون إليها متى ما أرادوا.
يقول سمير برسي طه، ضابط اتصالات بحرية بميناء بورتسودان: درجنا منذ الصغر في مدينة عطبرة العمالية التي تفتقر إلى وسائل الترفيه المتعددة، أن يكون اهتمامنا منصبًا على «أكشاك» بيع الكتب المستعملة، لنشتري الروايات والقصص والمجلات المصورة بثمن بخس يتناسب مع مصروفنا المحدود، ويلبي شغفنا للاطلاع والتسلية.
وفي إحدى المرات، وأنا أتفرس في محتويات أحد الأكشاك لفت انتباهي عدد من مجلة العربي بغلافها المصقول وألوانها الزاهية، وكان ثمنها في متناول اليد، فاشتريتها بدافع الفضول، ومن واقع صغر سني واهتماماتي وشغفي، تخيرت الأبواب التي تناسبني وتلبي احتياجاتي المعرفية في حينها من قصة قصيرة، وأبواب الطرائف والاستطلاع المصور، ومن ثمّ وجدت نفسي أعود إليها مرارًا وتكرارًا لأجد نفسي اطلعت على جل ما فيها. وصرت رويدًا رويدًا أسعى إليها وأحرص على الاطلاع على مواضيعها، ثم تحول اهتمامي بها من مجرد اطّلاع إلى حب اقتناء، فأصبحت أحجز نسختي الشهرية من مكتبة «دبورة»، أكبر مكتبات مدينة عطبرة، وأسأل عن مواعيد وصولها بترقب شديد، لتصبح «العربي» اختيارنا الأول في مجال المجلات المصورة، خاصة بعد الإضافة الحلوة المتمثلة في «كتاب العربي»، و«العربي الصغير»، و«العربي العلمي»، وأصبحت المجلة من أيقونات مكتبتنا المتواضعة نعود إليها مرارًا وتكرارًا لنجد شيئًا جديدًا فاتنا الاطلاع عليه، أو لاسترجاع معلومة نحتاج إليها.
وما زلنا من عشاقها، رغم محدودية توزيعها وانتشار الوسائط الإلكترونية، لكن «العربي» عندما تكون بين يديك هي كائن محسوس ونبع من المعرفة المتجددة.
ثمرة فكر ثاقب
لما كانت مجلة العربي ثمرة من ثمرات الفكر الثاقب التي جنتها الشعوب، وأفادت منها خيرًا كثيرًا، أصبحت ضرورة وجودها كنسخة ورقية على مسرح الحياة الثقافية مع قدوم كل شهر أشد إلحاحًا من سابقه، لمست هذا في حديث زكريا محمد سيد) صاحب مكتبة لتوزيع الصحف والمجلات بالخرطوم بحري) : رحلتي مع «العربي» رحلة تاريخية طويلة، فهي من بين الصحف والمجلات التي كانت ترد إلينا في المكتبة منذ الثمانينيات، لقد لفتت انتباهي وأنا صغير، وورثتها في بداية التسعينيات عن أبي، رحمه الله، مع هذا المحل وأنا كبير، وما زلت أحتفظ بكمية كبيرة من أعدادها في المنزل وهنا، أعود إليها كلما وجدت فسحة من الوقت، شدتني موضوعاتها، ولا تشبع النفس من مطالعتها، خاصة «الاستطلاعات»، لأنها تتصل بطبيعة البلدان وحياة الشعوب.
«العربي» تحتل مكانة كبيرة، ولها رواج عالٍ، وأعدادها سريعة النفاد، لذا تجد غالبية قرائها يحرصون على الاشتراك أو الدفع المقدم، كما أنها تمثّل مرجعية لكثير من المهتمين والطلاب من الجنسين، خاصة الذين لديهم شغف للاطلاع والتوثيق، تبدى لي هذا في السؤال الدائم عن أعداد سابقة للمجلة بأرقامها وتواريخها. والغريب أنه حينما أدل البعض عليها في الوسائط الإلكترونية يستنكرون ذلك، وهذا يبرهن على أن الناس ألفوها مجلة ورقية، وبالطبع هذا يضمن لها الخلود في البيوت ورفوف المكتبات كقيمة أدبية ثقافية تتوارثها الأجيال.
يكفي دولة الكويت مجلة العربي؛ هذه العمارة الفكرية والأدبية والثقافية الباذخة، والتحية والتهنئة منا وفي كل الاتجاهات لكل الذين سعوا في تشييدها وتعميرها، والتحية والتهنئة لأسرة التحرير على امتداد سني صدورها على هذا الصمود الفولاذي، والتحية والتهنئة لقرائها أينما وجدوا ■